في وقتٍ تتصاعد فيه الانتقادات الحقوقية بشأن أوضاع السجون ومقار الاحتجاز، عادت تصريحات رسمية لتثير جدلاً واسعاً، بعدما قدّم وزير الخارجية بدر عبد العاطي رواية وردية عن المنظومة العقابية، في مقابل تقارير حقوقية محلية ودولية ترصد عشرات الوفيات، وتوثّق أنماطاً متكرّرة من الإهمال الطبي والتعذيب وسوء المعاملة، إلى جانب استمرار أزمة السجناء السياسيين وسياسات الحبس المطوّل والتدوير.
خطاب رسمي: «تطوير غير مسبوق»
خلال لقائه أعضاء مجلس الشيوخ على هامش اجتماع إحدى لجانه، قال وزير الخارجية إن “الدولة المصرية هدمت 41 سجناً وأقامت بدلاً منها مراكز للتأهيل والإصلاح”، معتبراً أن هذه الخطوة تأتي في إطار تطوير المنظومة العقابية بما يتماشى مع الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان.
وأضاف أن عدداً من السفراء الأجانب زاروا هذه المراكز، بناءً على توجيهات رئاسية، للاطلاع على ما وصفه بـ«التجربة المصرية» في ملف حقوق الإنسان.
ولم يتوقف عبد العاطي عند حدود عرض البنية التحتية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، عندما قال إن هناك نزلاء انتهت مدة أحكامهم ورفضوا مغادرة مراكز التأهيل، معتبراً الأمر دليلاً على “التطور الكبير” في أسلوب التعامل مع ملف السجون، ولا سيما على مستوى الرعاية الصحية والغذائية “غير المسبوقة”، وفق تعبيره.
تقارير حقوقية: أرقام مقلقة ووقائع دامغة
في المقابل، قدّمت منظمات حقوقية صورة مغايرة تماماً. فقد وثّقت منظمة “هيومن رايتس إيجيبت” استمرار ما وصفته بـ«نزيف الأرواح» داخل مقار الاحتجاز خلال عام 2025، مسجّلة وفاة 54 معتقلاً، تنوّعت أسباب وفاتهم بين الإهمال الطبي المتعمّد والتعذيب.
ووفقاً للتوثيق، بدأ العام بخمس حالات وفاة في يناير، بينها أربع بسبب الإهمال الطبي وحالة واحدة نتيجة التعذيب، فيما شهد منتصف ديسمبر/كانون الأول حالتي وفاة جديدتين، كلتاهما بسبب الإهمال الطبي.
هذه الأرقام، بحسب منظمات حقوقية، لا تعبّر فقط عن حوادث فردية، بل تعكس نمطاً متكرّراً من الانتهاكات داخل السجون، في ظل غياب المساءلة واستمرار الإفلات من العقاب.
«عدالة»: صورة مصطنعة بدلاً من مواجهة الحقيقة
تعقيباً على تصريحات وزير الخارجية، قالت منظمة “عدالة لحقوق الإنسان” إن الخطاب الرسمي “يندرج ضمن محاولات تقديم صورة إيجابية مصطنعة عن أوضاع السجون”، بدلاً من التعامل الجاد مع جوهر الانتقادات، التي تمسّ الحق في الحياة والكرامة الإنسانية.
وأكدت المنظمة أن الجدل لا يدور حول شكل المباني أو مستوى “الخدمات”، بل حول وفيات وقعت نتيجة التعذيب أو الحرمان من الرعاية الصحية أو التأخير المتعمّد في التدخل الطبي.
وبحسب ما وثقته المنظمة، شهدت السجون خلال السنوات الماضية حالات وفاة متعددة بسبب منع العلاج أو التأخر في نقل المحتجزين إلى المستشفيات، إلى جانب ظروف احتجاز وُصفت بغير الإنسانية، تشمل الاكتظاظ الشديد وسوء التهوية وغياب المعايير الصحية الأساسية، واستخدام الإهمال الطبي كوسيلة ضغط، خصوصاً ضد المعتقلين السياسيين، في مخالفة صريحة للمواثيق الدولية وقواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء.
أزمة السجناء السياسيين: تدوير، عزل، وحرمان
في سياق أوسع، تتصاعد أزمة السجناء السياسيين مع استمرار سياسات الحبس الاحتياطي المطوّل، والتدوير على قضايا متشابهة، والعزل الانفرادي، والحرمان من الزيارة والرعاية الطبية.
وقد كشفت وقائع حديثة عن أبعاد إنسانية وقانونية خطيرة لهذه الأزمة.
من بين هذه الوقائع، ما أعلنته زوجة أسامة ياسين، وزير الشباب الأسبق، التي تحدثت عن نحو عشر سنوات من الحرمان الكامل من الزيارة والتواصل، مؤكدة أن الأسرة باتت تجهل حالته الصحية وأوضاع احتجازه.
وياسين معتقل منذ أغسطس 2013، وواجه خلال سنوات احتجازه أحكاماً بالإعدام في قضايا متعددة، كان آخرها في مارس 2024، وسط انتقادات حقوقية لمسار المحاكمة وضمانات الدفاع.
أحكام مشددة وملاحقة للنقد
وفي تطور قضائي آخر، أيدت محكمة جنح مستأنف الشروق الحكم بسجن الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق خمس سنوات، في قضية اعتبرتها منظمات حقوقية امتداداً لتجريم النقد الاقتصادي والفكري.
وقال مركز الشهاب لحقوق الإنسان إن الحكم يمثّل ضربة جديدة لحرية البحث العلمي والنقاش العام حول السياسات الاقتصادية.
كما شهد ملف المحامين والحقوقيين تطورات لافتة، من بينها تأجيل محاكمة المحامي إبراهيم عبد المنعم متولي، منسق رابطة أسر المختفين قسرياً، في قضية تتعلق باتهامات إرهابية، وهي اتهامات ينفيها جملة وتفصيلاً.
ونقلت منظمات حقوقية شهادة مؤثرة لنجله، تحدث فيها عن سنوات من القهر والحرمان والإهمال الطبي، والعزل الانفرادي، وحرمان الأسرة من الزيارة.
«التدوير»… تسع سنوات بلا حرية
وفي ملف “التدوير”، كشفت هيومن رايتس إيجيبت عن استمرار احتجاز الشاب أحمد صبري ناصف منذ عام 2017، رغم صدور قرارات متكررة بإخلاء سبيله وأحكام بالبراءة، إذ كان يُخفى قسرياً في كل مرة قبل إعادة عرضه على قضايا جديدة، ليقضي نحو تسع سنوات في دائرة لا تنتهي من الحبس.
كما وثّقت المنظمات استمرار تجديد الحبس الاحتياطي لعدد من المتهمين، بينهم شريف محمد علي الروبي، الذي اشتكى من إهمال طبي جسيم داخل محبسه، رغم مطالبات الدفاع بعرضه على المستشفى.
انتقادات سياسية: «تصريحات تثير السخرية»
سياسياً، قال البرلماني السابق هيثم الحريري إن تصريحات وزير الخارجية حول رفض بعض السجناء مغادرة السجون “لا تعكس الواقع”، بل أثارت السخرية.
وأكد أن الرضا الحقيقي لا يتحقق بتحسينات شكلية، بل بإرساء العدالة وضمان أن من يقبع خلف القضبان محكوم عليه بمحاكمة عادلة.
وأضاف أن فكرة أن يفضّل إنسان البقاء في السجن “أمر مستحيل”، لأن الحرية قيمة لا تعوّضها أي تحسينات.

