26/03/2009
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه
وبعد فإن من أهم حقائق الإيمان التي يهتم المنهج الإسلامي بغرسها في نفوس المؤمنين: الخوف من الله تعالى دون ما سواه.
الخوف من الله يضبط السلوك الإنساني:
إن رجحان جانب الخوف من الله في قلب المؤمن هو وحده الذي يعصم من فتنة هذه الدنيا، وهو الذي يضبط تصرفات الخلق، وهو الذي يضبط المعيار والميزان في النفوس، فهو أصل كل خير في الدنيا والآخرة.
وصدق إبراهيم بن أدهم إذ يقول: «الهوى يُرْدِي، وخوفُ الله يشفي، واعلم أن ما يزيل عن قلبك هواك: إذا خفت مَنْ تعلم أنه يراك».
وقد تنبه لهذا وول ديورانت صاحب (قصة الحضارة) فقال: «الأمم لا تتحضّر أبداً إلاَّ بالدين؛ لأن الخوف من الله الذي يرى كل شيء والقادر على كل شيء، هو وحده - أي هذا الخوف - الذي يضبط النزعات الفردية المتمثلة في الرغبات البشرية، والدين مصاحب لمولد كل الحضارات، وغياب الدين نذير بموتها».
وهذا صحيح، فبدون الخوف من الله لا يصلح قلب، ولا تصلح حياة، ولا تستقيم نفس، ولا يُهذَّب سلوك.
فلا يحجز النفس البشرية عن ارتكاب المحرمات من زنى وبغي وظلم واعتداء وعنصرية غير الخوف من الله، ولا يهدئ فيها سعار الشهوات وجنون المطامع غيرُ الخوف من الله، ولا يردع الإنسان عن التقصير والخيانة إلا الخوفُ من الله سبحانه، والعلمُ بأنه مطلع على كل ما نعمله بل وعلى ما تخفيه الأنفس.
إن مما ينبغي ألا يتجاهله المنصفون: أن المسئول الذي لا يعرف الخوفُ من الله طريقاً إلى قلبه؛ سوف يسرق ويظلم ويفسد، ويحتكر وينهب ويدمر البلاد والعباد.
وهل منع يوسفَ عليه السلام من الوقوع في الفاحشة إلا خوفُه من الله، فقال لامرأة العزيز: ( معاذ الله إنه ربى أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ) [يوسف/23]
وكلنا نذكر قصة عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه، مع الفتاة التي رفضت أن تطيع أمها التي أمرتها بغش اللبن باعتبار أن عمر لا يراهما، فقالت البنت:ُ أي أماه فأين الله؟ واللهِ ما كنتُ لأطيعَه في الملا، وأعصيه في الخلاء.
فإذا انعدم الخوف من الله انقلب الإنسان وحشا كاسرا لا يحجزه عن الشر رادع، وصارت القوة والحيلة وبالا على صاحبها وعلى الدنيا كلها، إذ يستخدمها في الظلم والاستيلاء على بلاد وأموال الآخرين، والاعتداء على أعراضهم، وإنكار حقوقهم، والتعالي عليهم.
الخوف من الله يقوي القلب ويحرر النفس من الخوف من الخلق:
قال المحاسِبِيِّ: «كلما عَظُمَتْ هيبةُ اللَّه عزَّ وجلَّ في صدورِ الأولياء، لم يهابوا معه غيره؛ حياءً منه عزَّ وجلَّ أن يخافوا معَهُ سواه».
وذكر الحكماء أن علامة خوف الإنسان من الله: أن يؤمِّنه خوفُه من كل خوفٍ غير خوف ربه تبارك وتعالى.
وهذا صحيح تماما، فالذي يخاف الله يتحرر قلبه من الخوف من كل ما سوى الله، وإلا فما الذي يثبِّت المؤمن في المعركة بين الحق والباطل وبين الخير والشر سوي يقينه بأن الأمر كله بيد الله؟ وما الذي يثبت الإيمان عند الإنسان رغم الأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضم الهائج إلا الرغبة في جزاء الله، والخشية والخوف مما أعده الله من العذاب المقيم لمن خالف أمره وعصاه؟.
إن الخوف من الله هو الذي يجعل صاحبه يفعل الطاعة والخير حتى ولو كان فيه حتفه وعطبه.
فذلك المجاهد الذي يخوض المعارك، ما جاء للمعركة وهو يعتقد أنه خرج في نزهة أو سياحة، بل كان يعلم أنه ذاهب إلى ميدان حرب، ولكنه يعلم يقينا أن استشهاده وتضحياته إن كان صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر هي التي يدخل بها الجنة برحمة الله وفضله.
ولن يخاف الإنسان غير الله إلا لمرض في قلبه، وقد شكا رجل إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة فقال: «لو صححت لم تخف أحدا» أي خوفك سببه زوال الصحة من قلبك.
فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين:
لهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه لم ترهبهم تهديدات قريش بعد انتهاء غزوة أحد، فقد كتب علماء السيرة أن أبا سفيان وجموع قريش أرادوا أن يدخلوا الرعب والخوف في قلوب المسلمين، فقالوا لركب من عبد القيس مروا بهم في طريقهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه ، لنستأصل بقيتهم . فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان فقال : حسبنا الله ونعم الوكيل .
وفي صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا ( إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) .
وبقي هذا الدرس للأمة كلها درسا حيا متجددا من خلال آيات القرآن التي خلدته، إذ قال تعالى ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم . إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) [آل عمران/173، 175].
الشيطان يخوف أولياءه:
معنى هذه الجملة: أن الشيطان يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين، أو المعنى: أن الشيطان يخوف أولياءه الذين يطيعونه ويؤثرون أمره، فأما أولياء الله، فإنهم لا يخافونه إذا خوَّفهم ولا ينقادون لأمره، أو المعنى: أن الشيطان يخوف المؤمنين من أوليائه أهل الكفر والضلال.
فالشيطان يضخم من شأن أوليائه، ويظهرهم بمظهر القوة والقدرة، ويوقع في النفوس أنهم ذوو قوة باطشة جبارة، وأنهم يملكون النفع والضر. ذلك ليحقق بهم الشر والفساد في الأرض، وليُخضِع لهم الرقاب، ويُطَوِّع لهم القلوب، ويوهمهم أنه لا تستطيع قوة معارضة أن تقف في وجههم، حتى لا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار، ولا يفكر أحد في مواجهتهم أو دفعهم عن الشر والفساد.
وإن من أكبر أعوان الشيطان في تحقيق هذه الأغراض الدنيئة ذلك الطابور الخامس الذي يقوم بعملية التخذيل والتثبيط والتخويف، وضرب مناعة الأمة، وإضعاف قوتها النفسية، وإشاعة الانهزام في صفوفها.
فتحت ستار الخوف والرهبة، وفي ظل الإرهاب والبطش يفعل أولياء الشيطان في الأرض ما يقر عينه! يبدِّلون القيم، ويروِّعون الآمنين، وينشرون الفساد والباطل والضلال، ويخنقون صوت الحق والرشد والعدل، ويقيمون أنفسهم آلهة في الأرض، تحمي الشر وتحارب الخير، دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم، بل دون أن يجرؤ أحد على كشف الباطل الذي يروجون له وجلاء الحق الذي يطمسونه.
ومن هنا يعرِّف الله المؤمنين الحقيقة، حتى لا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم. فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه ويستند إلى قوته، فقال تعالى ( فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) أي إذا خوفكم الشيطان بهم أو منهم فتوكلوا عليَّ والجأوا إليَّ، فإني كافيكم وناصركم عليهم، يعني أن الإيمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس.
إن القوة الوحيدة التي تُخشَى وتُخاف هي القوة التي تملك النفع والضر، هي قوة الله، وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله، وهم حين يخشونها وحدها لا تقف لهم قوة في الأرض، لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان.
وهذا المعنى كرره القرآن كثيرا ليربي المؤمنين عليه، فقال تعالى ( وإياي فارهبون ) [البقرة/40]، وقال ( فلا تخشوا الناس واخشون ) [المائدة/44] وقال ( ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ) [التوبة/13]
وبهذه الروح انطلق المسلمون يشيدون حضارة عظيمة، ويقيمون خلافة راشدة ملأت الدنيا عدلا، ويطهِّرون الأرض الشرور التي ملأتها، ومن أولياء الشيطان الذين أرادوا منع الحق من الحياة.
يذكر المؤرخون أن رجلا من روم العرب قال لخالد بن الوليد حين قدم إلى الشام مغيثاً لأهل اليرموك: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد: ويلك، أتخوفني بالروم؟ ما أقل الروم وأكثر المسلمين! إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان؛ لا بعدد الرجال. والله لوددت أن الأشقر (يعني فرسه) بريء من توجُّعه وإنهم أضعفوا في العدد -وكان فرسه قد حفي في مسيره واشتكى في مجيئه من العراق- فهزمهم الله على يديه.
ويخوفونك بالذين من دونه:
لا يزال الشيطان وأعوانه من المنافقين يخوفون المؤمنين من أوليائه أهل الضلال، على كل المستويات محليا ودوليا، مستغلا كل وسائل الإعلام الحديثة في إشاعة روح الانهزام في الأمة وشبابها.
فعلى مستوى العالم الإسلامي والعربي: نرى من بيننا من يروج للعصر الأمريكي وللقوة الأمريكية والغربية القاهرة، ويدعونا للاستسلام لقيمها الباطلة، وللتسليم بسيادتها العليا، في الوقت الذي تنهار فيه هذه القوى اقتصاديا بفعل الظلم والربا والفساد، وتنال فيه جيوشها الجرارة الضربات تلو الضربات من المجاهدين الأشداء في العراق وأفغانستان. وفي الوقت الذي تتعثر فيه هذه القوى في الخروج من الأزمة التي صنعتها سياساتهم المالية الفاسدة، وتتوالى فيه اعترافات الإدارات الغربية والأمريكية المتتالية بالفشل وعدم القدرة على حسم معاركها في مواجهة جنود الحق الذين لا يخافون إلا الله؛ نرى من بعض الكتاب مدعي الثقافة والاستنارة من يدعو الأمة للرضوخ لأعدائها والتسليم بالهزيمة والذوبان في القيم الفاسدة التي يسعون في نشرها، ونقول لهؤلاء ما قال الله عز وجل للذين أرادوا تخويف المؤمنين (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ) [الزمر/36، 37].
وعلى مستوى قضية الأمة المركزية قضية فلسطين: نرى من بين قومنا من العرب والفلسطينيين من يدعي الواقعية، ولا يكتفي بالتخلي عن الحقوق العربية والفلسطينية الأصيلة ومناصرة المجاهدين، بل يدعو الأمة والمجاهدين لإلقاء السلاح والتسليم للكيان الغاصب بما تحت يده، والرضا بالفتات الذي يتفضل بمنحنا إياه، ويصف المقاومة لهذا العدوان الأثيم بالعبثية، مغمضا عينيه عن الانتصار الرائع الذي حققه المجاهدون الذين لم يخافوا في الله لومة لائم، ولم ترهبهم قوة العدو ولا جيشه (الذي لا يقهر كما زعموا).
وإذ يخوفنا هؤلاء المستسلمون باستئصال العدو لرجالنا ونسائنا وقرانا وبيوتنا، فإن المجاهدين يرددون ما عنترة بن شداد يردده:
بكرت تخوفني الحتوف كأنني ... أصبحت عن عرض الحتوف بمعزل
فأجبتها إن المنيـــــــــــة منهـل ... لابد أن أسقى بــــــــــــــذاك المنهــل
فاقنى حياءك لا أبــا لك واعلمي ... أنى امرؤ سأموت إن لم أقتل
وإن تعجب فعجب من أولئك المخذِّلين ومن إخوانهم من اليهود الذين يطالبون المقاومة المجاهدة في فلسطين بانتهاز الفرصة والرضا بما يقدمه المجرم أولمرت في صفقة شاليط، قبل أن يأتيهم المجرم نتنياهو الذي يخوفونهم بأنه لن يستمر (!) في التفاوض ولن يقدم ما قدمه سلفه في الإجرام!
ولا يدري العقلاء ما الذي يمكن أن يفعله نتنياهو وتورع عن فعله أولمرت !؟ والأدوات هي الأدوات! والجيش المهزوم هو ذاته الجيش الذي مرغت أنفه كتائبُ المجاهدين على أرض غزة، وقبل ذلك على أرض جنوب لبنان! وكلها بشائر بقرب زوال هذا الكيان اللقيط بإذن الله.
وعلى مستوى الواقع الفكري على امتداد الساحة الإسلامية: نرى حربا شرسة ضد الفكرة الإسلامية والدعاة إليها، الذين لا توفر الحكومات المستبدة الفرص من غير التضييق عليهم وعلى دعوتهم والزج بهم في المعتقلات والسجون، وفصلهم من أعمالهم، والتضييق عليهم في معايشهم، واستغلال كافة أجهزة الأمن في مواجهتهم، في الوقت الذي تتراخى فيه تلك الأجهزة عن مواجهة انتشار المخدرات والجرائم الأخلاقية والاقتصادية، وتعطي الضوء الأخضر للمفسدين للاستمرار في فسادهم وإفسادهم.
وإذا كانت أجهزة ما يسمى بأمن الدولة مهمتها حماية أمن الأمة فإن واقعها ينطق بأنها صارت أجهزة لتلفيق التهم للشرفاء، وأداة لمواجهة الوطنيين الأوفياء، ووسيلة للضغط على المخلصين من أبناء الأمة، ومما يندى له جبين كل حر في هذا الوطن الغالي ما فعله هذا الجهاز من اتهام الشرفاء بمساعدة إخوانهم في فلسطين، ومحاولة منع الشعب من التعبير عن مساندته للمضطهدين والمحاصرين في غزة، بل اجتهد في ملاحقتهم بالقضايا المخجلة والمزيفة، ليرهب الناس من الالتفاف حول قضية فلسطين، قضية العروبة والإسلام .
ونقول لكل أولئك المخوفين ( أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد . ومن يهد الله فما له من مضل ، أليس الله بعزيز ذي انتقام ) [الزمر/36، 37].
تحية لأم الفحم: مدينة أم الفحم مدينة عربية أصيلة تجري فيها دماء العزة والكرامة، لم يرهبها الهجوم الصهيوني العنصري البربري الذي حاول اقتحام المدينة وتهجير أهلها، فأبوا إلا الاستمساك بحقهم، وقادت الحركة الإسلامية بقيادة الشيخ رائد صلاح وإخوانه جماهير أهل الفحم في مواجهة هذا العدوان الأثيم، غير هيابين ولا خائفين؛ حتى أجبروا قطعان المستوطنين والقوة الحامية لهم على الهرب، وهم يستحقون تحية تقدير وإكبار ومساندة، وإنه لنصر قريب إن شاء الله.
وفي الختام: فإن الإخوان المسلمين يدعون حكام الأمة إلى مراجعة البوصلة، وعدم الخوف إلا من الله القوي القاهر، والتحرر من الخوف من كل أولياء الشيطان في هذا العالم، واختيار طريق الحق والعدل والتفاعل مع الشعوب، واستلهام قيم الإسلام والإيمان التي تحقق العزة والشرف والسيادة في الدنيا، والفرح والنعيم يوم الدين.
كما ندعو الإخوان المسلمين وسائر المسلمين في كل مكان إلى مراقبة الله عز وجل، وتقديم الخوف منه على الخوف مما سواه، ومراقبته في السر والعلن، والتحرر من كل صور الخوف من الخلق، والالتفاف حول المشروع الإسلامي والمنهج الإسلامي الذي لا سبيل لعزة الأمة سوى الاستمساك به والتفاعل الجاد والإيجابي معه، وانتظار يوم النصر، وما هو عنا ببعيد.
والله أكبر ولله الحمد
القاهرة في : 29 من ربيع الأول 1430هـ الموافق 26 من مارس 2009م