وقف زهران ممداني، عمدة نيويورك المنتخب، أمام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب داخل المكتب البيضاوي، وبكل ثقة وهدوء وبدون وجل، أعلن أمام الصحفيين أن "الحكومة الإسرائيلية ترتكب إبادة جماعية في غزة والولايات المتحدة تمولها"، في مشهد تاريخي يكشف الفارق الهائل بين ثقافة الديمقراطية الحقيقية وثقافة الخوف التي زرعتها الأنظمة العربية في شعوبها.

 

في لحظة نادرة داخل أروقة السلطة الأمريكية، كان ممداني أول ضيف في البيت الأبيض يتهم إسرائيل علناً بارتكاب إبادة جماعية أمام رئيس أمريكي.

 

بينما ابتسم ترامب وربت على ذراع ممداني قائلاً مازحاً: "لا بأس، يمكنك أن تقول نعم فقط، هذا أسهل من الشرح"، لم يرتعش ممداني ولم يتراجع عن موقفه. هذا المشهد يطرح سؤالاً مؤلماً: لماذا يستطيع سياسي أمريكي من أصول باكستانية أن يتحدث بحرية مطلقة أمام أقوى رجل في العالم، بينما يرتعش المسؤولون العرب خوفاً أمام رؤسائهم؟

 

جرأة ممداني.. عندما تتحدث الديمقراطية الحقيقية

 

عندما سأله صحفي عن الشرق الأوسط، أجاب ممداني بوضوح تام: "لقد تحدثت عن ارتكاب الحكومة الإسرائيلية إبادة جماعية، وتحدثت عن تمويل حكومتنا لها".

 

لم يكن هناك تلعثم، ولا تراجع، ولا خوف من عواقب الكلام الصريح. وأضاف: "الإبادة الجماعية التي ترتكبها الحكومة الإسرائيلية في غزة لا يمكن السكوت عنها"، مشدداً على أن "الولايات المتحدة شريك في هذه الجريمة".

 

ممداني لم يكتفِ بالإدانة الشفهية، بل أعاد التأكيد على وعده باعتقال رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو إذا دخل نيويورك، تنفيذاً لمذكرة الاعتقال الدولية الصادرة بحقه. هذا الموقف الشجاع يأتي في وقت كان فيه ترامب قد هدد بخفض المساعدات الفيدرالية لنيويورك، وألمح إلى إرسال الحرس الوطني إلى المدينة، بل إن بعض الجمهوريين طالبوا بالتحقيق في جنسية ممداني ومحاولة نزعها. ورغم كل هذه التهديدات، وقف ممداني صامداً لا يخشى في قول الحق لومة لائم.


https://x.com/NasserIbnHamad/status/1992154861497209244

 

ثقافة الخوف في الأنظمة العربية

 

لو كان ممداني مسؤولاً عربياً يتحدث أمام رئيس بلاده، لوجدته يرتعش خوفاً، يتلعثم في كلامه، ويتراجع عن كل موقف له قبل أن ينطق به. الأنظمة العربية جعلت من زرع الخوف ثقافة، ومن الفرعنة والاستبداد سياسة راسخة. المسؤول العربي لا يجرؤ على مخالفة رئيسه حتى في أبسط الأمور، فما بالك بمواجهته بحقائق مزعجة أو انتقاد سياساته علناً؟

 

في العالم العربي، يُعتقل الصحفيون والنشطاء لمجرد تغريدة تنتقد الحكومة، بينما يمارس ممداني حقه الديمقراطي في الاختلاف مع الرئيس الأمريكي أمام كاميرات العالم دون أن يخشى الاعتقال أو المحاسبة. الفارق ليس في الأشخاص، بل في الأنظمة: أنظمة تؤمن بحرية التعبير وتحترم الاختلاف، وأنظمة تقمع أي صوت معارض وتحوّل المواطنين إلى رعايا خائفين.

 

رد فعل ترامب.. درس في التعامل الديمقراطي

 

رغم أن ترامب معروف بمزاجه الحاد ورده العنيف على منتقديه، إلا أنه تعامل مع ممداني باحترام ملحوظ. قال ترامب: "أنا أعمل مع كل شخص"، وأضاف: "لقد اتُّهمت بأشياء أسوأ من الطاغية، لذا فهذا ليس مهيناً للغاية. ربما يغير رأيه بعد أن نعمل معاً". بل إن ترامب أشاد بممداني قائلاً: "لقد خاض سباقاً انتخابياً لا يصدق ضد أشخاص أقوياء وأذكياء جداً... كلما نجح أكثر، كلما كنت أسعد".

 

هذا المشهد يكشف جوهر الديمقراطية: الاختلاف في الرأي لا يعني العداوة الشخصية، والنقد العلني لا يستوجب الانتقام أو التصفية. ترامب وممداني اتفقا على العمل معاً لخدمة نيويورك رغم خلافاتهما الجذرية حول القضية الفلسطينية والهجرة وسياسات الشرطة. بينما في العالم العربي، يكفي أن تختلف مع الحاكم لتُتهم بالخيانة وتُزج في السجون.

 

ممداني والقضية الفلسطينية.. التزام لا يتزعزع

 

زهران ممداني، الذي سيؤدي اليمين الدستورية كعمدة لنيويورك في الأول من يناير 2026، معروف بدعمه القوي للشعب الفلسطيني وقيادته لمسيرات مناهضة للحرب في غزة. وخلال لقائه مع ترامب، أكد ممداني أن أموال دافعي الضرائب الأمريكيين تُستخدم لدعم الانتهاكات الإسرائيلية، مشدداً على ضرورة توجيه هذه الموارد لخدمة المواطنين الأمريكيين بدلاً من تمويل الحروب.

 

وفي إشارة إلى التزامه بالقيم الإنسانية، قال ممداني: "أؤمن بضرورة احترام حقوق الإنسان الدولية، والتي للأسف لا تزال تُنتهك"، في إشارة واضحة لما يحدث في غزة. كما شدد على التزامه بمحاربة معاداة السامية وحماية الجالية اليهودية، رداً على الانتقادات التي طالت احتجاجاته المناهضة للحرب. هذا الموقف المتوازن الذي يدافع عن الفلسطينيين دون معاداة اليهود هو نموذج للنضال الحقوقي الذي تفتقده الخطابات العربية الرسمية.

 

الدرس المؤلم للأنظمة العربية

 

مشهد ممداني أمام ترامب يقدم دروساً قاسية للأنظمة العربية التي تدعي الدفاع عن القضية الفلسطينية بينما تقمع شعوبها وتمنعها من التعبير عن آرائها. بينما يستطيع سياسي أمريكي من أصول باكستانية أن يواجه الرئيس الأمريكي بجريمة تمويل الإبادة في غزة، يُسجن الصحفيون العرب لمجرد التغطية الموضوعية لما يحدث هناك.

 

الأنظمة العربية زرعت الخوف في نفوس المواطنين حتى أصبح المسؤول يرتعش أمام رئيسه، والمواطن يخشى التعبير عن رأيه حتى في بيته. الفرعنة أصبحت سياسة راسخة، والحاكم أصبح فوق النقد والمساءلة، بينما يُطالب الشعب بالطاعة العمياء. هذه الثقافة المريضة هي السبب الحقيقي وراء تخلف العالم العربي وعجزه عن مواجهة التحديات.

 

عندما تكون الديمقراطية الأمريكية أكثر جرأة من العروبة
المفارقة المؤلمة هي أن ممداني، الذي يعيش في قلب الإمبراطورية الأمريكية الداعمة لإسرائيل، يستطيع أن يدين الإبادة في غزة ويتعهد باعتقال نتنياهو دون أن يُمس بسوء. بينما المواطن العربي في بلده، الذي من المفترض أن يدعم القضية الفلسطينية رسمياً، يُعتقل إذا تجرأ على انتقاد تطبيع حكومته مع إسرائيل أو صمتها على المجازر.

 

هذا ليس مديحاً للنظام الأمريكي، بل فضحاً للأنظمة العربية التي تدعي الوطنية والقومية بينما تمارس أبشع أشكال القمع ضد شعوبها. الديمقراطية الحقيقية، حتى في بلد يدعم إسرائيل، تسمح لممداني بأن يقول الحق دون خوف. أما في العالم العربي، فإن قول الحق قد يكلف المرء حريته أو حياته.

 

موقف ممداني ليس مجرد لحظة سياسية عابرة، بل هو درس في الشجاعة والمبادئ، ودرس في الفارق بين أنظمة تحترم حرية التعبير وأنظمة تقمعها. إنه تذكير مؤلم بأن الشعوب العربية تستحق أفضل من حكام جعلوا من الخوف ثقافة ومن الاستبداد منهجاً.