في مشهد بات متكرراً ويعكس حالة "الفلتان البيئي" التي تعيشها مصر تحت حكم العسكر، عاد الرعب ليخيم من جديد على محافظة الشرقية. فبعد أسابيع قليلة من واقعة تمساح قرية "الزوامل" بمركز بلبيس، استيقظ أهالي عزبة "واصف" بقرية "عمريط" بمركز أبو حماد على كابوس مماثل.
تداول الأهالي مقطع فيديو يوثق ظهور كائن غريب يشبه التمساح في المصرف المائي الملاصق لمنازلهم، ما أثار حالة من الهلع والفزع، خوفاً على أرواح أطفالهم الذين باتوا مهددين ليس فقط من الفقر والجوع، بل من الافتراس في وضح النهار.
هذه الواقعة ليست مجرد "حادث فردي" كما يحاول إعلام النظام تصويره، بل هي جرس إنذار جديد يفضح انهيار منظومة الرقابة البيئية والمائية في مصر. فبينما تنشغل السلطة بتشييد القصور والكباري الخرسانية، تترك القرى والنجوع غارقة في مصارف ملوثة تحولت إلى بيئة حاضنة للوحوش والزواحف القاتلة، في غياب تام لأي استراتيجية حقيقية لحماية المواطنين البسطاء.
فشل "التنمية المحلية" وسياسة رد الفعل المتأخر
على الرغم من استغاثات الأهالي المتكررة، لا يزال رد فعل المسؤولين يتسم بالبطء والبيروقراطية القاتلة. المصدر المسؤول الذي صرح بأنه "يجري فحص الفيديو للتأكد من صحته" يجسد عقلية النظام التي لا تتحرك إلا بعد وقوع الكارثة. لماذا ينتظر المسؤولون "التأكد من صحة الفيديو" بينما حياة المواطنين في خطر؟ ألم تكن حادثة "بلبيس" كافية لاستنفار أجهزة الدولة وتطهير كافة المصارف والترع في المحافظة؟
إن حديث وزيرة التنمية المحلية عن "نجاح" وحدة صيد التماسيح في الواقعة السابقة هو محاولة بائسة لتجميل الفشل. فما تصفه بالنجاح هو في الحقيقة دليل إدانة؛ إذ كيف وصلت التماسيح أصلاً إلى مياه النيل وفروعه ومصارفه في الدلتا؟ هذا الانتشار المريب يطرح تساؤلات خطيرة حول غياب الرقابة على الأسواق غير الشرعية لبيع الحيوانات المفترسة، أو الإهمال الجسيم في تأمين المحميات الطبيعية، وكلها ملفات مهملة في أدراج حكومة لا تهتم سوى بالجباية.
المصارف المائية.. من شريان حياة إلى بؤر للموت
تحولت مصارف الشرقية وقراها، في عهد الانقلاب، من شريان للري والزراعة إلى بؤر للأوبئة والموت. فإلى جانب التلوث الكيميائي والصرف الصحي الذي يفتك بصحة الفلاحين، جاءت التماسيح لتكمل مشهد المعاناة. إن ظهور تمساح في منطقة مأهولة بالسكان في "أبو حماد" يعني أن هناك خللاً بيئياً جسيماً، وأن منظومة "تبطين الترع" التي أنفق عليها النظام المليارات -والتي اتضح فسادها لاحقاً- لم تنجح في حماية المجاري المائية أو تأمينها.
شهود العيان الذين أكدوا رؤية التمساح يعيشون الآن في رعب حقيقي، مطالبين بحملات تمشيط واسعة، وليس مجرد تصريحات إعلامية مطمئنة. لكن هيهات أن يستجيب نظام يرى في المواطن مجرد رقم. إن ترك الأهالي يواجهون هذه المخاطر بمفردهم، واضطرارهم لحراسة المصارف بأنفسهم خوفاً على صغارهم، هو قمة التخلي عن المسؤولية من قبل دولة تدعي أنها "جمهورية جديدة"، بينما هي تعجز عن حماية قرية من زاحف مفترس.
"الوحوش" طليقة.. والمواطن محاصر
تأتي هذه الحادثة لتؤكد المؤكد: المواطن المصري في عهد السيسي محاصر بين مطرقة الغلاء وسندان انعدام الأمان. فالدولة التي تملك أجهزة أمنية قادرة على رصد "تدوينة" معارضة على فيسبوك خلال دقائق، تقف عاجزة "أو متراخية" أمام رصد التماسيح والحيوانات المفترسة التي تهدد القرى. هذا التناقض الصارخ يكشف أولويات النظام الأمنية البحتة التي لا علاقة لها بأمن وسلامة المواطن الجسدية.
إن تكرار ظهور التماسيح في الشرقية ليس صدفة، بل هو نتاج طبيعي لحالة الفوضى التي تضرب مفاصل الدولة، حيث غابت الرقابة البيئية، وتُرِكت المحليات ينهشها الفساد والإهمال. وسيبقى أهالي "أبو حماد" و"بلبيس" وغيرهما من قرى مصر يدفعون ثمن هذا الفشل من أعصابهم وأمنهم، بانتظار تحرك جاد قد لا يأتي أبداً من حكومة لا ترى ولا تسمع إلا ما يرضي ساكن القصر.

