تواجه الأسواق المصرية موجة اضطراب جديدة بفعل الصعود الجنوني لأسعار النحاس عالمياً، والتي قفزت بأكثر من 36% منذ بداية العام، متجاوزة حاجز الـ 12.2 ألف دولار للطن في بورصة لندن للمعادن خلال ديسمبر الجاري. هذا الارتفاع القياسي لم يعد مجرد مؤشر اقتصادي عابر، بل تحول إلى أزمة حقيقية تضرب عصب قطاعات حيوية في مصر، بدءاً من الكابلات الكهربائية والأدوات الصحية، وصولاً إلى الأجهزة المنزلية ومواد البناء.
وفي ظل اعتماد قطاع التصنيع المصري بشكل كبير على استيراد خامات النحاس – حيث بلغت فاتورة الواردات نحو 2.29 مليار دولار العام الماضي – فإن الزيادة العالمية تنتقل تلقائياً لتصبح عبئاً إضافياً على تكلفة الإنتاج، وبالتالي على المستهلك النهائي الذي لم يتعافَ بعد من موجات الغلاء المتلاحقة.
الأزمة، بحسب خبراء ومسؤولين، تتجاوز مجرد زيادة في الأسعار، لتطرح تساؤلات جدية حول قدرة المصانع المحلية، خاصة الصغيرة والمتوسطة، على الاستمرار في ظل تآكل هوامش الربحية، واحتمالات لجوء البعض لخفض الطاقة الإنتاجية أو تمرير التكلفة كاملة للمواطن، مما يعمق من حالة الركود التضخمي التي تعاني منها السوق.
فاتورة "المعدن الأحمر".. زيادات تلتهم الأرباح وتضغط على المستهلك
يرى الخبراء أن التأثير المباشر لارتفاع النحاس لن يتأخر في الظهور على أرفف المتاجر. الخبير الاقتصادي مدحت نافع أوضح لـ"العربية Business" أن الصناعات المعتمدة على النحاس، مثل مواد البناء والأدوات الصحية، ستشهد ارتفاعاً في تكلفة الإنتاج يتراوح بين 15% و25%. وأشار نافع إلى أن الشركات الكبرى قد تتمكن من امتصاص جزء من الصدمة مؤقتاً بفضل مخزونها الاستراتيجي، لكن الشركات الأصغر ستجد نفسها مضطرة لتمرير الزيادة فوراً. ورجح نافع أن تشهد السوق المصرية زيادات سعرية في المنتجات النهائية تتراوح بين 10% و20%، وهو ما يمثل ضغطاً إضافياً على القوة الشرائية المتآكلة أصلاً، ويعيد خلط أوراق التسعير في قطاع المقاولات والتشطيبات الذي يعاني من ركود نسبي.
من جانبه، أكد متى بشاي، نائب رئيس شعبة الأدوات الصحية بغرفة القاهرة التجارية، أن النحاس يمثل 70% من مكونات منتجات السباكة (مثل الحنفيات والمحابس)، مما يجعل القطاع في "مهب الريح" أمام تقلبات البورصة العالمية. وكشف بشاي عن تلقيه إخطارات فعلية من موردين أتراك بزيادة أسعار بعض المنتجات بنسبة 13%، مشيراً إلى أن اعتماد القطاع على الاستيراد بنسبة 80% يجعله شديد الحساسية لهذه الهزات، مما ينذر بموجة غلاء قادمة في سوق التشطيبات.
الكابلات والأجهزة.. بين "امتصاص الصدمة" والبحث عن بدائل
في قطاع الصناعات الهندسية، تبدو الصورة أكثر تعقيداً. شريف الصياد، رئيس المجلس التصديري للصناعات الهندسية، حذر من أن الشركات التي تعتمد بكثافة على النحاس، مثل مصانع الكابلات والمحركات، لن تستطيع تحمل زيادة في تكلفة الخام تتجاوز 30%، مما يحتم نقل العبء للمستهلك. ومع ذلك، أشار الصياد إلى "طوق نجاة" قد يخفف من حدة الأزمة، وهو تحول قطاع كبير من مصنعي الكابلات (بنسبة تصل لـ 90%) والمحركات لاستخدام الألومنيوم كبديل أرخص وأكثر استقراراً سعرياً. هذا التحول قد يحمي سوق الكابلات من انفجار سعري مماثل لما يحدث في الأدوات الصحية، ويجعل التأثير على أسعار السيارات والأجهزة المنزلية محدوداً نسبياً نظراً لقلة المكون النحاسي فيها.
لكن محمد حنفي، المدير التنفيذي لغرفة الصناعات المعدنية، كان له رأي آخر فيما يخص الأجهزة المنزلية "كثيفة الاستهلاك" للنحاس. حيث توقع زيادات ملحوظة في أسعار الثلاجات وأجهزة التكييف، وهي المنتجات التي لا يمكن استبدال النحاس فيها بسهولة في دوائر التبريد. وأكد أن الزيادة ستتفاوت بحسب نسبة النحاس في كل منتج، لكنها ستكون ملموسة. وتدعم أرقام حسن مبروك، رئيس شعبة الأجهزة الكهربائية، هذا التوجه، حيث كشف أن تكلفة تصنيع الثلاجات والتكييفات ارتفعت فعلياً بنسبة تتراوح بين 7% و8% بسبب قفزات النحاس الأخيرة، وهو ما سينعكس حتماً على السعر النهائي للمستهلك.
خيارات صعبة.. خفض الإنتاج أم ركود المبيعات؟
أمام هذا الواقع الضاغط، تجد الشركات المصنعة نفسها أمام خيارات "أحلاها مر". محمد المهندس، رئيس غرفة الصناعات الهندسية، لخص المأزق الحالي بأن المصنعين يدركون جيداً أن أي زيادة في السعر النهائي ستقابل بتراجع فوري في المبيعات، في سوق يعاني أصلاً من ضعف الطلب. لذلك، قد تلجأ بعض المصانع إلى خيار "الكمون التكتيكي"، عبر خفض طاقتها الإنتاجية مؤقتاً لتقليل استهلاك الخامات الغالية، وانتظار هدوء العاصفة السعرية، بدلاً من المغامرة بإنتاج مخزون بتكلفة مرتفعة قد لا يجد من يشتريه.
البيانات الرسمية تشير إلى أن مصر ليست بمعزل عن السوق العالمي، بل هي في قلبه، حيث قفزت وارداتها من النحاس بنسبة 35.5% لتصل إلى 2.29 مليار دولار العام الماضي، بينما نمت الصادرات بنسبة 47% لتتجاوز المليار دولار. هذا التشابك الكبير يعني أن أي هزة في بورصة لندن تتردد أصداؤها فوراً في المناطق الصناعية المصرية، وتضع الحكومة والقطاع الخاص أمام تحدي إدارة التكلفة في زمن "المعادن المشتعلة"، وسط مخاوف من أن يتحول "شح المعروض" العالمي إلى أزمة إغلاق محلي لبعض المصانع الصغيرة التي لا تملك رفاهية الانتظار.

