10/07/2009
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أمَّا بعد.. ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (هود: من الآية 88)، ومثلما كان جزاء أنبياء الله تعالى الذين جاءوا برسالة الإصلاح والعدل هذه التَّكذيب والعسف من جانب أقوامهم؛ فإنَّ جزاء الشُّرفاء من أبناء هذه الأُمَّة، من علمائها وساستها ورموزها الوطنيَّة النَّزيهة، هو الاعتقال والعسف والظلم.
إنَّ الإخوان المسلمين عندما نهضوا لأداء رسالتهم الإصلاحيَّة، سعيًا منهم لإنهاض الأُمَّة وإصلاح أحوالها؛ كانوا يعلمون تمامًا مدى صعوبة الطَّريق الذي يسيرون فيه، وما سوف يلاقونه من مشاقّ، مع مساس ما يدْعون إليه من إصلاحٍ وما يصاحبه من فعلٍ إيجابيٍّ بمصالح الكثير من قوى الفساد والاستكبار الدَّاخلي والخارجي، ليسارع نظام البطش والفشل والتسوُّل في الهجوم، مصادرًا حرياتهم، ومروِّعًا أمنهم ومغلقًا أبواب الرِّزق في وجوههم ووجوه أبنائهم وأبناء هذا الوطن؛ ممَّن وَجَدوا في مُؤسَّسات بعض أفراد الإخوان مصدرًا للكسب الحلال في زمنٍ عزَّت فيه الوظائف، وصَعُبَ فيه العيش؛ بسبب فشل الحكومة في توفير الحد الأدنى من العيش لمواطنيها، برغم أنَّ ذلك هو أوَّل أولويَّات أيَّة حكومةٍ تحترم نفسها وشعبها.
وفي حقيقة الأمر فعند بحث ما يتعرَّض له الإخوان اليوم من حرب مستعرة فإنَّنا لا يمكننا رده إلى عامل واحدٍ، بل أكثر من عاملٍ وأكثر من طرفٍ، يكوِّنون فيما بينهم تحالف الفساد والاستبداد والغرب (ممثلاً في المشروع الأمريكي الصهيوني) الذي يستهدف الإخوان المسلمين ودعوتهم.
العامل الأوَّل آتٍ من الخارج، فحكومتنا باتت تلعب دورًا أساسيًّا في تمرير سياسات التَّحالُف الأمريكيِّ- الصُّهيونيِّ في منطقتنا العربيَّة وفضائِنا الإسلاميِّ، وكان لموقف الإخوان المسلمين في أزمة العدوان الوحشيِّ الصُّهيونيِّ على قطاع غزة في ديسمبر ويناير الماضيَيْن، ودورهم السِّياسيِّ والإعلاميِّ في كشف وقائع الظُّلم الذي يتعرَّض له أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني في قطاع غزة المحاصر حتى الموت؛ دورٌ كبيرٌ في إزعاج واشنطن وتل أبيب، ولذلك صدرت الأوامر بالتَّحرُّك ضد الإخوان لإخماد صوتهم هذا.
كذلك كان للإخوان المسلمين في كلِّ مكانٍ دورهم الكبير في التَّصدي للاستعمار الجديد، ومواجهة قوى الاستكبار العالمي في مساعيها لغزو أمتنا، والاستيلاء على ثرواتها، واتخاذ بعض بلدانها قاعدةً لمشاريعها الاستعماريَّة العالميَّة، ولكن مشاريع الممانعة- والتي كان الإخوان في نسيجها- أفشلت هذه المُخطَّطات، ولذلك أيضًا كان لا بد من الرَّد، وكان الرَّد عن طريق الأتباع والأعوان في مصر وفلسطين وغيرها، ويمكن الرَّبط ما بين ما يجري في مصر من اعتقالاتٍ وعسفٍ بحقِّ الإخوان بما يجري في الضفة الغربيَّة من انتهاكاتٍ بحق عناصر المقاومة الشَّريفة، الذين يقبع منهم خلف قُضبان سجون السُّلطة أكثر من ألف مقاومٍ ومقاوِمةٍ.
أما العامل الثاني فهو عاملٌ داخليٌّ، يتعلَّق بالمخاوف الدَّائمة الموجودة لدى النِّظام الحاكم من جهود الإخوان الإصلاحيَّة، وأدوارهم في كشف الفساد ومحاولة معالجة صور الانحراف الموجود في مختلف مفاصل النِّظام وإداراته.
كما أنَّ فشل الجهود الدِّعائيَّة الرَّسميَّة في تقديم صورةٍ سلبيَّةٍ مخالفةٍ للحقيقة عن الإخوان أمام الرَّأي العام الداخلي والخارجي؛ دعا أركان النِّظام وسدنته في الأجهزة الإعلاميَّة والأمنيَّة إلى محاولة فاشلةٍ بدورها لتشويه صورة الإخوان النَّاصعة في الدَّاخل والخارج، ووصمهم بما ليس فيهم.
اتهامات باطلة
ولكنْ دعونا نراجع في هدوءٍ هذه "الاتِّهامات" التي دأب الإعلام الحكومي والأمني على توجيهها إلى الإخوان؛ منهم من قال بأنَّ الإخوان يدعمون الفلسطينيين المحاصرين في غزة (!!)، فهل هذه تهمة؟!، وإنْ كانت كذلك، فالإخوان لا ينكرونها.
الاتهام الآخر الموجَّه للإخوان المسلمين، هو غسيل الأموال!!!.. مبدئيًّا فإنَّ كل المبالغ التي قيل إنَّها ضُبِطَت في حوزة الإخوان المعتقلين في القضيَّة الأخيرة لا تزيد في مجموعها- بحسب التَّقارير الحكوميَّة- عن 12 مليون يورو، وهو مبلغٌ لا يكاد يُذكر بجانب الأرقام المهولة التي نهبها رجال الأعمال من البنوك المصريَّة في غضون العقدَيْن الماضيَيْن، والتي قدَّرها خبراء بعشرات المليارات من الجنيهات؛ كان لها تأثيرها السلبي الكبير على احتياطي مصر النقدي من العملة الأجنبيَّة، وعلى خطط التَّنمية الدَّاخليَّة.
وبينما تقوم الدَّولة الآن بمصالحة هؤلاء الهاربين بخيرات مصر وإعادتهم إلى البلاد لنهب المزيد من أموالها؛ تعتقل المزيد من رجال الأعمال الشُّرفاء الذين يؤدون دورهم الوطني، اقتصاديًّا واجتماعيًّا، في رفع المعاناة عن أبناء شعب مصر، وتقليص طابور العاطلين والفقراء الذي خلقته عقود من النَّهب والفساد والفشل في الأداء الرَّسمي.
مسئوليَّة الشرفاء
إنَّ الحيثيَّات التي تحملها القضيَّة الأخيرة ذات دلالاتٍ لا تخفى على أحد، وأولى هذه الدلالات أنَّ حرب النِّظام الحاكم ضد الشُّرفاء من أبنائه وصلت إلى حدِّها الأعلى، وأنَّه لم يُعد هناك استثناءٌ لأحدٍ منها، بما في ذلك الشُّرفاء العاملون على خطوط المواجهة الأولى في أزمات الأُمَّة، وهم مسئولو الإغاثة في اتحاد الأطباء العرب وفي نقابة الأطباء وغيرها من المواقع، والذين كانوا خير سفراء لوطنهم وأمَّتهم.
نريد أن نضع بين يدي الجماعة السِّياسيَّة والوطنيَّة في مصر والرَّأي العام المصري مجموعةً من الأمور؛ منها أنَّ الكل معنيٌّ بما يجري، وأن النظام الحاكم دخل منذ فترة في خصومة مع كافة شرائح المجتمع: الطلاب وأساتذة الجامعات والصحفيين والمحامين والأطباء.. إلخ، لا يُستثنى من ذلك أحدٌ.
إنَّ القضيَّة عامَّة وليست خاصةً بالإخوان فحسب؛ فاعتقال رموز الجماعة وشرفاؤها رسالةٌ مُوجَّهةٌ إلى الشعب المصري في محاولةٍ لتفزيعه وتخويفه وإرهابه، ثم هي موجهة أيضًا إلى الجماعة السِّياسيَّة المصريَّة والقوى الوطنية كلها، التي تعاني أحزابها ومُنظماتُها المدنيَّة- بما فيها النَّقابات والمُؤسَّسات الحقوقيَّة- من وطأة سياسات النِّظام وقبضته الأمنيَّة، التي تُكرِّس أوضاعًا بعينها لمصلحة هذا النِّظام، وتسعى لصياغة عنوان المرحلة القادمة الذي يتلخَّص في الانفراد بالقرار وإسكات المعارضة، مع اقتراب مصر من مرحلةٍ مفصليَّةٍ من تاريخها.
فالعام القادم 2010م سوف يشهد انتخاباتٍ تشريعيَّةً لاختيار أعضاء مجلس الشَّعب المصريِّ، وأخرى لاختيار نصف أعضاء مجلس الشُّورى، وفي العام الذي يليه تشهد مصر انتخاباتٍ رئاسيَّةً قد تكون واحدةً من أهم الأحداث السِّياسيَّة في تاريخ مصر الحديث، وبالتالي فإن الجماعة الوطنية المصرية في مدعوَّةٌ إلى توحيد جهودها في المرحلة القادمة لمواجهة القمع الذي يمارسه النظام لتمرير مخططاته.
إنَّ عوامل نجاح جهود الجماعة الوطنيَّة والسِّياسيَّة الشريفة في مصر- إذا ما اتَّحدت- كثيرةٌ، فيكفي عدالة القضيَّة، ويكفي القواسم المشتركة التي تجمع الإخوان مع المعارضة والمستقلين والشُّرفاء من أبناء هذا الوطن، مثل الرَّغبة في تحقيق استقلال الوطن الحقيقي، ورفض الهيمنة والنُّفوذ الأجنبيِّ، والسَّعي إلى تحقيق التَّنمية الحقيقيَّة لصالح المجتمع، وفق مبادئ العدالة الاجتماعيَّة، ومحاربة الفساد، وتحقيق الحٌرِّيَّات العامَّة والإعلاء من قيم الدَّولة المدنيَّة والمواطنة واحترام حقوق الإنسان، في إطار مبادئ الإصلاح السِّياسيِّ والشَّامل.
وباء عام!!
لقد بذلت الأنظمة الحاكمة في العالم العربيِّ والإسلاميِّ جهدًا كبيرًا لتخويف الرَّأي العام والنَّاس من الشُّرفاء، مستعينةً في ذلك بآلةٍ إعلاميَّةٍ تفاعلت للأسف مع مرامي السُّلطة؛ تحقيقًا لمصالح ضيقةٍ لأقلامٍ سوداء، تمثِّل أقليَّةً ضئيلةً ضالَّة في بحرٍ من أبناء الوسط الإعلاميِّ الشُّرفاء.
إنَّ الإخوان المسلمين يثقون في جماهير الشعب المصري والأمة العربية والإسلامية، وإن هذه الجماهير لديها من الوعي والذكاء الاجتماعي وفهم الواقع ما يجعلها تفرق بين الصالح والطالح، بين الطيب والخبيث، وإن الإخوان يبذلون عن طيب خاطر من مقدَّرات حياتهم وأقواتهم وحرياتهم ثمنًا لإصلاح حال الوطن ونهضة الأُمَّة.
فليس في تاريخ الإخوان المسلمين ما يُشير إلى تطرُّفٍ أو إلى نزعة عدم وطنيَّة أو نزعةٍ ذاتيَّةٍ، وليس من الإخوان المسلمين من اتُّهِمَ في قضايا فسادٍ أو انتهاكات حقوق إنسانٍ أو في قضايا خيانةٍ عظمى، بل إنَّ خصومهم هم من ينهبون ويفسدون ويضيِّعون ثروات الأُمَّة, وهم الأولى بأنْ يُحاكَمُوا على جرائمهم هذه.
إنَّ استثناء الإخوان المسلمين ومحاولة إقصائهم من العمل العام والحياة السِّياسيَّة؛ لا يجلب للوطن والأُمَّة سوى التَّراجُع والمزيد من الخسارة.
إنَّ الإخوان المسلمين يمثلون ركيزةً أخلاقيةً وإيمانيةً لازمةً وضروريةً لتماسك ومناعة وأمن واستقرار المجتمع الذي يعيشون فيه.
وعلى الرغم من ذلك تُشَنُّ الحرب على الإخوان ويُزُجَّ بالآلاف منهم في السجون، وتتعطل الدِّيمقراطيَّة والتَّنمية، ويتم تشويه سمعة مصر في الخارج؛ بسبب انتهاكات حقوق الإنسان ومُمارسات النِّظام التَّعسفيَّة ضد كلِّ منافذ العمل الوطني، غير أننا ماضون على درب هذه الدعوة مهما كانت العقبات.
واجب الوقت
إنَّ ما يجري من مؤامراتٍ يفرض على الجميع أنْ يعمل على شحذ الهِمَمِ، وأنْ يتصدَّى بكلِّ عزم للفساد والقهر والظلم والعدوان، مهما كانت صوره، والشُّعوب بقواها الحيَّة لديها من الطَّاقات الكامنة التي إذا امتلكت إرادة الفعل، ما يجعلها قادرةً على إحداث التغيير المنشود، وأن ذلك ربما يتطلب منها بذلاً وعطاءً وتضحية وفداء.
وفي النهاية نقول لرفقاء درب الإصلاح عامةً وللإخوان خاصةً: إن أمتكم على أعتاب مرحلة جديدة، وإن سعي الناس شتَّى، فأما من ثابر وصبر فتلك شيم أصحاب الدعوات الإصلاحية، يستصغرون في سبيل الحق كلَّ ابتلاء مهما كان ألمه، ونذكِّر بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).
أيها الإخوان..
مطلوب منكم مزيدٌ من تلاحم الصف، وحسن صلتكم بربكم، ونشاط يعمُّ القاصي والداني؛ حتى يعلم كل صاحب لبٍّ حقيقة دعوتكم، فتجمع روحكم شتات الأماني، ويواجه حماسكم طوفان اليأس الذي يسعى الاستبداد لزرعه في نفوس أمتكم.. وليكن نصركم لإخوانكم في سجون الظلم ألاَّ تتقهقر مسيرتكم في العمل على إظهار الحقائق للأمة، شارعين في وجه رياح الظلم قول رب العزة جل وعلا: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران: 172)، وإنما النصر صبر ساعة وما ذلك على الله بعزيز.
والله أكبر ولله الحمد، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، والحمد لله رب العالمين.