في مشهد يعكس حجم التناقضات الفجة التي باتت تحكم سياسات النظام المصري، وتكشف عن عمق الأزمة المالية التي تعصف بالبلاد، شهد رئيس حكومة الانقلاب مصطفى مدبولي، بمقر العاصمة الإدارية الجديدة، توقيع عقد مشروع شركة "المانع" القابضة القطرية لإنتاج وقود الطائرات المستدام (SAF) في منطقة السخنة.

 

المشروع الذي تبلغ تكلفته الاستثمارية 200 مليون دولار (حوالي 9.6 مليار جنيه)، يُسوق له إعلاميًا كـ"إنجاز استثماري"، بينما يراه مراقبون حلقة جديدة في مسلسل بيع الأصول وتأجير الأراضي المصرية للأجانب بحثًا عن أي سيولة دولارية تنقذ الموازنة المنهارة، حتى لو جاءت من أطراف كان النظام يصفهم بالأمس القريب بـ"رعاة الإرهاب".

 

الاتفاقية التي تمنح الشركة القطرية 100 ألف متر مربع من أراضي المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، لإنتاج 200 ألف طن سنويًا من الوقود الأخضر، تأتي بالتزامن مع انعقاد منتدى الأعمال المصري القطري، لتؤكد أن "السيادة الوطنية" و"الكرامة السياسية" قد سقطتا تمامًا أمام سطوة الحاجة إلى الدولار، وأن النظام مستعد لتقديم أي تنازلات لمن يدفع "الكاش".

 

استنزاف الموارد المحلية لصالح "شل" العالمية: مصر مجرد "أرض ومكب"

 

في تفاصيل الصفقة "الشيطانية" التي تغيب عنها مصلحة المواطن المصري، يكشف العقد أن شركة "المانع" أبرمت اتفاقًا مسبقًا لبيع كامل إنتاج المصنع لشركة "شل" العالمية. وهذا يعني ببساطة أن مصر تحولت في هذه المعادلة إلى مجرد "مستضيف" يقدم الأرض الاستراتيجية في منطقة السخنة، ويسمح باستنزاف موارده من "زيوت الطعام المستعملة" (المادة الخام للمشروع)، بينما تذهب القيمة المضافة الحقيقية والمنتج النهائي المتطور (وقود الطائرات النظيف) إلى الشركات العالمية والدول الغربية.

 

بدلًا من أن تقوم الدولة بتوطين هذه الصناعة الحيوية بنفسها، أو تعظيم الاستفادة من مخلفات الزيوت التي يعاد تدويرها حاليًا بشكل ضار في الأسواق الشعبية، يقرر النظام تسليم هذا الملف "تسليم مفتاح" للمستثمر الأجنبي. المشروع لا يخدم السوق المحلي ولا قطاع الطيران الوطني المتهالك، بل هو مشروع "تصديري" بامتياز، يستغل رخص العمالة المصرية وموقع السخنة المتميز، ليحقق أرباحًا طائلة لقطر وشل، بينما يكتفي النظام بفتات الرسوم والضرائب، في تكريس لنموذج "اقتصاد الجيوب" (Enclave Economy) الذي يفصل المناطق الاستثمارية عن واقع الشعب المطحون.

 

نفاق السياسة: عندما يتحول "العدو" إلى "شريك استراتيجي"

 

لا يمكن قراءة هذا الاستثمار القطري الأول من نوعه في المنطقة الاقتصادية بمعزل عن الذاكرة القريبة للمصريين. فبعد سنوات من الشحن الإعلامي الممنهج الذي قاده النظام وأذرعه ضد الدوحة، واتهامها بتمويل الإرهاب والتآمر على الدولة، يجلس اليوم مصطفى مدبولي مبتسمًا لتوقيع العقود، متحدثًا عن "الرغبة الصادقة" و"العلاقات الأخوية".

 

هذا التحول الراديكالي يكشف أن معارك النظام لم تكن يومًا من أجل مبادئ وطنية أو أمن قومي، بل كانت مناكفات سياسية انتهت بمجرد جفاف "الرز" من الحلفاء التقليديين. الهرولة نحو الاستثمارات القطرية، وبيع الأصول والموانئ والمشاريع الصناعية للدوحة وأبوظبي، يؤكد أن شرعية هذا النظام باتت مستمدة فقط من الدعم المالي الخارجي، وأنه مستعد لمحو تاريخ كامل من العداء المصطنع مقابل 200 مليون دولار، وهو مبلغ زهيد لا يكفي لتغطية خدمة الدين لأيام معدودة في ظل الفجوة التمويلية الهائلة.

 

أوهام "الطاقة الخضراء" والواقع المظلم للمصريين

 

بينما يحتفل إعلام النظام بتوقيع عقود لإنتاج "وقود الطائرات المستدام" و"البايوبروبين"، يعيش المواطن المصري واقعًا بائسًا من انقطاع الكهرباء، وشح الوقود التقليدي، وارتفاع جنوني في أسعار الطاقة. المفارقة هنا صارخة؛ حكومة تفشل في توفير الغاز لمحطات الكهرباء وتترك الشعب يغرق في الظلام، تتفاخر بتصدير الوقود الأخضر للعالم!

 

مشروع "ساف فلاي ليمتد" ليس إلا محاولة "غسل أخضر" (Greenwashing) لنظام فشل في إدارة ملف الطاقة التقليدية، ويريد تقديم نفسه للمجتمع الدولي كشريك في الحفاظ على البيئة، بينما هو يدمر البيئة الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين. إن تخصيص 100 ألف متر مربع من أراضي الدولة لمشروع لا يعود نفعه المباشر على المواطن، بل يخدم أجندات شركات الطاقة العالمية، هو استمرار لسياسة "بيع مصر بالقطعة"، حيث تتحول الموارد والأراضي إلى سلع في مزاد مفتوح لسداد فواتير فشل وتخبط السياسات الاقتصادية للنظام العسكري.

 

في النهاية، هذه الصفقة ليست استثمارًا تنمويًا، بل هي "عقد إذعان" جديد، يثبت أن النظام لا يملك أي رؤية اقتصادية سوى الجباية وبيع الأصول، وأن شعارات السيادة تسقط دائمًا عند أول شيك مصرفي.