مصطفى عبد السلام
رئيس قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد"
الحقيقة الثابتة في صفقة استيراد مصر الغاز الطبيعي من إسرائيل هي أن حصيلتها تعني مباشرة تدفق مليارات الدولارات من جيوب دافعي الضرائب في مصر والخزانة المصرية التي تعاني من عجز حاد إلى خزانة دولة الاحتلال التي تعاني العجز الكبير والجفاف المالي بسبب تكاليف الحرب الباهظة على غزة التي تجاوزت 100 مليار دولار، وأن مصر ستساهم بشكل مباشر في إعادة هندسة الاقتصاد الإسرائيلي المأزوم، وتعزيزه بعد أن تعرض لهزات وأزمات عنيفة بسبب تداعيات حرب الإبادة، كما أن الأموال المصرية المتدفقة من الصفقة ستساهم في إعادة بناء المدارس والمستشفيات والبنية التحتية المهدمة داخل دولة الاحتلال بسبب صواريخ إيران وحزب الله والمقاومة الفلسطينية، بل وتأسيس مدارس ومستشفيات جديدة، ومد شبكات طرق وكهرباء واتصالات داخل المستوطنات والضفة الغربية المحتلة.
ومن لا يصدق تلك الحقيقة، عليه الرجوع إلى تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، التي أطلقها يوم الأربعاء الماضي عقب موافقته على أضخم صفقة طاقة وأكبر اتفاق تصدير في تاريخ دولة الاحتلال، والتي قال فيها إن صفقة الغاز مع مصر تبلغ قيمتها 112 مليار شيكل (35 مليار دولار)، سيُخصص منها 58 مليار شيكل (18 مليار دولار) للخزينة الإسرائيلية، وأن هذه الأموال ستُساهم في تعزيز التعليم والصحة والبنية التحتية والأمن، ومستقبل الأجيال القادمة، وتعزز مكانة إسرائيل قوةً إقليميةً عظمى في مجال الطاقة، وستشجع دولًا أخرى على البحث عن الغاز في المياه الإسرائيلية.
لم يكتف نتنياهو بذلك، بل قال إنه لم يُوافق على الصفقة، إلا بعد أن تأكد من أنها تُلبي الاحتياجات الحيوية لإسرائيل، بما في ذلك المصالح الأمنية والحيوية، وتضمن تحقيق المصالح العليا لإسرائيل كافة.
وهنا يبرز الجانب السياسي والأمني في الصفقة وهو الأمر الذي تنفيه دوائر صنع القرار في القاهرة كلية، ومنها وزير البترول المصري كريم بدوي، التي تعتبر أن "الصفقة تجارية بحتة ولا تحمل أي أبعاد سياسية، وأن اتفاق تصدير الغاز بين مصر وإسرائيل يندرج في إطار التعاقدات التجارية البحتة، وأُبرم وفق اعتبارات اقتصادية واستثمارية خالصة، ولا ينطوي على أي أبعاد أو تفاهمات سياسية".
والحقيقة أن الصفقة سياسية بامتياز وفق المعطيات الحالية، ونظرة إلى تصريحات نتنياهو والصحف العبرية تؤكد ذلك، فصحف مثل هآرتس ومعاريف أكدت أن واشنطن ضغطت على إسرائيل لقبول صفقة الغاز ضمن جهود لعقد لقاء بين قادة القاهرة وتل أبيب في واشنطن برعاية دونالد ترامب، و"يديعوت أحرونوت" قالت إنه: "لم تتم الموافقة على الصفقة إلا بعد مفاوضات مطولة تركزت على قضية حساسة للغاية". ووفق موقع أكسيوس فإن اهتمام واشنطن بالصفقة ينبع من رغبتها في دفع العلاقات بين إسرائيل ومصر نحو مزيد من الدفء من خلال المصالح الاقتصادية المشتركة.
في مقابل الموقف الإسرائيلي المعلن والواضح من الصفقة والنظر إليها على أنها تجارية وسياسية وأمنية، وأنها كانت بمثابة طوق نجاه وغسل سمعة للحكومة المتطرفة في تل أبيب، جاءت ردة الفعل الرسمية في مصر على اتفاقية صفقة استيراد الغاز من إسرائيل خاليةً من مجموعة من الحقائق التي يستطيع أي متابع للملف الوصول إليها بسهولة، سواء عبر التقارير الدولية ووسائل الإعلام العالمية، أو الاطلاع على تفاصيل الصفقة المنشورة على موقع نيو ميد إنرجي يوم الأربعاء 17 ديسمبر، والمرسلة نسخة منها إلى هيئة الأوراق المالية الإسرائيلية وبورصة تل أبيب، إذ إن الشركة الإسرائيلية الشريك في مشروع حقل ليفياثان مدرجة بالبورصة وتتداول أسهمها فيها.
أولى تلك الحقائق التي تنفيها دوائر صنع القرار في مصر ما يتعلق بحصيلة الصفقة والجهات المشرفة عليها والأطراف الفاعلة، فرئيس الهيئة العامة للاستعلامات ضياء رشوان قال: "كل سنت سيدفع مقابل الغاز الإسرائيلي من الجانب المصري سيذهب إلى شركة شيفرون الأميركية مباشرة، والجانب الإسرائيلي لا يتلقى شيئًا مباشرًا من مصر، وشيفرون هي المسؤولة عن التنقيب، وهي من وقعت الاتفاق مع مصر".
وهذا كلام غير دقيق، فالحقائق تقول إن ما يزيد عن نصف قيمة الصفقة سيدخل موازنة دولة الاحتلال، أي ما يعادل 18 مليار دولار كما قال نتنياهو، وإن الصفقة مبرمة مع حكومة دولة الاحتلال وتحت إشراف نتنياهو ووزير طاقته إيلي كوهين مباشرة، وإنه ليس صحيحًا أن الاتفاقية مبرمة مع الشركات الأميركية المساهمة في حقل ليفياثان، أو أن حصيلة الصفقة ستؤول إلى شركة شيفرون الأميركية، هذه رواية غير صحيحة تنفيها كلية الوقائع المتعلقة بالصفقة، فحصة شيفرون في الحقل الإسرائيلي تقل عن 40%، أما الشركات الإسرائيلية فتساهم بأكثر من 60% وهي صاحبة نصيب الأسد في قيمة الصفقة الاجمالية البالغة 35 مليار دولار، أي أن ما يعادل 21 مليار دولار ستذهب لتلك الشركات وفق عملية حسابية بسيطة.
حقيقة أخرى تتعلق بما تردد عن الوفر المالي الضخم للخزانة المصرية الذي تحقق بإبرام صفقة الغاز الإسرائيلي مع مصر، فوفق مزاعم منتشرة، فإن "شراء مصر الصفقة من مصادر دولية أخرى كان سيكلفها نحو 65 مليار دولار، ومصر وفرت نحو 27 مليار دولار من فرق السعر العالمي، وفي حالة تسييل مصر 60% من الغاز المستورد من إسرائيل وتصديره، فستحصل علي 22 مليار دولار قيمة التصدير"، هذا كلام غير دقيق ولا يستحق الرد عليه من الناحية الاقتصادية والمالية، فنظرة إلى الأسعار العالمية الحالية تؤكد أنه مجرد أكاذيب يسعى بعض الأطراف من خلالها إلى خداع المصريين وتمرير الصفقة المريبة بأقل الخسائر الشعبية.

