22/12/2010
تأخذك حيرة وأنت تكتب عن شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم المعروف بابن تيمية، لتتفق حيرتك مع القلق والاضطراب الذي ميز عصره، فقد ولد ابن تيمية الحراني الكردي الأصل سنة 661 هـ (1262م) بعد خمس سنوات من سقوط الخلافة العباسية سنة 656 هـ (1258م) على أيدي التتار.
واضطرت أسرته بقيادة والده الفقيه إلى الهجرة نحو دمشق وابن تيمية حينها لم يتم السابعة من عمره، وكانت ذاكرته مزدحمة بصور الخراب والدمار الذي خلفه التتار.
لم يلبث والده بعد استقرارهم في دمشق أن اعتلى كرسي التدريس بالجامع الأموي، وفيها واصل ابن تيمية تعليمه وكان قد حفظ القرآن وقرأ على شيوخه، وحفظ العشرات من دواوين السنة والكثير من المؤلفات في علوم متنوعة.
وبسبب سعة ما حصله من العلوم في مختلف الفنون جلس للفتيا وهو دون العشرين من عمره، ثم خلف والده في التدريس بعد وفاته عندما ناهز الثانية والعشرين.
كان ابن تيمية كما وصفه معاصروه من أمثال تلميذه المؤرخ الكبير والناقد الفذ في علم الرجال الحافظ الذهبي، فذا في كل شيء: في الحفظ والعلم والمناظرة والتأليف والعبادة والعمل والجهاد. ورغم أنه لم يصنف كتبا كاملة التبويب في الفقه فإنه تحدث في كل مسائل الفقه وهو يناقش واقعه ويجيب على تساؤلات الناس التي كانت ترد إليه من كل حدب وصوب.
الحروب الصليبية
يعتبر عصر ابن تيمية حلقة في سلسلة الحروب الصليبية وكان بين الحملتين السابعة والثامنة، كما شاهد الاحتراب الداخلي بين المماليك المسلمين، والتآمر مع الصليبيين وغيرهم من الغزاة.
وعايش الشيخ تراجع الاجتهاد بل توقفه وانتشار التقليد ورضا النبهاء من أهل عصره بجمع المختصرات وحفظ أقوال العلماء السابقين دون تحليل وتفكير عميق حول النصوص، كما عاصر سيطرة الفكر المذهبي على الفتوى، وانتشار التعصب وإغلاق أفق التفكير والنظر أمام سيل المسائل والمشاكل.
وعانى كغيره من الظلم والاستبداد، لكنه لم يكن كأكثر معاصريه يقبل الركون إلى الواقع، بل كان متوترا متحفزا لما يدور حوله. وكان لتوتر عصره واضطرابه تأثير بيّن عليه، فما بين احتلال للأرض واضمحلال للفكر والثقافة انتفض ابن تيمية حتى لم يترك له صديقا، فكثر مناوئوه وتعدد خصومه.
وقد انشغل بأمر المستعمر فألف كتبا بيّن فيها أحكام الجهاد وباتت مرجعا فقهيا وفكريا إلى يومنا هذا، كما انتدبه أهل الشام للتفاوض مع غازان سلطان التتار في مدينة النبك شمال دمشق فأسمعه -بحسب المصادر- كلاما يصعب على أكثر العلماء التفوه به فما بالك بأمة مغلوبة، وشدد معه في الكلام حتى قال له "لقد كان أبوك وجدك كافرين وأنت تدعي الإسلام وكانا أوفى منك للعهد".
ولما لم يجد نفعا من مفاوضة غازان واستمراره في نقض العهد والأمان، حرض ابن تيمية على الجهاد وأفتى بوجوب رد الصائل، فكانت فتواه المشهورة بذلك، وحث المسلمين في مصر والشام وبادية العرب بعدما قابل أميرهم مهنا بن عيسى الطائي الذي وافق على قتال التتار.
وانتهى جهد ابن تيمية في اجتماع المسلمين في شقحب جنوبي دمشق سنة 702 هـ (1302م)، وبجرأة تضاد طباع عصره أفتى بالإفطار وكان الحال رمضان، وشجع الأجناد على ذلك بالأكل أمامهم، لتنتهي المعركة بعد يومين بهزيمة كبيرة للتتار، وكان الناصر بن قلاوون حينها سلطان المماليك في مصر.
التدريس والتأليف
وعاد ابن تيمية بعد النصر المظفر إلى التدريس والتأليف، فألف كتابه "السياسة الشرعية" الذي أظهر فيه واجبات الحاكم والدولة. وكان يدير معارك عدة إلى جانب مواجهة الاحتلال، فالصوفية ذاقوا ذرعا بفتاويه التي تحرم الكثير من أفعالهم كالتبرك بالأضرحة وزيارة القبور والاستغاثة بالأموات، وكتب في ذلك كتابي التصوف والسلوك وعددا من الرسائل المهمة كرسالة التوسل.
وكان الصوفية يؤلبون عليه الحكام ونوابهم في مصر والشام، كما فعلوا بعد خروجه من سجنه في قلعة الإسكندرية، وطلب الناصر بن قلاوون منه البقاء للتدريس في القاهرة، لكن تأليب الصوفية والفقهاء معهم انتهت إلى منعه مرارا من الدرس والتعليم والاختلاط بالناس، بل وعودته إلى السجن لفترات عدة بلغت سبع مرات كانت أولها سنة 693 هـ (1293م).
وإلى جانب الحملات الصليبية العسكرية كان الجدل الفكري محتدما بين المسلمين والمسيحيين، وشارك ابن تيمية في هذا الجدل فكتب الكثير من الرسائل لتوضيح استفهامات أرسل بها أهل الأطراف والثغور من المسلمين، أو ردا على ما كان يكتبه علماء المسيحية خصوصا فيما يتعلق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وحقيقة المسيح عليه السلام. وبالمثل فعل مع اليهود في محاججتهم فكريا.
والتفت ابن تيمية إلى المجتمع المسلم فواجه الشيعة والقدرية والجهمية والاتجاهات الفلسفية بما فيها الفلسفة الإشرافية التي تزعمها ابن سبعين وابن عربي الصوفي، فكان لهم نصيب وافر من مواجهات شيخ الإسلام الذي كتب في دقائق الفلسفة ودوّن كتابه "درء تعارض العقل والنقل" في مجلدات عدة.
كما ألف رسائل وكتبا متوسطة في الرد على غلو التصوف مثل كتابه الاستقامة، وحقق في تاريخ رجاله وأئمته فأوضح رأيه فيهم، وتميز في كل ذلك بعدالة وميزان دقيق، فكان يعرض ما لهم وما عليهم من وجهة نظره وبحثه.
وأدرك شيخ الإسلام أهمية الاستناد إلى اللغة بالنسبة للكثير من الفرق، فبحث في مسائل لغوية وبلاغية دقيقة كقوله في رسالة "في أصول التفسير" بعدم وجود المجاز في القرآن الكريم الذي كان كما يعتقد ابن تيمية الجسر الذي عبرت به إلى التأويل الاتجاهات التي تؤمن به كالمعتزلة والأشاعرة والشيعة والخوارج الذين تأثروا بالمنهج المعتزلي.
محاكمات وسلاطين
أقيمت لابن تيمية محاكمات عديدة وبعضها تم في حضور السلاطين ونوابهم وبتحريض من خصومه من الفقهاء والمتصوفة، وكان يخرج في الغالب منتصرا فيها، وكان يفضل في بعضها الصمت عن الخوض معهم. وكتب توضيحات عدة يشرح فيها موقفه من قضايا التكفير والنيل من الصحابة وغيرهما من التهم التي كانت توجه له، غير أن الكثير من هذه المحاكمات كانت تنتهي بسجنه إما في قلعة دمشق أو سجون القاهرة أو الإسكندرية.
وكان يستغل فترات سجنه للتأليف والدرس، وكان يُسجن معه شقيقاه أحيانا وتلامذته كابن قيم الجوزية والغياني أحيانا أخرى، وألف أثناء سجنه في قلعة الإسكندرية رسالة في إصلاح السجون أرسل بها إلى ابن قلاوون شرح فيها حقوق السجين وواجبات الدولة نحوه، ودعا فيها إلى إنهاء دور الضامن الذي كان يقدم خدمات للسجناء مقابل أجور يأخذها ويعطي جزءا منها إلى الدولة.
وأثرت رسالة ابن تيمية في السلطان الذي طبق عددا من الإصلاحات المقترحة، منها تعليم السجناء بعض المهن وتهيئة اندماجهم بالمجتمع والإنفاق عليهم ورعايتهم صحيا، وتخفيف المحكوميات بحسن السلوك. واستمر ابن قلاوون في إصلاح السجون حتى بعد وفاة ابن تيمية بسنوات طويلة.
لكن ابن يتيمة الذي كتب في إصلاح السجون لم ينل حظا من ذلك الإصلاح، حيث اعتقل لمدة سنتين في قلعة دمشق وكان سبب سجنه مسألة زيارة غير المساجد الثلاثة بقصد التبرك بالقبور التي فيها، ومنعت عنه الزيارة وسحبت كتبه وأقلامه وترك وحيدا حتى مرض وتوفي وهو في السابعة والستين عام 728 هـ (1327م). وقبل موته عفا عن كل من آذاه كما نقل عنه نائب دمشق الذي طلب منه العفو والسماح.
قتلي شهادة
مات ابن تيمية ولا تزال كلماته التي قالها لتلاميذه يرجع بها الصدى "ما يفعل أعدائي بي؟ إن جنتي وبستاني في صدري.. إن قتلي شهادة، وسجني خلوة، ونفيي سياحة"، مع العلم بأن دخوله السجن سبع مرات لم يكن إلا بسبب آرائه الفقهية والعلمية، ولم يتهم مرة بالتحريض أو التأليب.
ولا يزال حتى يومنا هذا يسجن الكثير في دولنا لمجرد اقتناء كتب ابن تيمية، بل قد يموت بعضهم في أقبية السجون كما مات ابن تيمية داخل سجنه، ولا تزال بعض دولنا تمنع كل أو أغلب كتبه، بل إن دولا رعت طباعة كتبه منعت من تداول بعض كتبه لاعتقادها بأنه يخالف فيها اختياراتها الدينية.
مات ابن تيمية وترك وراءه تلاميذ أفذاذا منهم المؤرخ الذهبي والعلامة ابن القيم والمفسر المؤرخ ابن كثير، كما ترك وراءه جدلا بشأن آرائه وما طرحه من أفكار لا تزال تثير الأحكام والمواقف المتناقضة نحوها.
ولكن يبقى رأي مهم مفاده أن ابن تيمية -كما وصفه العلامة الشوكاني- ارتفع بقراءته للأصول وكتابته في المنهج إلى مراقي الاجتهاد المطلق الذي علا به عن الانكفاء داخل مذهب بعينه، دون أن يلغي ذلك احترامه لأئمة المذاهب الذين كتب فيهم كتابه "رفع الملام عن الأئمة الأعلام".
ـــــــــــــــــــــ
المصدر : الجزيرة نت