لم تعد عبارة "الاستثمار في العقار هو الملاذ الآمن" سوى نكتة سمجة في مصر، تحولت على يد "مافيا" التطوير العقاري إلى كابوس يؤرق آلاف الأسر. فوسط فوضى سوقية غير مسبوقة، وغياب تام للرقابة الحكومية، وجد آلاف المواطنين أنفسهم ضحايا لعمليات نصب مقننة تحت مسمى "تأخير التسليم".
سنوات من الانتظار، ومدخرات عمر كامل تبخرت، وأحلام ببيت آمن تحولت إلى وقفات احتجاجية أمام أبواب المطورين المغلقة أو ساحات المحاكم المكدسة. وفي الوقت الذي تكتفي فيه حكومة الانقلاب بإطلاق الوعود عن "تشريعات جديدة" و"تنظيم السوق"، يستمر "حيتان العقار" في نهب أموال المواطنين دون رادع، مستفيدين من مناخ الفساد والمحسوبية الذي بات السمة المميزة لـ "الجمهورية الجديدة".
"خدوا فلوسنا ورمونا في الشارع".. استغاثات مكتوبة بالدموع
تتكشف يوميًا قصص مأساوية لمواطنين دفعوا "دم قلوبهم" لحجز وحدات سكنية في مشروعات براقة، ليكتشفوا بعد سنوات أنهم اشتروا الوهم. الاستغاثات التي تملأ منصات التواصل الاجتماعي وساحات المحاكم تحكي قصة واحدة متكررة: عقود إذعان مجحفة، مواعيد تسليم وهمية، ومماطلة لا تنتهي. أحد المتضررين يصرخ: "بعت دهب مراتي واستلفت عشان أوفر القسط، وفي الآخر بقالي 10 سنين مستني شقة لسه متبنتش!".
آخر يقول: "نقلت ولادي مدارس خاصة عشان أوفر، ودلوقتي مش لاقي شقة تأويهم ولا عارف أرجع فلوسي اللي قيمتها راحت مع التعويم". هذه ليست حالات فردية، بل ظاهرة عامة تضرب العاصمة الإدارية والتجمع والمدن الجديدة، حيث يترك المواطن فريسة لمطورين يتصرفون بمنطق "البلطجة"، مطمئنين إلى أن الدولة لن تحرك ساكنًا إلا بالتصريحات الجوفاء.
متقدمون لشراء وحدات عقارية يطالبون بمحاسبة الشركات المخالفة لمواعيد التسليم وسط تحركات حكومية لإصدار تشريع جديد ضد المطورين غير الملتزمين pic.twitter.com/rtgSXCeyMo
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) December 20, 2025
الحكومة "شاهد زور".. تشريعات متأخرة وتواطؤ مقنن
بينما يصرخ الناس، تخرج الحكومة ببيانات "مخدرة" عن "قرب إصدار تشريع جديد" لمحاسبة المطورين غير الملتزمين.
لكن السؤال الذي يطرحه الجميع: أين كانت الدولة طوال السنوات الماضية؟ ولماذا تركت الحبل على الغارب لهذه الشركات حتى تضخمت وتوحشت؟
يرى مراقبون أن تحركات الحكومة الحالية ليست سوى محاولة لامتصاص الغضب الشعبي المتصاعد، وأن التشريعات المقترحة لن تطبق بأثر رجعي، مما يعني ضياع حقوق آلاف الضحايا السابقين.
الأخطر من ذلك، هو ما كشفته مصادر عن أن بعض هذه الشركات الكبرى تحظى بحماية "جهات نافذة"، مما يجعل محاسبتها ضرباً من الخيال.
فبدلاً من أن تكون الدولة حكماً عادلاً، تحولت إلى "شريك صامت" في الجريمة، تكتفي بفرض الضرائب والرسوم، وتترك المواطن يواجه مصيره منفرداً أمام "حيتان" لا يرحمون.
تعويم الجنيه.. الذريعة الجاهزة لسرقة الجيوب
لا تكتفي شركات التطوير العقاري بالمماطلة، بل تستخدم "تعويم الجنيه" وارتفاع أسعار مواد البناء كذريعة جاهزة لابتزاز العملاء ومطالبتهم بمدفوعات إضافية غير قانونية، أو تخييرهم بين "الفسخ" (واسترداد أموالهم بقيمتها المنهارة) أو الانتظار إلى ما لا نهاية.
تقارير اقتصادية تؤكد أن هذه الشركات حققت مكاسب خيالية من فروق الأسعار، حيث باعت الوحدات بأسعار مرتفعة ثم تذرعت بالتكلفة لتعطيل التنفيذ واستثمار أموال الحاجزين في مشروعات أخرى أو في المضاربة على الدولار.
إنها عملية "تدوير" لأموال الغلابة لصالح تكديس ثروات المطورين، تتم تحت سمع وبصر حكومة تدعي أنها تحمي المواطن، بينما هي في الواقع تحمي مصالح "الكبار" فقط.

