في خطوة قانونية ودبلوماسية تُعزز الضغط الدولي على إسرائيل، أعلنت محكمة العدل الدولية رسميًا أمس الثلاثاء تلقيها طلبًا من بلجيكا للانضمام إلى الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا تتهم فيها الاحتلال بارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة.

 

هذا التحرك البلجيكي لا يأتي من فراغ، بل يُضيف وزنًا أوروبيًا جديدًا لقائمة متنامية من الدول التي قررت ألا تقف على الحياد أمام ما يجري في غزة، منضمة بذلك إلى كولومبيا وليبيا والمكسيك وإسبانيا وتركيا وتشيلي والمالديف وبوليفيا وأيرلندا وكوبا وبيليز والبرازيل وجزر القمر وفلسطين.

 

ومع استناد بروكسل إلى المادة 63 من النظام الأساسي للمحكمة، تدخل القضية مرحلة أكثر تعقيدًا وإلزامًا، حيث يُصبح تفسير المحكمة لاتفاقية منع الإبادة الجماعية مرجعًا قانونيًا يربط جميع الأطراف المتدخلة، مما يضيّق الخناق على الرواية الإسرائيلية التي تحاول التنصل من التهم الموجهة إليها منذ ديسمبر 2023.

 

المادة 63: سلاح قانوني لتوسيع دائرة المحاسبة

 

استند الطلب البلجيكي بشكل أساسي إلى المادة 63 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، وهي مادة تمنح الدول الأطراف في اتفاقية دولية الحق في التدخل عندما يكون النزاع متعلقًا بتفسير تلك الاتفاقية. وبالنسبة لبلجيكا، فإن دافعها القانوني ينبع من كونها طرفًا في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، وهي الاتفاقية التي تشكل حجر الزاوية في الدعوى المرفوعة.

 

أهمية هذا الاستناد تكمن في أنه يجعل الحكم النهائي للمحكمة، وتفسيرها لنصوص الاتفاقية، ملزمًا لبلجيكا أيضًا، وهو ما يعكس جدية بروكسل في التعامل مع مخرجات القضية. ركزت بلجيكا في طلبها تحديدًا على تفسير المواد من الأولى حتى السادسة من الاتفاقية، مع اهتمام خاص بالمادة الثانية التي تُعرّف جريمة الإبادة الجماعية.

 

هذا التركيز على "تعريف الجريمة" و"النية الخاصة" (Dolus Specialis) المطلوبة لإثباتها يُشير إلى أن بلجيكا تسعى للمساهمة في صياغة السابقة القضائية التي ستحدد معايير الإبادة في سياق النزاعات الحديثة، مما قد يقطع الطريق على أي محاولات لتمييع التهم بدعوى "الدفاع عن النفس" أو الضرورات العسكرية.

 

كرة الثلج تتدحرج: عزلة دولية متزايدة لإسرائيل

 

انضمام بلجيكا إلى ركب الدول المتدخلة يمثل تحولًا نوعيًا في الموقف الأوروبي، حيث لم تعد الانتقادات تقتصر على البيانات السياسية، بل انتقلت إلى ساحة التقاضي الدولي. وجود دول مثل إسبانيا وأيرلندا وبلجيكا وتركيا في صف واحد مع دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا يُظهر أن السردية الإسرائيلية بدأت تفقد حصانتها التقليدية في الغرب. هذا الإجماع العابر للقارات يرسل رسالة واضحة بأن الانتهاكات في غزة لم تعد مجرد "أضرار جانبية"، بل هي موضوع مساءلة قانونية جنائية تحت مجهر أرفع هيئة قضائية في العالم.

 

المحكمة، من جانبها، دعت طرفي النزاع الأصليين، جنوب إفريقيا وإسرائيل، لتقديم ملاحظات مكتوبة حول الطلب البلجيكي، وهو إجراء بروتوكولي يسبق قبول التدخل رسميًا. لكن رمزيته تكمن في استمرار الإجراءات وتراكم الملفات على طاولة القضاة، مما يبقي إسرائيل تحت ضغط مستمر، خاصة مع وجود أوامر سابقة بفرض تدابير مؤقتة طالبت بوقف أعمال الإبادة وضمان دخول المساعدات، وهي أوامر لا تزال إسرائيل تواجه انتقادات حادة لعدم الامتثال الكامل لها.

 

من "التدابير المؤقتة" إلى الحكم النهائي: مسار طويل للعدالة

 

تعود جذور هذه القضية إلى 29 ديسمبر 2023، حين بادرت جنوب إفريقيا بتقديم دعواها التاريخية، مطالبة بحماية الشعب الفلسطيني من "ضرر جسيم وغير قابل للإصلاح".

 

ومنذ ذلك الحين، أصدرت المحكمة قرارات أولية في يناير 2024 تلزم إسرائيل بمنع وقوع جرائم الإبادة والمعاقبة على التحريض عليها.

 

ومع ذلك، فإن دخول دول جديدة كأطراف متدخلة يطيل أمد التقاضي ولكنه يعمق أثره؛ فكل دولة تنضم تجلب معها فريقها القانوني وحججها، مما يُثري المداولات ويجعل الحكم النهائي أكثر شمولية.

 

اليوم، ومع اقترابنا من عام 2026، لا تزال القضية مفتوحة، لكن الزخم الذي أحدثه التدخل البلجيكي يؤكد أن ملف "الإبادة الجماعية" لن يُغلق بتسوية سياسية عابرة.

 

إن إصرار الدول على التدخل، رغم الضغوط الدبلوماسية المتوقعة، يعكس قناعة متزايدة بأن النظام الدولي القائم على القواعد بات على المحك، وأن الصمت على ما يجري في غزة قد يفرغ اتفاقية 1948 من مضمونها إلى الأبد.

 

لذا، فإن المعركة في لاهاي ليست مجرد صراع بين دولتين، بل هي اختبار لضمير العالم وقدرته على فرض القانون حينما تكون الضحية فلسطينية والجاني محميًا بترسانة من الحلفاء الأقوياء.