في تصريح بدا وكأنه صادر من كوكب آخر، بعيدًا عن حقول المنوفية الغارقة ومخاوف 108 ملايين مصري، أعلن قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، السبت، أن بلاده "لا تواجه أي إشكالية مع الأشقاء في إثيوبيا".

 

هذا التصريح، الذي جاء خلال منتدى شراكة روسي-إفريقي في القاهرة، لم يكن مجرد مناورة دبلوماسية، بل اعتبره مراقبون "إعلان استسلام" رسمي، وإقرارًا صريحًا بفشل استمر 11 عامًا في إدارة أخطر ملف يهدد وجود مصر.

 

ففي الوقت الذي يعاني فيه الفلاحون من فيضانات "مُصطنعة" دمرت أراضيهم بسبب إدارة سد النهضة الأحادية، وفي ظل تجميد المفاوضات بعد أن فرضت أديس أبابا الأمر الواقع، يأتي حديث السيسي عن "عدم وجود مشكلة" ليس فقط كتجاهل للواقع، بل كإهانة مباشرة لكل مصري يرى مستقبل بلاده يُسرق أمام عينيه.

 

من "التهديد الوجودي" إلى "لا توجد إشكالية": انهيار الخطاب الرسمي

 

يرى المحلل السياسي د. عمرو حمزاوي أن هذا التغير الجذري في لهجة السيسي، من التلويح بأن "مياه النيل مسألة حياة أو موت" إلى التصريح بأنه "لم يوجه أي تهديد لإثيوبيا"، يعكس انهيارًا كاملاً في موقف الدولة المصرية.

 

فبعد أن استنفد النظام كل خطاباته الرنانة على مدار عقد كامل دون أن يمنع بناء السد أو ملأه أو تشغيله، لم يجد أمامه سوى تبني خطاب "الاستجداء الدبلوماسي" في محاولة لحفظ ماء الوجه.

 

ويعتبر حمزاوي أن "تصريح السيسي هو اعتراف بأن كل الخيارات قد سقطت، وأن مصر لم تعد تملك أي أوراق ضغط حقيقية، وأنها انتقلت من مرحلة محاولة التأثير إلى مرحلة إدارة الضرر بأقل الخسائر الممكنة، وهو ما فشلت فيه أيضًا".

 

دبلوماسية "الاستعراض" ورسائل للخارج

 

يؤكد الكاتب الصحفي جمال سلطان أن اختيار السيسي لمنتدى روسي-إفريقي لإطلاق هذا التصريح يحمل دلالات خطيرة، فهو "رسالة موجهة للخارج، وتحديدًا لروسيا والدول الإفريقية، مفادها أن مصر لم تعد دولة مواجهة، وأنها تقبل بالأمر الواقع الإثيوبي".

 

ويرى سلطان أن النظام بات مهووسًا بصورته أمام القوى الدولية أكثر من اهتمامه بمعاناة شعبه.

 

ويضيف: "بينما كانت المياه تغمر الأراضي في محافظات الدلتا، كان السيسي مشغولًا بتقديم نفسه كـ'حمامة سلام' لا تتدخل في شؤون الآخرين. هذا انفصام كامل عن الواقع، وتأكيد على أن الأولوية هي لرضا الحلفاء الخارجيين، حتى لو كان الثمن هو الأمن المائي للمصريين".

 

اتفاق ملزم أم حلم مستحيل؟

 

من الناحية الفنية، يصف وزير الري الأسبق د. محمد نصر الدين علام حديث السيسي المتكرر عن "اتفاق قانوني ملزم" بأنه أصبح "محاولة للتمسك بقشة في محيط".

 

ويوضح علام أن هذا المطلب كان منطقيًا قبل 10 سنوات، أما اليوم، بعد أن اكتمل السد وبحيرته ممتلئة، فإن أي اتفاق ستملي شروطه أديس أبابا. ويقول: "إثيوبيا حققت هدفها بالكامل، والمفاوضات بالنسبة لها هي مجرد تضييع للوقت.

 

حديث السيسي عن اتفاق ملزم الآن هو بمثابة من يطالب بعقد زواج بعد أن تم الإنجاب وانتهى كل شيء. الواقع أن مصر انتقلت قسرًا إلى مرحلة التكيف مع العجز المائي والفيضانات المتقطعة التي ستتحكم بها إثيوبيا".

 

ويخلص المحلل السياسي أحمد مولانا إلى أن تصريحات السيسي تمثل "شهادة وفاة" للدور المصري الإقليمي، وتتويجًا لعقد من السياسات الكارثية.

 

ويقول: "بعد تبديد موارد الدولة على مشاريع استعراضية، وتكميم أفواه الخبراء، وملء السجون بالمعارضين، يقف قائد الانقلاب اليوم ليعلن على الملأ أن الخطر الوجودي الذي حذر منه لم يعد مشكلة.

 

إنه ببساطة، الفصل الأخير من مسرحية تصفية حقوق مصر التاريخية، برعاية مباشرة من نظام حوّل الهزيمة إلى وجهة نظر".