في خطوة تكشف عن إفلاس سياسي واقتصادي كامل، أعلنت حكومة الانقلاب عن تحديث ما يسمى "وثيقة سياسة ملكية الدولة"، في إجراء يهدف ظاهريًا لـ"تمكين القطاع الخاص"، بينما يمثل في جوهره إعلان استسلام كامل لإملاءات صندوق النقد الدولي، ومحاولة يائسة لجمع أي سيولة دولارية لسداد فاتورة الديون الباهظة التي أغرق فيها النظام العسكري البلاد.
التحديث الجديد يأتي كضوء أخضر لبيع ما تبقى من أصول الدولة، بالتزامن مع انتهاء بعثة الصندوق من المراجعتين الخامسة والسادسة، ليؤكد أن النظام لا يملك أي حلول للأزمة سوى بيع "لحم الحي" والتفريط في السيادة الاقتصادية.
وبينما يروج رئيس وزراء الانقلاب، مصطفى مدبولي، للوثيقة باعتبارها "ديناميكية" وتعكس "تغيرات الاقتصاد العالمي"، يرى خبراء أن هذه المصطلحات المنمقة ليست سوى غطاء لعملية تصفية ممنهجة لـ 62 نشاطًا اقتصاديًا حيويًا، تشمل كل شيء من الزراعة والصناعة وصولًا إلى الفنادق وتجارة التجزئة، في أكبر عملية خصخصة تشهدها مصر، تهدد بتسريح آلاف العمال ورفع الأسعار بشكل جنوني.
بيع "أمن الدولة الغذائي".. الانسحاب من الزراعة والثروة الحيوانية
الوثيقة الجديدة لا تكتفي ببيع المصانع الخاسرة كما يزعم النظام، بل تمتد لتشمل انسحاب الدولة من قطاعات تمس الأمن الغذائي المباشر للمواطنين، مثل الاستزراع السمكي والثروة الحيوانية.
يعلق الخبير الاقتصادي الدكتور عبد النبي عبد المطلب على هذا التوجه قائلًا: "انسحاب الدولة من قطاعات الغذاء في توقيت تشهد فيه الأسعار تضخمًا غير مسبوق هو جريمة مكتملة الأركان. ترك هذه القطاعات بالكامل لآليات السوق والقطاع الخاص، الذي يهدف للربح فقط، يعني أن المواطن الفقير لن يجد من يحميه من جشع التجار. الدولة هنا تتخلي عن دورها الاجتماعي وتتحول لسمسار يبيع الأصول لمن يدفع، دون اعتبار للأمن الغذائي القومي".
وبينما تزعم الحكومة أنها ستكتفي بدور "المنظم" في بعض القطاعات، فإن الواقع يشير إلى بيع أصول استراتيجية تحت مسميات "الإدارة والتشغيل"، كما حدث مؤخرًا مع طرح مطار الغردقة، وكما يخطط لقطاعات أخرى.
يؤكد الدكتور شريف عثمان، الخبير في الاقتصاد السياسي، أن "مصطلحات مثل (مستثمر استراتيجي) و(إشراك القطاع الخاص في الإدارة) هي كلمات تجميلية لبيع الأصول السيادية. النظام يبيع المطارات والموانئ والفنادق التاريخية لسداد أقساط ديون لا دخل للمواطن بها. الخطورة هنا ليست فقط في البيع، بل في أن العائد من هذه المبيعات لا يذهب للتنمية أو لبناء مصانع جديدة، بل يتبخر في سداد فوائد الديون أو في مشروعات (الشو) التي لا جدوى منها".
تسريح العمالة.. القنبلة الموقوتة القادمة
ومع تأكيد الدكتور الحسين حسان على خروج الدولة من صناعات كثيفة العمالة مثل الغزل والنسيج والأخشاب والجلود، تتصاعد المخاوف بشأن مصير مئات الآلاف من العمال. ورغم مطالبة الدكتور السيد خضر بـ"خطط تعويض"، إلا أن التجارب السابقة لا تبشر بخير.
تضيف الدكتورة علياء المهدي، العميد السابق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، رأيًا حادًا في هذا السياق: "الحديث عن حماية العمالة في عقود الخصخصة هو حبر على ورق. المستثمر الجديد سيقوم بإعادة هيكلة تعني بالضرورة تقليل العمالة لتعظيم الأرباح. نحن مقبلون على موجة تسريح ضخمة ستزيد من معدلات البطالة والفقر. الحكومة لا تملك خطة حقيقية لامتصاص هذه العمالة، بل تلقي بهم إلى المجهول، في وقت تتآكل فيه القوة الشرائية للجميع".
62 نشاطًا للبيع.. تجريف الاقتصاد الوطني
القائمة التي كشف عنها التقرير، والتي تشمل الصناعات الهندسية والإلكترونية وتجارة التجزئة، تعني تفريغ الدولة من أي أدوات إنتاجية حقيقية، وتحويل الاقتصاد المصري إلى اقتصاد ريعي وخدمي يعتمد على الاستيراد والخدمات السياحية الهشة.
يختتم المحلل المالي هاني جنينة الرؤية قائلًا: "ما يحدث هو تجريف للاقتصاد. عندما تتخارج الدولة من 62 نشاطًا خلال 3 سنوات فقط، فهذا ليس إصلاحًا، بل هو (Fire Sale) أو بيع المضطر. هذه السرعة في التخارج ستؤدي حتمًا لبيع الأصول بأقل من قيمتها الحقيقية، لأن المشتري يعلم أن البائع (الحكومة) مخنوق بالديون ويحتاج للدولار بأي ثمن. الأجيال القادمة هي من ستدفع ثمن هذا التفريط، عندما تجد نفسها في دولة لا تملك أرضها ولا مصانعها ولا قرارها الاقتصادي".
وهكذا، تمضي حكومة الانقلاب في طريقها المرسوم من قبل صندوق النقد، غير عابئة بالتحذيرات، لتبيع ما تبقى من أصول الدولة في مزاد مفتوح، محولة مصر إلى "شركة مساهمة" يملك الأجانب والقطاع الخاص مفاتيح إدارتها، بينما يقف المواطن عاجزًا يدفع فاتورة الفشل مرتين: مرة بالديون التي لم يستفد منها، ومرة ببيع أصول بلاده لسداد تلك الديون.

