في تجسيد صارخ لسياسات نظام الانقلاب التي تسحق المواطن تحت شعارات التنمية الزائفة، تقف مأساة مئات الأسر في منطقة قراقص بدمنهور كشاهد عيان على دولة تخلت عن أبسط مسؤولياتها.

 

هناك، تحولت أحلام التملك التي دفع البسطاء ثمنها من عرقهم ودمهم على مدار ربع قرن إلى كابوس من التشرد والضياع.

 

فبعد سنوات من الإهمال المتعمد الذي أغرق المنطقة في مياه الصرف الصحي، جاءت "خطة التطوير" المزعومة كضربة قاضية، حيث فوجئ السكان الذين كانوا ينتظرون تسلم عقود تمليكهم النهائية بقرارات هدم وإخلاء قسري، دون أي تعويض عادل أو بديل سكني، لتُلقي بهم السلطة في العراء وتتركهم فريسة لليأس والفقر، في جريمة اجتماعية مكتملة الأركان تتستر وراء وعود جوفاء.

 

خداع "حق التمليك".. كيف سُلبت بيوت دُفع ثمنها؟

 

لم تكن الكارثة وليدة قرار الهدم المفاجئ، بل هي تتويج لعملية خداع طويلة وممنهجة. الشهادات التي أدلى بها المتضررون تكشف أنهم لم يكونوا مجرد مستأجرين، بل كانوا على وشك تملك منازلهم بشكل نهائي.

 

يقول محمد الطنطاوي، أحد الضحايا، إن السكان كانوا يستعدون لتسلم عقود التمليك الزرقاء التي بحوزتهم في يناير 2021، بعد أن سددوا أقساطاً شهرية لأكثر من عقدين ضمن مشاريع "مدينة العرائس" و"مساكن الزلزال".

 

وتؤكد الممرضة رباب الشرقاوي هذه الحقيقة المرة، موضحة أن الإخلاء جاء قبل شهر واحد فقط من موعد التمليك النهائي.

 

الأدهى من ذلك، أن الأهالي لم يدفعوا فقط ثمن الشقق الأصلي وأقساطها، بل تعرضوا لابتزاز مالي متكرر.

 

تروي رباب كيف اشترت شقتها بعقد متسلسل بمبلغ 50 ألف جنيه، لتفاجأ بأن مجلس المدينة يطالبها بـ100 ألف جنيه إضافية كمستحقات، سددتها على أقساط. وقبل قرار الهدم مباشرة، جمع مجلس قرية شرنوب من كل شقة مبالغ تتراوح بين 1500 و4000 جنيه بحجة "الترميم والصيانة"، ثم أصدر قرار الإزالة بعدها مباشرة.

 

وعندما طالب السكان بحقوقهم، تنصلت المحافظة من كل شيء وادعت أن هذه المساكن كانت بنظام "حق الانتفاع" فقط، متجاهلة عقود البيع والتوكيلات الرسمية، في عملية نصب واحتيال موثقة مارستها أجهزة الدولة على مواطنيها.

 

من وعود السكن إلى بدل الإيجار المقطوع.. سياسة الإذلال الممنهج

 

بعد سلبهم منازلهم، بدأت السلطات فصلاً جديداً من فصول الإذلال.

 

لم تكتفِ بقطع المرافق من مياه وكهرباء لإجبار الأهالي على الخروج، بل لجأت، كما تروي رباب الشرقاوي، إلى إرسال بلطجية كسروا مواسير المياه لإغراق البيوت وتلف الأثاث، في مشهد يعكس غياب أي وازع إنساني أو قانوني.

 

ثم جاءت الوعود المعسولة: مساكن بديلة خلال عامين، وبدل إيجار شهري ضئيل (500-600 جنيه) لمساعدتهم على تدبر أمورهم.

 

لكن هذه الوعود سرعان ما تبخرت. توقف صرف بدل الإيجار بعد السنة الأولى، ليجد مئات الآباء والأمهات أنفسهم عاجزين عن توفير مأوى لأبنائهم. قضى كثيرون، كما يقول مصطفى أحمد، أكثر من 13 شهراً دون تقاضي أي مبالغ. وعندما وقعوا في السنة الثالثة على عقود لشقق بديلة، لم يستلموا شيئاً حتى الآن.

 

تحولت حياة السكان إلى جحيم، فمنهم من اضطر، مثل محمد الطنطاوي، لاستئجار غرفتين منفصلتين لأسرته في طابقين مختلفين لضيق ذات اليد، ومنهم من بات مشرداً يعيش على هامش الحياة، بينما الشكاوى والاحتجاجات لم تجنِ سوى المزيد من الوعود الكاذبة وقمع قوات الأمن.

 

فساد "التطوير".. هدم للمال العام وتستر وراء "حياة كريمة"

 

تكتمل صورة الجريمة حين يتضح أن حجة "تهالك المباني" التي ساقتها الحكومة كانت مجرد كذبة لتبرير عملية غامضة.

 

يؤكد محمد الطنطاوي أن المساكن كانت بحالة إنشائية جيدة، وأن حديد التسليح الذي استُخرج أثناء الهدم كان جديداً ولم يصدأ، ما يعني أنها كانت صالحة للسكن لسنوات طويلة. هذا يطرح سؤالاً خطيراً: لماذا تم هدم مبانٍ سليمة دُفعت أموال لترميمها للتو؟

 

الإجابة تكمن في الفساد وإهدار المال العام، حيث جمع مجلس شرنوب أموال الترميم ثم أهدرها بالهدم، دون أي مساءلة.

 

ولإضفاء غطاء "إنساني" على الجريمة، تم الزج باسم مبادرة "حياة كريمة"، مع وعود بأنها ستتولى إعادة البناء. ولكن، كما يؤكد الطنطاوي، لم يتحقق شيء على الإطلاق. لقد تم استخدام اسم المبادرة الرئاسية كستار للتغطية على الفشل والفساد، بينما يظل الأهالي هم الضحية.

 

ما حدث في قراقص ليس مجرد خطأ إداري، بل هو نموذج مصغر لدولة تتعامل مع مواطنيها كعبء، وتبيع الوهم تحت مسمى التطوير، وتدوس على حقوقهم الأساسية في السكن والأمان دون أن يرف لها جفن، لأنها تدرك أن في غياب المساءلة والمحاسبة، لا يوجد ثمن لظلم الفقراء.