خلف الأرقام "البراقة" التي تروج لها الغرف التجارية وشعبة الأدوية عن تحقيق مبيعات قياسية بلغت 265 مليار جنيه خلال الـ 11 شهراً الأولى من العام، تختبئ حقيقة مفزعة تعكس انهيار المنظومة الصحية والقدرة الشرائية للمواطن المصري.
فبينما يحتفي المسؤولون بـ "نمو قيمة المبيعات" بنسبة 39%، يتجاهلون عمداً الحقيقة الدامغة التي يدركها كل مريض: هذه الزيادة ليست ناتجة عن وفرة أو زيادة استهلاك حقيقي، بل هي انعكاس مباشر لتضخم وحشي في أسعار الدواء وصل في بعض الأصناف إلى 200%، مما أدى عملياً إلى تراجع "كمية" الأدوية المبيعة بنسبة قد تصل إلى 50%.
وهو ما أكده الدكتور جورج عطا الله، عضو مجلس نقابة الصيادلة، الذي حذر مراراً من أن "ارتفاع قيمة المبيعات بالجنيه لا يعكس نمواً في السوق، بل هو تضخم سعري بحت"، مشيراً إلى أن الصيدليات ترصد تراجعاً حاداً في عدد الوحدات الدوائية المباعة (Units) لأن المريض لم يعد قادراً على شراء العلبة الكاملة، وأصبح يكتفي بشراء "شريط واحد" أو حتى بضعة أقراص، مما يفضح وهم الأرقام الرسمية.
المواطن المصري لم يعد قادراً على شراء دوائه، والقفزة في "قيمة" المبيعات ما هي إلا فاتورة العجز التي يدفعها المريض من لحمه الحي، بعد أن قررت حكومة الانقلاب رفع يدها عن دعم الدواء وتركته فريسة لتقلبات سعر الصرف وجشع الشركات، ليصبح العلاج في "الجمهورية الجديدة" امتيازاً للأغنياء فقط.
"خداع بصري".. انهيار القوة الشرائية وتراجع كمية المبيعات 50%
ما يروج له علي عوف، رئيس شعبة الأدوية، عن وصول المبيعات إلى 290 مليار جنيه بنهاية العام، هو في حقيقته إدانة لسياسات الحكومة لا إنجاز لها. فعندما ترتفع "قيمة" المبيعات بنحو 40% في حين أن "كمية" العبوات المباعة تراجعت فعلياً بنسبة تقدر بـ 50%، فإن ذلك يعني شيئاً واحداً: الأسعار تضاعفت بشكل جنوني.
الزيادات السعرية التي أقرتها هيئة الدواء في منتصف العام الماضي لـ 2500 صنف بنسب تراوحت رسمياً بين 25 و40%، كانت مجرد بداية. الواقع في الصيدليات يؤكد أن الزيادات الفعلية تجاوزت 100% في كثير من الأصناف الحيوية، خاصة المضادات الحيوية وأدوية الأمراض المزمنة. هذا التضخم الدوائي أجبر ملايين المرضى على تقليص جرعاتهم العلاجية أو الاستغناء عن بعض الأدوية تماماً، مما ينذر بكارثة صحية صامتة، حيث يموت الفقراء لأنهم لا يملكون ثمن "شريط الدواء".
وفي هذا السياق، يرى الدكتور محمود فؤاد، المدير التنفيذي للمركز المصري للحق في الدواء، أن السياسات الحالية وضعت المريض المصري أمام "موت محقق"، مؤكداً في تصريحات صحفية سابقة أن اختفاء الأدوية الرخيصة لصالح بدائل باهظة الثمن هو "جريمة مكتملة الأركان"، وأن ما يحدث هو عملية "إحلال وتبديل" قسرية تجبر الفقراء على الخروج من منظومة العلاج تماماً، في ظل غياب أي مظلة حماية اجتماعية حقيقية.
المكملات الغذائية.. "بيزنس" بلا رقابة ينهب جيوب المرضى
الكارثة لا تتوقف عند الأدوية الأساسية، بل تمتد لمافيا "المكملات الغذائية" التي كشف محفوظ رمزي، رئيس لجنة التصنيع الدوائي، عن دورها المشبوه في تضخيم فاتورة العلاج. فقد تحولت هذه المكملات إلى "دجاجة تبيض ذهباً" للشركات، حيث زاد متوسط أسعارها بنحو 200%، مستغلة غياب التسعير الجبري.
وفي ظل تواطؤ حكومي وغياب للرقابة، توسعت الشركات في الترويج لهذه المكملات لدى الأطباء، ليتحول "الروشتة الطبية" إلى فاتورة باهظة مليئة بالفيتامينات (C و D والزنك) بأسعار فلكية، يدفعها المريض المغلوب على أمره ظناً منه أنها ضرورية للعلاج.
وهو الملف الذي فتحه الدكتور هاني سامح، الباحث في شؤون الدواء، والذي وصف سوق المكملات بأنه "باب خلفي للتربح الفاحش"، موضحاً أن شركات الدواء الكبرى هربت من تسعيرة الدواء الجبرية إلى سوق المكملات الغذائية "المحرر" لفرض أسعار خيالية على منتجات بسيطة التكلفة، مستغلة ضعف الرقابة من هيئة سلامة الغذاء، ليتحول المرض إلى "بيزنس" ينهب جيوب المواطنين.
إنفاق المصريين 41 مليار جنيه على المكملات ليس دليلاً على الرفاهية، بل هو دليل على استغلال الخوف من المرض، في وقت تقف فيه وزارة الصحة موقف المتفرج أمام هذه الفوضى السعرية التي تستنزف ما تبقى في جيوب المواطنين.
الغذاء والدواء.. ثنائية الموت والجوع
إذا كانت أسعار الدواء -التي يفترض أنها مسعرة جبرياً- قد قفزت بهذه النسب الفلكية، فما بالك بأسعار الغذاء؟ المعادلة بسيطة ومرعبة: إذا كان الدواء زاد بنسبة 200% (كما في المكملات) وتراجعت القوة الشرائية للدواء بنسبة 50%، فإن هذا المؤشر ينسحب بالضرورة على سلة الغذاء.
التقديرات الاقتصادية المستنبطة من واقع سوق الدواء تشير إلى أن تضخم أسعار الغذاء الحقيقي قد تجاوز الـ 150% خلال العام الأخير. فالدواء والغذاء هما آخر ما يستغني عنه الإنسان، وعندما يعجز المواطن عن شراء الدواء، فهذا يعني أنه قد عجز بالفعل عن توفير الغذاء الكافي لأسرته.
حكومة الانقلاب، بقرارات تحرير سعر الصرف ورفع الدعم، لم تكتفِ بتجويع الشعب، بل حرمته من حقه في العلاج، واضعة إياه بين خيارين: الموت جوعاً أو الموت مرضاً، بينما تكتفي هي بإصدار بيانات وردية عن "نمو المبيعات" و"زيادة الصادرات"، في انفصال تام عن واقع الألم الذي يعيشه كل بيت مصري.

