12/03/2009
تذكِّرنا الهجمةُ القاسيةُ والبالغةُ الشدَّةِ على الأمة الإسلامية بمخازي الغزو والقهر والهيمنة التي حاقت بالأمة على مدى ما يقرب من قرن من الزمان، فما يحدث في واقعنا الآن هو امتدادٌ وترجمةٌ واقعيةٌ لأهداف الغرب لتفكيك عرى الروابط بين مكونات الأمة وإبعاد الإسلام عن القيام بدوره الإصلاحي والاجتماعي والسياسي.
وفي هذه الأيام تحاول الدول الغربية تركيع النظم والشعوب الأبية والصامدة، وتتداعى لأجل العدوان عليها، فمنذ ما يقرب من عشرين عامًا على سبيل المثال بدءوا التغرير بالعراق والفتك به، وإدخاله في صراعٍ مذهبي وطائفي، وها هو العدوان على الشعب الفلسطيني في غزة لم تندمل جراحاته ومآسيه، والآن يتربَّصون بالسودان، ليس السودان الأرض والجغرافيا فحسب، ولكن السودان التاريخ والثقافة والهوية ومكوناته الإفريقية العربية الإسلامية.
أساس الصراع
إن الهجمة شديدة القسوة على السودان والسعي لاغتيال رموزه سياسيًّا ومعنويًّا؛ هي نتيجة استعصاء النظام السوداني ورفضه القبول بالهيمنة الأجنبية، وسعيه الدائم لتثبيت دعائم مشروع حضاري لا يروق للغرب في أوروبا وفي أمريكا، فإن صمودَ الرئيس عمر البشير ونظامه بمرجعيته الإسلامية يعتبره الغرب مبرِّرًا كافيًا للعدوانِ، وانتهاكِ سيادة الدولة، وفرضِ الوصاية الدولية على الشعب السوداني، وانتقاصِ حقِّه في التعبير عن تطلعاته وأمانيه بحرية وعدالة.
لقد جاء قرارُ اعتقال البشير ليكشفَ الحقائق ويضعَ الأمور في نصابها، فإن صدور هذا القرار هو ترجمةٌ حيَّةٌ ومنطقيةٌ للسياسات الغربية تجاه العالم الإسلامي، هذه السياسات التي تسعى لإحداث فوضى في المجتمعات وزعزعة لاستقرارها، فليس من المستغرَب أن يتداعى التوتر والقلق والتدخل الأجنبي العنيف على المجتمعات الإسلامية، ليس فقط السودان والصومال، ولكن يضاف إليها فلسطين والعراق وأفغانستان وباكستان، ولعلنا نتذكر أن هذه المناطق كانت مراكز إشعاع حضاري ساهمت في نهضة البشرية.
إن الصراع الدولي حول "دارفور" هو صراعٌ متعددُ الأبعاد لا يقتصر فقط على الهمَّة في نهب الموارد الطبيعية الظاهرة والكامنة في هذه البلاد، ولكنه صراعٌ حول الهويَّة لأجل تغريب ليس فقط أهل دارفور ولكن كل طوائف الشعب السوداني، ووضع حواجز بينها وبين الإسلام وفصلها عن الانتماء لجيرانها الشماليين عبر العديد من المشروعات السياسية، عبر ما يسمَّى التحوُّل الديمقراطي الذي انتُهِكت باسمه حقوق الإنسان، وجرى التدخل في الشئون الداخلية للدول تحت مظلته.
نهب الموارد
إن رؤيتنا للهجمة الغربية من منطلق حضاري لا تعني إهمال أو تجاهل الأهداف الأخرى للدول الغربية، فيدلُّنا نشاط الشركات الأوروبية والأمريكية العاملة في السودان وفي إفريقيا على مدى الاستلاب الذي تتعرَّض له الشعوب في هذه المناطق، فهذه الشركات- وبدعمٍ من دولها- تحتكر النشاط الاقتصادي في الصناعات الإستراتيجية والحيوية وتحرم السكان من جني عوائدها.
إننا نرى أن دعم الدول الغربية لنهب ثروات الشعوب هو سياسةٌ منظَّمةٌ للإفقار والحرمان من عناصر ومقومات النهضة، هذا الوضع لا يحدث في السودان فقط، ولكن أيضًا في دولة نيجيريا التي يُحرَم سكانها من الاستمتاع بعوائد النفط، وينطبق أيضًا على مناطق زراعة البنِّ والمطَّاط في غرب إفريقيا.
ما أشبه الليلة بالبارحة!
إن التداعي الدولي على السودان ومنذ عام 2004م يكشف عن جانب كبير من التواطؤ والمؤامرة الدولية، فلقد نال السودان وحده خلال تلك الفترة اهتمامًا غير عادي، فقد أصدر مجلس الأمن أحد عشر قرارًا خلال هذه الفترة، عكست هذه القرارات وما لحق بها من سياسات ومؤامرات استهداف تفتيت دولة السودان ووقوعها في صراعات عرقية وطائفية.
إن ما يحدث من تواطؤ دولي في هذه المرحلة لا يختلف، بل يتطابق مع التواطؤ الدولي في مؤتمر برلين (1884)؛ الذي أدَّى إلى تكالب الغزو الأوروبي على إفريقيا، فهذا المؤتمر قسَّم إفريقيا وأخضعها لمصالح الاستعمار ومشاريعه الثقافية والفكرية، وهو ما يذكِّرنا أيضًا بالاستعمار البرتغالي الذي دمَّر الحواضر الإسلامية وبدأ مشاريع وسياسات فرض التنصير على الشعوب الإفريقية.
هذه هي ذات السياسة التي تمارسها اليوم أمريكا وأوروبا؛ فهي من ناحية تدعم عمل الكنائس في إفريقيا، وتتيح لها حرية التحرك، فيما تعمل على وقف أنشطة الجمعيات والمنظمات الإسلامية تحت دعوى مكافحة ما يسمى "الإرهاب"، وهذا ما نعتبره نوعًا من التضليل والخداع.
ازدواجية المعايير
وإزاء هذا الوضع نستطيع أن نقول إن ازدواجية المعايير لم تعُد قاعدةً أو مبدأً فقط، بل هي عقيدة وأساس التوجهات والمواقف الغربية.. هذه العقيدة التمييزية والتي تستبعد الآخر ولا تقبل به طرفًا أو شريكًا، بل إنها لا تعترف به أصلاً.. هذه العقيدة باتت تشكِّل وتصبغ كل التصرفات والسياسات، فهناك ازدواجية على مستويات عديدة على مستوى الدول والشعوب والأفراد.
تهويد القدس
وفي الوقت الذي تستعر فيه الهجمة على السودان لا يتوقف الكيان الصهيوني عن التوسع في عمليات تهويد القدس (عاصمة الثقافة العربية عام 2009م)، فبالإضافة إلى اغتصابه أرض فلسطين فإنه يحاول ويسعى لاغتصاب ما تبقَّى منها، وبطريقةٍ لا تقل فظاعةً عما ارتكبه من جرائم منذ أن وَطِئَت أقدام الصهاينة الأراضي الفلسطينية.
إن ما يحدث الآن من طرد لسكان القدس الشرقية من مساكنهم وبيوتهم هو مصادرةٌ للحق في العيش الآمن، ومصادرةٌ للحق في السكن، ومصادرةٌ للحق في الوطن، ورغم هذه المآسي ورغم ادِّعاءات الغرب بحماية حقوق الإنسان لم نجد الدول الغربية أو الشرقية تأخذ خطوةً واحدةً حيال ما يحدث من انتهاكات بشعة، هذا في الوقت الذي ثارت فيه همَّتها إزاء النظام السوداني، وهذا ما نعتبره تقويضًا لمبدأ العدالة.
واجبات الأمة
إننا لن نعوِّل كثيرًا على الغرب أن ينصفنا وإخواننا، أو ينصف إسلامنا العزيز علينا، وإنما أردنا أن نضع الأمور في نصابها، ونوضِّح حقيقة ما يجري وما يحدث، وهذا ما يُلقي علينا تبعة التحدي والمسئولية.
لقد استطاع الاستعمار غزو بلداننا والعبث بثقافتنا وتهديد أمننا؛ بسبب تفرُّقنا وتخلُّفنا العلمي، فلا بد من العمل على توطيد أواصر الوحدة وتطوير سياسات النهضة الاجتماعية والسياسية.
هذه القضية تعدُّ من الضروريات التي تقتضيها المرحلة الحالية، فالعالم الإسلامي يقف على عتبة تغييرات كبيرة وتتوافر لديه الإمكانات والموارد.
إن القضية الأساسية التي تشغلنا هي قضية التحرر من الغزو الاستعماري الجديد وتعزيز الاستقلال الوطني ومقاومة سياسات النهب والاستلاب، والتمسك بالهوية الإسلامية، والعمل على تطوير حركة تحرر تستند إلى المشروع الحضاري الإسلامي الذي يراعى حقوق غير المسلمين.
ولذلك فإن على الشعب السوداني وقواه الفاعلة العمل على تماسك الجبهة الداخلية، فضلاً عن ضرورة التحرك السريع لجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي للعمل بشكل متضامن للخروج من الأزمات والتوترات التي تحيق بالمنطقة كلها وليس بدولة السودان وحدها، وإننا ندرك أن هناك عقباتٍ ستواجه الجميع في المرحلة الحالية، ولكنَّ عظم التحديات يفرض علينا التوحُّد والتمسك بهويتنا وحضارتنا.. ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) (آل عمران: من الآية 200).
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.