طلال أبو غزالة

رجل أعمال أردني، خبير في المعلوماتية والملكية الفكرية

 

ثمة أسئلة تلحّ عليّ كلما تأملت واقع أمتنا: كيف لأمةٍ أن تضمن استقرارها ومستقبلها، وهي تعتمد بشكل حاسم على مصادر خارجية لتأمين مقوّمات وجودها الأساسية من غذاء ودواء؟. ... هي أسئلةٌ تقودني دومًا إلى يقين واحد: أن الاكتفاء الذاتي الذي يركّز على وفرة الاحتياجات الحيوية، ليس خيارًا تنمويًا فقط، بل ضرورة قصوى وخط دفاع أول في مواجهة الأزمات العالمية المتكرّرة، وتقلبات الأسواق، والمخاطر الجيوسياسية.

 

أزمات الخمس سنوات الماضية، وفي مقدّمتها جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا كشفت مدى هشاشة الاقتصادات التي تعتمد، بشكل كبير، على الاستيراد، إذ يجعل الاعتماد على سلاسل إمداد عالمية طويلة ومعقدة الدول عرضة للصدمات بشكل غير مسبوق، ففي عام 2022، على سبيل المثال، شهدت أسعار القمح العالمية ارتفاعًا حادًّا في بعض الأسواق، باعتبار أن روسيا وأوكرانيا من أكبر مورّدي القمح في العالم، وتمثل صادراتهما معًا نسبة كبيرة من القمح المُتداول عالميًّا، لكن هذا الارتفاع لم يكن عبئًا ماليا فقط، بل مؤشّرًا على الضعف الهيكلي الذي يهدّد الأمن الغذائي والاجتماعي لدولٍ تعتمد على الخارج في تأمين أكثر من نصف غذائها الأساسي.

 

الاستثمار في الإنتاج المحلي، سيما في القطاع الزراعي، أولوية وجودية، فالدول التي تمتلك خطوط إنتاج مستقرّة تكون أكثر قدرة على حماية مواطنيها من نقص السلع الأساسية وارتفاع الأسعار بما يمنحها مرونة استراتيجية في اتخاذ القرارات من دون الخضوع لضغوط خارجية.

 

من نعم الله علينا أن مطقتنا تقع ضمن حزام الشمس العالمي، ما يوفر لنا ميزة تنافسية فريدة في إنتاج الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، خصوصًا أن القدرات التراكمية للطاقة الشمسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد تجاوزت 24 جيغاواط مع توقعات بنمو متسارع في السنوات المقبلة. ولا يعني استثمار هذه الموارد توفير طاقة كهربية إضافية، بل فرصة استراتيجية لتطوير صناعات محلية جديدة، وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري المستورد، وتحقيق استقلالية الطاقة، خصوصًا أن كل محطة طاقة متجدّدة يتم إنشاؤها هي أداة دفاعية واقتصادية في آن واحد، تساهم في استقرار ميزان المدفوعات، وتفتح آفاقًا اقتصادية جديدة للشباب والمستثمرين.

 

علاوة على الأمن الطاقي، يرتبط الأمن القومي ارتباطًا وثيقًا بالإنتاج المحلي، ليس من منظور عسكري فقط، بل ايضًا اجتماعي واقتصادي، فدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة يعدّ رافعة أساسية للاكتفاء الذاتي، حيث تساهم هذه المشاريع في إيجاد فرص عمل مستدامة، خصوصًا أن تقديرات البنك الدولي تفيد بأن الشركات الصغيرة والمتوسّطة توفر أكثر من 60% من الوظائف الرسمية في البلدان النامية. وبالتالي، فإن كل مشروع محلي صغير يساهم في استقرار الأسرة والمجتمع، ويحول الاكتفاء الذاتي من استراتيجية اقتصادية إلى أداة تنمية اجتماعية متكاملة.

 

كما أن التكامل العربي يشكل عنصرًا حاسمًا في تحقيق الاكتفاء الذاتي على المستوى الإقليمي، إذ لا يمكن لدولة واحدة أن تحقق اكتفاءً شاملًا، لكن شبكة تعاون عربية متكاملة في مجالات الزراعة والصناعة والطاقة قادرةٌ على إيجاد سوق موحد يقلل الهدر ويزيد الكفاءة ويوزع المخاطر.

 

التخصص في منتجات معينة وتبادل الموارد والخبرات يجعلان المنطقة أقل هشاشة وأكثر قدرة على المنافسة عالميًا، وهنا أشير إلى أن بعضهم قد يرى أن الاكتفاء الذاتي مكلفٌ وغير واقعي، وأن الاستمرار في الاستيراد هو الخيار الأرخص. وفي هذا تجاهل للتكلفة الحقيقية للتبعية في أوقات الأزمات، والتي تتجاوز بكثير التكلفة المالية للإنتاج المحلي.

 

أيها السادة، الاكتفاء الذاتي الجزئي، الذي يركز على السلع الاستراتيجية، الغذاء، والدواء، والطاقة، كافٍ لمنح الدولة مرونة واستقلالية استراتيجية من دون الانعزال عن التجارة العالمية. لذلك أقول إنه لابد لدولنا الحبيبة من اتباع الخطوة العملية بدعم الزراعة المحلية كتوفير البذور والمياه، وتبني أساليب زراعة مستدامة، خصوصًا البرمجة التفاعلية المسمّاة الذكاء الاصطناعي، وتطوير الصناعات الغذائية المرتبطة بها والتوسّع في مشاريع الطاقة المتجدّدة من خلال الاستثمار في مشاريع الطاقة الشمسية والرياح، لتغطية جزء كبير من الطلب الوطني، إضافة إلى تمكين المشاريع الصغيرة والمتوسطة من خلال تسهيلات تمويلية، وبنية تحتية، وبرامج تدريب متخصّصة، وتعزيز التكامل الإقليمي وإنشاء آليات تعاون عربية لتبادل الموارد والخبرات وتوزيع المخاطر.

 

دائما أقول إن الاستعداد للمستقبل يشبه الإبحار في مياه مجهولة؛ وكما على البحّارة توقع التيارات والأحوال الجوية المتغيرة والتكيف معها، على الدول العربية الاستعداد للتحول في الاقتصاد العالمي من خلال تطوير مهاراتها وخبراتها، خصوصًا أن التغيرات الكبرى المتوقعة ليست أزمة محتومة، بل هي فرصة استراتيجية لإعادة تشكيل ميزان القوى الاقتصادي لتحويل التحديات المناخية واللوجستية إلى ميزة تنافسية مستدامة.

 

واليوم أيضا أقول إن تنفيذ استراتيجية الاكتفاء الذاتي الاستراتيجي يمثل تحوّلًا جذريًا في قواعد اللعبة، ويجعل دولنا الحبيبة منتجة قادرة على حماية مواطنيها من تقلبات الأسواق وأزمات العالم، فمستقبل العالم العربي لن يُبنى على الاعتماد على الآخرين، بل على القدرة على الإنتاج واتخاذ القرار المستقل.

 

ليس الاكتفاء الذاتي مجرّد شعار، بل هو استثمار مباشر في حياة المواطن، وكرامة الأمة، وقدرتها على الصمود أمام أي تحديات محتملة، وكل يوم يُهدر من دون البدء في هذه الخطوات هو خسارة محتملة للأمن والاستقرار، وكل خطوة عملية هي تقدّم نحو دولة عربية أقوى وأكثر استقلالًا.