بينما تعلن الحكومة تخصيص نحو 800 فدان بمدينة العلمين الجديدة لإقامة مدينة أوليمبية متكاملة باستثمارات تتجاوز 4 مليارات جنيه، وتروّج للمشروع باعتباره خطوة لتحويل المدينة إلى مركز إقليمي لاستضافة الفعاليات الرياضية الكبرى، تتسع فجوة الغضب في الشارع بسبب انهيار خدمات المستشفيات الحكومية ومراكز صحة الغلابة، وتدهور أوضاع أندية الأقاليم التي تعيش حالة شبه إفلاس، من الإسماعيلي إلى الاتحاد السكندري، وسط شكاوى من غياب الدعم وقرارات تُفاقم الأزمة مثل سحب أرض الزمالك.
جوهر الأزمة ليس “الرياضة” كمبدأ، بل نموذج إدارة يفضّل الاستعراض والواجهة على علاج الناس ودعم البنية الرياضية الحقيقية التي تصنع أبطالاً وتبني مجتمعاً صحياً.
مدينة للأغنياء… وطب للفقراء “على الله”
بحسب الإعلان، المدينة الأوليمبية المزمعة بالعلمين لن تكون مجرد ملاعب، بل ستضم مناطق ترفيهية ومراكز صحية متخصصة ضمن مشروع ضخم يتجاوز 4 مليارات جنيه على مساحة 800 فدان.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: أي “مراكز صحية متخصصة” تحتاجها الدولة في مدينة نخبوية موسمية، بينما يعاني ملايين المصريين من تراجع الخدمات في المستشفيات الحكومية التي يفترض أنها خط الدفاع الأول عن الفقراء؟
هذا التناقض يخلق انطباعاً بأن الحكومة لا تبني منظومة صحة ورياضة للمواطن، بل تبني “منتجاً” سياحياً/ترفهيّاً لمَن يستطيع الدفع، ثم تبيع ذلك كإنجاز قومي.
والأخطر أن ربط المشروع بهدف “استضافة الفعاليات الكبرى” يبدو كذريعة جاهزة لتبرير الإنفاق، دون طرح علني لتفاصيل العائد الفعلي على الناس: كم فرصة عمل دائمة سيخلق؟ وما نصيب محافظات الدلتا والصعيد من أي عائد؟ وهل سيُموَّل من موارد عامة بينما تُترك مراكز علاج الغلابة تتدهور؟
أندية الأقاليم تختنق… ووزير الرياضة يتفرج
في المقابل، تتحدث شكاوى متكررة عن أن أندية الأقاليم تعيش حالة شبه إفلاس، وأن أندية بحجم الإسماعيلي والاتحاد السكندري تعاني أزمات مالية حادة تهدد الاستقرار الرياضي نفسه.
الرياضة ليست “ستاداً جديداً” فقط؛ الرياضة منظومة مالية وإدارية: قطاع ناشئين، بنية تدريب، طب رياضي، ملاعب صغيرة، دعم للأندية الشعبية التي تمثل المحافظات وتستوعب الشباب وتمنع الانزلاق للمخدرات والعنف.
وعندما تتعطل هذه المنظومة، تتحول الدولة إلى مُنتج للمظاهر: مدينة أوليمبية لامعة في العلمين، مقابل أندية عريقة في المحافظات تُطاردها الديون وتفقد لاعبيها وتنهار تنافسيتها.
هنا تتجه المسؤولية مباشرة إلى وزير الرياضة: أين خطة الإنقاذ المالي والإداري لأندية الأقاليم؟
وأين برنامج واضح لعدالة توزيع الموارد، بدل ترك الأندية تُصارع وحدها، بينما تُضخ الاستثمارات في مشروعات “كرت بوستال” لا تمس جذور الأزمة؟
سحب الأرض… ورسالة “لا دعم”: الرياضة كمنصة عقاب لا تنمية
الإشارة إلى سحب أرض الزمالك في ظل “لا دعم” تفتح ملفاً أكثر خطورة: استخدام القرارات الإدارية كأداة ضغط في المجال الرياضي بدل دعم الاستقرار المؤسسي.
عندما يشعر الشارع الرياضي أن الدولة تتساهل في الإنفاق على مشروعات ضخمة، لكنها تتشدد أو تتأخر أو تتجاهل الأندية والمؤسسات القائمة، تتحول الرسالة إلى: “من لا يملك نفوذاً لا مكان له”.
وهذا يضرب فكرة العدالة الرياضية في مقتل، ويخلق بيئة تفضّل العلاقات والصفقات على التخطيط، وتزيد من الاحتقان بين جماهير الأندية ومؤسسات الدولة.
الأولوية المنطقية لأي دولة جادة ليست بناء “مدينة أوليمبية” أولاً، بل إنقاذ الطب الرياضي في المستشفيات الحكومية، وإعادة الاعتبار لمراكز الشباب، ووضع آلية دعم شفافة لأندية الأقاليم، وبناء مسار لصناعة البطل يبدأ من المدرسة والحي وليس من منتجع رياضي على أطراف المتوسط.
إذا كانت الحكومة تريد مشروعاً رياضياً قومياً فعلاً، فلتعلن بالتوازي خطة إنقاذ لأندية المحافظات، وبرنامجاً لدعم العلاج والتأهيل الرياضي في المستشفيات العامة، ومعايير شفافة لتوزيع الموارد، وإلا سيبقى مشروع العلمين عنواناً واحداً لمعنى واضح: استعراض فوق الركام، وواجهة لامعة تخفي أزمة مجتمع يُترك وحده في طوابير العلاج وديون الأندية.

