أدلى رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، أمس، بتصريحات وصفها مراقبون بالمفصلية حول الأوضاع الاقتصادية في مصر، متناولًا ملف الديون الخارجية وبرنامج قروض صندوق النقد الدولي، في توقيت سياسي بالغ الحساسية يتزامن مع انتخابات مجلس النواب الجديد.

 

حديث مدبولي جاء في وقت تتزايد فيه التكهنات حول نية عبد الفتاح السيسي إجراء تغيير حكومي شامل قد يطال رأس الحكومة نفسه، مستغلًا انتخاب برلمان جديد كغطاء دستوري وقانوني لامتصاص الغضب الشعبي المتصاعد جراء الأزمات المعيشية الطاحنة التي تعصف بالمواطن المصري.

 

في دفاعه عن سياساته، أكد مدبولي أن حكومته نجحت في "احتواء تداعيات الأزمات العالمية وإدارة ملف الديون دون تعثر"، مشدداً على أن الاقتراض الخارجي تم في إطار "رؤية اقتصادية طويلة المدى".

 

لكن هذه التصريحات، التي بدت كخطبة وداع مبطنة، قوبلت بتشكيك واسع من خبراء ومراقبين، الذين رأوا فيها محاولة أخيرة لتجميل صورة حكومة باتت في نظر الملايين "عنوان الفشل الاقتصادي"، ومحاولة بائسة للهروب من المسؤولية قبل "المقصلة السياسية" المتوقعة التي قد تنصب لها مع انعقاد البرلمان الجديد.

 

الدستور والمادة 146: "شرعية" التضحية بمدبولي

 

التكهنات برحيل مدبولي لا تستند فقط إلى الفشل الاقتصادي، بل تجد سندها في النص الدستوري الذي يمنح السيسي فرصة ذهبية للتخلص من "العبء الحكومي" بشكل قانوني وسلس.

 

المادة 146 من الدستور تنص بوضوح على أن يكلف رئيس الجمهورية رئيساً لمجلس الوزراء بتشكيل الحكومة وعرض برنامجه على مجلس النواب الجديد، فإذا لم تحصل حكومته على الثقة خلال ثلاثين يوماً، يكلف الرئيس مرشحاً من الحزب أو الائتلاف الحائز على الأكثرية.

 

في هذا السياق، يرى مراقبون أن السيسي قد يستخدم هذه الآلية ليس لتشكيل حكومة ائتلافية حقيقية، بل لتقديم مدبولي كـ"كبش فداء" دستوري.

 

السيناريو المتوقع هو أن يتم تكليف شخصية جديدة (تكنوقراط أو عسكرية) بتشكيل الحكومة، وتقديمها للرأي العام باعتبارها "استجابة لمطالب التغيير"، بينما يظل مدبولي هو المسؤول الوحيد أمام التاريخ عن مرحلة "التعويم والديون".

 

هذا الإخراج الدستوري يضمن للنظام تبييض صفحته وتحميل الحكومة الراحلة وزر السياسات القاسية، دون المساس بجوهر منظومة الحكم التي ترسم السياسات الفعلية.

 

سيف الدين عبد الفتاح وحسن نافعة: "تغيير الوجوه" ولعبة "امتصاص الغضب"

 

سياسياً، يرى الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، أستاذ العلوم السياسية، أن الحديث عن تغيير الحكومة هو جزء من "تكتيكات البقاء" التي يتقنها النظام.

 

عبد الفتاح يؤكد في تحليلاته أن هيمنة المؤسسة العسكرية على مفاصل الدولة، والتي تعززت دستورياً وتشريعياً، تجعل من منصب رئيس الوزراء مجرد "سكرتارية تنفيذية" بلا صلاحيات سياسية حقيقية.

 

وبالتالي، فإن رحيل مدبولي ومجيء غيره لن يغير من الواقع شيئاً، لأن القرارات الاستراتيجية (الاقتراض، المشروعات الكبرى، السياسة الخارجية) تُصنع في "الدوائر السيادية" وليس في مجلس الوزراء.

 

ويضيف أن النظام يستخدم تغيير الحكومات كـ"صمام أمان" لتنفيس الاحتقان الشعبي، حيث يُلقى باللوم على "المنفذين" لحماية "المخططين".

 

من جانبه، يشير الدكتور حسن نافعة إلى أن الانتخابات البرلمانية الأخيرة صُممت هندستها بدقة لإنتاج برلمان "تحت السيطرة الكاملة"، مهمته ليست مراقبة الحكومة أو محاسبتها، بل توفير الغطاء الشرعي للقرارات الرئاسية.

 

نافعة يرى أن الحديث عن حكومة منتخبة من البرلمان هو "وهم كبير"، وأن أي تغيير قادم سيكون بترتيبات أمنية مسبقة، تهدف لتقديم وجوه جديدة قادرة على تسويق نفس السياسات القديمة بعبارات مختلفة، لتهدئة الشارع الذي وصل لدرجة الغليان.

 

مراد علي ومصطفى عبد السلام: الديون.. "دوخيني يا لمونة"

 

على الصعيد الاقتصادي، وهو "كعب أخيل" حكومة مدبولي، يشن الخبراء هجوماً كاسحاً على سياسات الاقتراض.

 

الدكتور مراد علي وصف إدارة الحكومة للأزمة بأنها "سياسة حافة الهاوية"، منتقداً بشدة الاعتماد المفرط على الحلول السهلة (الديون وبيع الأصول) بدلاً من إصلاح الهيكل الإنتاجي.

 

علي يرى أن مصر بحاجة إلى عقلية اقتصادية جديدة تحرر القرار الوطني من تبعية الدائنين، وليس مجرد موظفين جدد ينفذون تعليمات الصندوق.

 

أما الكاتب الاقتصادي مصطفى عبد السلام، فقد قدم تفنيداً بالأرقام لمزاعم مدبولي حول "السيطرة على الديون". في تحليله المعنون "ديون مصر الخطرة"، أشار عبد السلام إلى أن الدين الخارجي قفز من 38.3 مليار دولار في 2013 إلى أكثر من 160 مليار دولار في 2025، وهي قفزة مرعبة تكذب كل ادعاءات "الإدارة الرشيدة".

 

ويصف عبد السلام سياسة الحكومة بـ"دوخيني يا لمونة"، حيث تقترض الحكومة لسداد فوائد الديون القديمة، ثم تبيع أصول الدولة لسداد أقساط الديون الجديدة، في حلقة مفرغة تستنزف ثروات البلاد وترهن مستقبل الأجيال القادمة. ويختم بأن أي تغيير حكومي لا يعالج هذه المعضلة الهيكلية هو والعدم سواء.

 

قراءة في المشهد: رحيل وشيك أم تدوير للمناصب؟

 

تزامن تصريحات مدبولي "الدفاعية" مع القرارات الاستثمارية الأخيرة وحمى الانتخابات يشير بوضوح إلى أن الرجل يدرك أن أيامه في القصر الحكومي باتت معدودة.

 

إلا أن الخبراء يجمعون على أن "كبش الفداء" قد يهدئ الشارع لبضعة أشهر، لكنه لن يطعم الجياع ولن يسدد الديون.

 

التغيير الحكومي المرتقب، وإن حدث، قد يكون مجرد "تغيير ديكور" لمسرحية سياسية مستمرة، حيث يظل "المخرج" واحداً والسياسات ثابتة، بينما يتغير "الممثلون" لامتصاص غضب الجمهور مؤقتاً، في انتظار الفصل القادم من الأزمة.