في خطوة جديدة تؤكد استمرار نهج "البيع" كحل وحيد للأزمات الاقتصادية المتفاقمة، واصلت حكومة الانقلاب سياسة التفريط في الأصول الاستراتيجية وأراضي الدولة المميزة لصالح المستثمرين الأجانب.

 

فتحت شعار "جذب الاستثمار الأجنبي المباشر"، أبرمت الحكومة حزمة جديدة من الاتفاقيات مع الجانب القطري، تتضمن تسليم مساحات شاسعة من الساحل الشمالي وقطاعات حيوية، في وقت يحذر فيه الخبراء من أن هذه الصفقات ليست سوى محاولات يائسة لسداد فاتورة الديون التي أغرقت فيها السلطة البلاد، على حساب السيادة الاقتصادية ومستقبل الأجيال القادمة.

 

ولم يعد الأمر يقتصر على مجرد استثمارات، بل تحول إلى ما يشبه "المزاد المفتوح"؛ حيث كشفت التقارير عن توقيع اتفاقية ضخمة مع شركة "الديار القطرية" للاستحواذ على منطقة "علم الروم" بالساحل الشمالي، بالتوازي مع دخول شركة "المانع" القطرية في قطاع الطاقة، في مشهد يعكس تدافع الحكومة لتقديم التنازلات بحثاً عن الدولار بأي ثمن.

 

"علم الروم".. بيع الساحل الشمالي قطعة بقطعة

 

في صفقة تعيد للأذهان سيناريو "رأس الحكمة"، كشفت البيانات عن تفريط الحكومة في 4900 فدان من أجمل شواطئ مصر بمنطقة "علم الروم" لصالح شركة "الديار القطرية" – الذراع العقارية للصندوق السيادي القطري.

 

وتأتي هذه الصفقة بقيمة إجمالية معلنة 29.7 مليار دولار، إلا أن التدقيق في الأرقام يكشف أن الحكومة باعت الأرض مقابل سيولة نقدية فورية بقيمة 3.5 مليار دولار فقط، بينما باقي المبلغ هو استثمارات عينية آجلة.

 

ويرى مراقبون أن هذا النمط من الاتفاقيات يؤكد عجز الحكومة عن إدارة موارد الدولة، ولجوئها لبيع الأراضي المميزة لسد الفجوات التمويلية.

 

هذا التوجه انتقدته بشدة الخبيرة الاقتصادية الدكتورة علياء المهدي، العميدة السابقة لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، التي طالما حذرت في تصريحات سابقة من خطورة "بيع الأصول الرابحة والمميزة" لسداد الديون أو لتوفير سيولة دولارية مؤقتة، مؤكدة أن الاعتماد على بيع الأراضي هو حل "قصير النظر" يفقد الدولة مواردها المستدامة ويحولها إلى مجرد "سمسار" عقارات بدلاً من بناء قاعدة إنتاجية حقيقية.

 

اعترافات رسمية: "الديون أصبحت مزعجة وتلتهم الدولة"

 

المفارقة أن التحذيرات من خطورة الوضع المالي لم تأتِ من المعارضة فحسب، بل من أصوات محسوبة على النظام نفسه أو قريبة من دوائر صنع القرار الاقتصادي.

 

فقد أكد الدكتور مدحت نافع، عضو هيئة التدريس بكلية الاقتصاد بجامعة القاهرة ومستشار وزير التموين السابق، في تصريحاته الأخيرة، أن مستوى الدين في مصر وصل إلى مرحلة "مزعجة".

 

وقال نافع بوضوح: "حتى لو لم يكن هذا المستوى مزعجاً لوزارة المالية، فإن خدمة الدين تلتهم الكثير من موارد الدولة". هذا التصريح يكشف حجم الكارثة؛ فالحكومة تبيع الأصول ليس للتنمية، بل لتدفع فوائد الديون التي راكمتها عبر مشاريع فنكوشية لا طائل منها.

 

وأشار نافع إلى أن الحكومة تحاول الآن استبدال الاقتراض ببيع الأصول (الاستثمارات)، وتحويل الديون إلى حصص ملكية للأجانب في الشركات المصرية، وهو ما يعني عملياً نقل ملكية الاقتصاد الوطني للخارج تدريجياً.

 

"تسييل مصر".. والهروب من الإنتاج إلى الريع

 

وبينما تروج الحكومة لصفقة وقود الطائرات مع شركة "المانع" القطرية بقيمة 200 مليون دولار كإنجاز، يرى الخبير الاقتصادي هاني توفيق أن المنهجية الاقتصادية الحالية القائمة على بيع الأصول وسحب السيولة من خلال أدوات الدين أو بيع الأراضي، لن تجدي نفعاً على المدى الطويل دون إصلاح هيكلي.

 

توفيق، الذي طالما انتقد سياسات البنك المركزي والحكومة، يرى في تحليلاته المستمرة أن "بيع أثاث المنزل لدفع الإيجار" – في إشارة لبيع الأصول لسداد الديون – هو سياسة انتحارية.

 

ويؤكد أن التركيز على قطاعات مثل العقارات (الساحل الشمالي) بدلاً من الصناعة والزراعة والتصدير الحقيقي، يضع الاقتصاد المصري في مهب الريح ويجعله رهينة لتقلبات "الأموال الساخنة" ورغبات الصناديق السيادية الخليجية التي تبحث عن الربح السريع واقتناص الفرص بأسعار بخسة نتيجة تدهور الجنيه المصري.

 

إن تسليم مناطق استراتيجية في "المنطقة الاقتصادية لقناة السويس" والساحل الشمالي للشركات الأجنبية، مع تقديم حزم من الإعفاءات والتسهيلات التي يُحرم منها المستثمر المحلي، يؤكد أن حكومة الانقلاب لم يعد لديها ما تقدمه سوى "البيع"، مضحية بالسيادة الاقتصادية في سبيل البقاء في السلطة يوماً إضافياً.