19/01/2009
أكبر إساءة إلي مصر تأتي من أبواقها الإعلامية، التي تقزم البلد وتفقده الهيبة والاحترام، بل تجعله يخسر قضاياه أمام الرأي العام داخل مصر وخارجها، خذ مثلاً تلك الحملة الإعلامية العبثية التي تُشن هذه الأيام ضد قطر، لمجرد أنها كان لها موقف آخر في التعامل مع المجزرة الإسرائيلية في غزة، وهو ما دعا الإعلام المصري الرسمي وشبه الرسمي إلي اعتبار الاختلاف جريمة، وتصنيف قطر في مربع الأعداء والخصوم، علي الأقل فذلك ما عبرت عنه الأبواق المختلفة، التي لم تكف حتي اللحظة الراهنة عن الغمز واللمز في قناة قطر اللذين وصلا إلي حد التجريح في بعض الأحيان، وهو مسلك معيب من أوجه عدة، أولاً: لأنه عند الراشدين والمتحضرين فإن الاختلاف لا ينبغي أن يفسد للود قضية كما قالت العرب، فلا ينقص من قدر ولا يسحب من رصيد الاحترام المتبادل، وثانياً: لأن ذلك مما لا يجوز بين «الأشقاء» الذين يفترض الاستمرار في علاقاتهم، مع ما يستتبعه ذلك من تبادل للوشائج والمصالح والتقاء حول الأهداف العليا، وثالثاً: لأن مصر الدولة الكبيرة والشقيقة الكبري يفرض عليها مقامها أن تتعامل مع أشقائها الأصغر بأسلوب آخر ولغة مغايرة، فيها من التفهم والاحتواء وسعة الصدر بأكثر مما فيها من الحساسية والانفعال والاشتباك.
نقل الدكتور كمال أبو المجد عن الشيخ زايد بن سلطان حاكم دولة الإمارات الراحل تعبيراً بهذا المعني، حين زار الرجل القاهرة أيام الرئيس السادات، وقت أن كان مشتبكاً مع العقيد القذافي، وكان الإعلام المصري يقوم بدوره التقليدي في إذكاء الحريق وتجريح الزعيم الليبي، وقتذاك قال الشيخ زايد للدكتور أبو المجد الذي رأس بعثة الشرف المرافقة له باعتباره وزيراً للإعلام في الحكومة، إن مصر الكبيرة ينبغي أن يكون لها خطاب آخر، لأن الكبار لا يستسلمون للغضب، ولكنهم يستعلون فوق الانفعالات والحساسيات، خصوصاً مع الأشقاء الأصغر منهم.
هذا المفهوم تآكل بمضي الوقت، حتي أصبحت المسارعة إلي الانفعال مع الحساسية المفرطة من سمات الخطاب الإعلامي المصري، وصرنا بحاجة لأن نذكر القائمين علي أبواقنا الإعلامية بأن أشقاءنا الذين يختلفون معنا «ليسوا أعداء لنا»، وهي ملاحظة تشهد بالمدي الذي بلغه تدهور خطابنا الإعلامي، وقد أشار إليها زميلنا الأستاذ سليمان جودة، فيما كتبه أمس تحت هذا العنوان في صحيفة «المصري اليوم» - عدد 17/1- وأخذ علي الإعلام المصري تطرفه وانفلاته في تعامله مع المختلفين، ولجوئه إلي إهانتهم وتحقيرهم، الأمر الذي اعتبره مسيئاً إلي صورة مصر ومقامها.
لي ملاحظات علي هذا الموقف، الأولي أن ما يعبر عنه الإعلام الرسمي وشبه الرسمي في مصر لا يكون في العادة تطوعاً أو اجتهاداً، ولكنه يعبر عن تعليمات سياسية تحدد الوجهة والدرجة والنوع، وأحياناً تقترح الأسئلة علي مقدمي البرامج التليفزيونية الحوارية، الأمر الذي يعني أن الانفعال والحساسية وتدهور مستوي الخطاب الإعلامي هي تعبير عن الموقف السياسي واستجابة للتعليمات، ويعني أيضاً أن النقد أو اللوم الحقيقي ينبغي أن يكون من نصيب السياسة وليس الإعلام.
الملاحظة الثانية أن موضوع الاختلاف مع قطر ما كان لمصر أن تتعامل معه بتلك الدرجة من الحساسية أو التصعيد غير المبرر، ذلك أنه إذا كان جوهره هو مساندة شعب فلسطين في غزة وتعزيز صموده، فهو مما لا يتوقع أحد أن يختلف عليه القادة العرب، خصوصاً «الشقيقة الكبري»، التي يؤمل دائماً أن تكون أول من يبادر إليه، لا أن تتحفظ علي الجهد المبذول في صدده أياً كان مصدره.. وهو ما يدعونا إلي إعادة التفكير في إجابة السؤال التالي: من حقاً الذي يسيء إلي مصر ويشوه صورتها؟
الدستور

