زيارة واحدة إلى أحد البنوك المصرية، أو الاطلاع عن الأنباء الواردة من البورصة المصرية، أو متابعة التصريحات المتخبطة لرجال الاقتصاد في حكومة الانقلاب، يمكن أن تكشف بجلاء حقيقة أن يخرج مواطن مدخراته أو يتخلى طواعية عن "رزق أولاده" من أجل استثمارها لدى "المستريح" وشركاه، مفضلا أن يغامر بأمواله في "توظيف الأموال" بدلا من ضياعها قسرًا في دولة التحفظ على أموال الشرفاء وتحجيم السحب من البنوك وصرف الأموال من الفئات الأدنى ومضاعفة الضرائب.

انهيار الأمن الاقتصادي

وعندما تجد قضاة ورجال شرطة ورجال أعمال على رأس لائحة تضم ضحايا المستريح، تدرك أن الأمر لا يتعلق بسذاجة المجني عليهم أو "فهلوة" النصابين الجدد، وإنما هو هروب من واقع الدولة المنهار، وفرار من توابع الاقتصاد الميت، وتجنب استيلاء الحكومة على أموال الشعب تحت لافتة "أذونات الصرف" والاستدانة من البنوك.

دولة العسكر إذن هي حاضنة توظيف الأموال والبيئة الخصبة لظهور الريان وتوابعه في المجتمع المصري في ظاهرة جديدة قديمة، بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي، وتعاظمت في أواخر الثمانينيات، وباتت تظهر بشكل مطرد في ظل فشل الاقتصاد الرسمي وانهيار الأمن الاقتصادي مع توجيه مقدرات الدولة في حروب الإرهاب المزعومة أو تختفي وسط اقتصاد الجنرالات الغامض ويصبح الشعب فريسة للنصابين بعدما وضه النظام بين خيارين أحلاهما مر.

انخفاض عائد البنوك

ولم يكد الشعب المصري يتجاوز قضية أحمد ابراهيم الشهير بـ"المستريح"، الذي استولى من المواطنين على 53 مليون و843 ألف جنيه من 311 مواطنا، تحت مزاعم توظيفها في شركات أسمنت بعائد 12%، حتى تصدرت أخبار إخلاء محكمة جنايات القاهرة، سبيل "فادى.ع" المشهور بـ"ريان النزهة" بكفالة 20 ألف جنيه، على خلفية اتهامه بالنصب على عشرات المواطنين فى مبالغ مالية تتجاوز الـ20 مليون جنيه.

وكانت تحريات مباحث الأموال العامة أكدت أن المتهم وآخر يديران نشاطًا وهميًا باسم شركة "سكاى لاين بروكرز" بالاتفاق والمساعدة مع شخص أمريكى الجنسية، بعد فتح حساب بأحد البنوك، لإيداع الأموال التى حصلوا عليها من الضحايا البالغ عددهم 400 بقصد تهريبها إلى خارج البلاد. "ربوية" فوائد البنوك.

وأكد خبراء الاقتصاد أن السبب الرئيس للجوء المواطنين إلى شركات توظيف الأموال هو انخفاض عائد البنوك في مصر في ظل ما تشهده البلاد من تضخم وانخفاض قيمة الجنيه مع غلاء الأسعار، مشددين على أن مخاطر البورصة وانتكاستها المتوالية لم تعد تمثل بديلا جيدا أو آمنا للاستثمار. واعتبر الخبير الاقتصادي الدكتور عمرو إسماعيل أنه إلى جانب مشكلات الاقتصاد، تأتي مخاوف المواطنين من فتاوي حرمانية فوائد البنوك باعتبارها أرباحا ربوية، يدفع المواطن إلى البحث عن استثمار يحقق عائد مرتفع ويتجنب من خلاله الوقوع في المحرمات.

وفي ظل افتقاد الثقة بين الشعب والانقلاب يصبح البديل الأبرز أمام المواطن هو تجنب وضع الأموال فى البنوك في ظل أزمة السيولة والتضخم التى تضرب المجتمع فى مقتل، وترهق كاهل الدولة بديون متراكمة وأذونات صرف، فضلا عن الارتفاع اللافت فى سعر العملات الأجنبية فى مقابل الجنيه، ما يجعل المواطن يخشي أى إجراءات حكومية استثنائية تحول بينه وبين الحصول على أمواله. الربح السهل والشائعات.

من جانبه، أكد الصحفي المختص في الشأن الاقتصادي أحمد طلب، أن افتقار المواطن لجهات تستثمر أمواله على نحو يضمن له عائدًا مناسبًا يعينه على متطلبات الحياة، في ظل ما هو متعارف عن بحث الشعب المصري عما يعرف بـ"الربح السهل"، تعد أهم الأسباب التي تنعش سوق توظيف الأموال وتدفع المواطن لتجاهل دروس الماضي.

وعدد طلب -في تصريحات خاصة- 4 أسباب آخري لتنامي ظهرت توظيف الأموال وتقارب الكشف عن "مستريحين جدد"، أولها الخوف من الفوائد الربوية التى يمنحها البنوك على قلتها، فضلا عن الرغبة فى الحصول على عائد سريع ومرتفع يمثل ضعف ما يتحصل عليها من الكيانات الحكومية أو الخاصة.

الخوف من غدر الغربة

وأضاف الباحث الاقتصادي أن المصريين في الخارج يمثلون أهم روافد ضخ الأموال لـ "الريان وشركاه" وفقا للسببين السابقين مع الرغبة فى استثمار مدخراتهم فى الخارج، داخل مصر من أجل تجنب خسارة "شقى العمر" في إحدى لحظات غدر الغربة، مشيرًا إلى أن رابع الأسباب هو تنامي الشائعات حول العائد الكبير وانتظام الأموال من شركات التوظيف والتي تنتشر كالنار في الهشيم خاصة فى المجتمعات الريفية والتي تسيل لعاب المواطن وتدفعه إلى إخراج ما "تحت البلاطة" أو بيع بعض ممتلكاته فى كثير من الأحيان.

افتقاد شفافية الاستثمار

من جانبه، أكد الصحفي الاقتصادي عمرو خليفة أن عدم توفر البيئة الاقتصادية في مصر من معلومات وبساطة في الإجراءات، والتي تدعم أصحاب الأموال البسيطة والمتوسطة في تأسيس مشروعات صغيرة لجلب عائد يغنيهم عن التفكير للجوء لمثل هذه الشركات، هى التي تحمل المواطن على دخول تلك المغامرة.

وانتقد خليفة غياب الرقابة في مصر، وامتلاك هذه الشركات قدرة العمل بشكل طبيعي وقانوني وعدم المحاسبة إلا بعد وقوع الكارثة، جعلها تكمل القدرة على إقناع المواطنين بكونها شركات حقيقة تمتلك اسثمارات فعلية على الأرض، في ظل أنها تستطيع أن توفر كل التصاريح الرسمية للعمل في السوق المصرية، وذلك بالاعتماد على شبكة الفساد التي تملأ المؤسسات الرسمية المصرية.