تتحول المدارس المصرية، تلك الصروح التي يفترض أن تكون ملاذًا آمنًا للطفولة ومعقلًا للتربية والتعليم، إلى مسارح للعنف والإهمال المنظم بحق الأطفال. فمن كسور وإصابات خطيرة نتيجة الإهمال المتعمد، إلى حبس واحتجاز بسبب الفقر، وصولًا إلى الضرب والإذلال على يد المدرسين والإداريين، تشهد المؤسسات التعليمية موجة عنف غير مسبوقة تكشف فشلًا حكوميًا ذريعًا في حماية الأطفال وضمان حقوقهم الأساسية. هذا الواقع المرير يطرح سؤالًا صادمًا: هل أصبحت المدارس المصرية تشكل خطرًا على أطفالنا بدلًا من حمايتهم؟
الإهمال القاتل: حادث الترمبولين بمصر الجديدة
في مشهد يعكس حجم الاستهتار بأرواح الأطفال، سقط عدد من طلاب الصفوف من الأول حتى الثالث الابتدائي من ارتفاع 7 أمتار في مدرسة النصر للغات القومية بمصر الجديدة، بعد انفجار "ترمبولين هوائي" استأجرته المدرسة بشكل غير رسمي لإقامة يوم ترفيهي مقابل 300 جنيه من كل طالب. وبحسب شهادات أولياء الأمور، أصيبت تلميذة بحالة حرجة تضمنت نزيفًا في المخ ودخولها في غيبوبة، بينما عانى آخرون من كسور متفرقة وكدمات. الأخطر من الحادث نفسه كان محاولة إدارة المدرسة التستر على الكارثة والضغط على أولياء الأمور بالصمت والتهديد بفصل أطفالهم.
رغم نفي وزارة التربية والتعليم لصحة الأنباء عن خطورة الإصابات، وتأكيدها أن الحالة الصحية للطفلة مستقرة، إلا أن هذا التضارب في الروايات يكشف نمطًا معتادًا من التعتيم الحكومي على فضائح المؤسسات التعليمية. فكيف يمكن للمدارس استئجار ألعاب هوائية من جهات مجهولة دون ضوابط سلامة، ولماذا تفشل الوزارة في وضع آليات رقابية صارمة تحمي الأطفال من إهمال الإدارات المدرسية الجشعة؟
عقاب الفقراء: حبس واحتجاز بسبب المصروفات الدراسية
في مشهد آخر يفضح تحول التعليم لسلعة طبقية، قامت مدرسة "نيو كابيتال" الخاصة بالتجمع الخامس بحبس طالبة داخل فصل منفصل لمدة تجاوزت 3 ساعات، مع حرمانها من الشرب ودخول الحمام، بسبب تأخر ولي أمرها عن سداد المصروفات الدراسية. وبحسب شكوى رسمية قدمها والد الطفلة فريدة أحمد، تم استدعاء ابنته مع مجموعة أخرى من الطلاب المتأخرين عن السداد ووضعهم في "فصل العار" دون إخبارهم بالسبب، في ممارسة تشبه التعذيب النفسي المنظم.
ولم تكن هذه الواقعة معزولة، ففي طنطا بالغربية، قام مدير المدرسة الثانوية الزراعية بنين بمنع الطلاب من دخول المدرسة والتهديد برسوبهم، مع توجيه ألفاظ مهينة لهم أمام زملائهم بسبب عدم سداد المصروفات. وانتشر مقطع فيديو يظهر المدير وهو يعلن أسماء الطلاب غير المسددين ويقرر "إسقاطهم" من التقييمات القادمة، في مشهد يعكس انهيار القيم التربوية وتحول المدرسة لأداة قمع طبقي. رغم استبعاد المدير وإحالته للتحقيق، إلا أن هذه الحوادث تكشف عمق الأزمة في منظومة تعليمية تعاقب الأطفال على فقر أسرهم.
ضرب وإذلال: المعلمون يتحولون لجلادين
في الإسكندرية، انتشر مقطع فيديو صادم لمعلم (مدير مدرسة قومية) يعتدي بوحشية على طالب بالصفع المتكرر والركل أمام زملائه خلال الطابور الصباحي، بينما يقف المدرسون الآخرون متفرجين دون تدخل. المشهد المروع يظهر الطفل وهو يسقط أرضًا بعد الاعتداء المتكرر، في انتهاك صارخ لكرامته الإنسانية وحقوقه الأساسية. ورغم تشكيل لجنة تحقيق وإيقاف المدير عن العمل، إلا أن تكرار مثل هذه الحوادث يكشف غياب الرادع الحقيقي والثقافة المؤسسية القائمة على القمع والعنف.
في واقعة أخرى، ظهر طالب بيده اليسرى مضروبة بينما يده اليمنى مكسورة، في دليل على ممارسات العقاب البدني المستمرة التي يتعرض لها الأطفال داخل الفصول دون محاسبة حقيقية. هذه الحوادث تؤكد تحول بعض المعلمين والإداريين إلى "جلادين" يمارسون العنف الجسدي والنفسي على الأطفال في بيئة يفترض أن تكون تربوية.
أرقام مفزعة: 70% من الأطفال ضحايا للعنف
الإحصاءات الرسمية تكشف حجم الكارثة، فتشير تقارير مرصد الأزهر إلى أن أكثر من 70% من أطفال مصر يتعرضون للتنمر والعنف داخل المدارس. فيما رصد المجلس القومي للأمومة والطفولة 289 حالة عنف ضد الأطفال داخل المؤسسات التعليمية خلال عام واحد، منها 103 بلاغات عنف بدني. وأكدت دراسة لقسم بحوث الجريمة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أن 30% من التلاميذ يمارسون أشد أنواع العنف في المدارس، وأن نسبة 80% منهم تورطوا في أعمال عنف بدرجات متفاوتة.
الأخطر أن المدارس الحكومية سجلت أعلى معدلات العنف بنسبة 76.18% من إجمالي الحالات، بحسب تقرير للمؤسسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفولة. هذه الأرقام الصادمة تكشف أن العنف المدرسي لم يعد ظاهرة عابرة، بل أصبح سمة بنيوية في المنظومة التعليمية تهدد مستقبل أجيال كاملة.
فشل حكومي وغياب المحاسبة
رغم القرارات "العاجلة" التي تعلنها وزارة التربية والتعليم بعد كل فضيحة، كوضع مدارس تحت الإشراف أو استبعاد مديرين، إلا أن استمرار الحوادث يكشف فشل الحكومة في معالجة الأسباب الجذرية للمشكلة. فغياب الرقابة الحقيقية على المدارس الخاصة والدولية، وضعف التدريب التربوي للمعلمين، وانتشار ثقافة العنف والعقاب البدني، وتحول التعليم لسلعة تجارية، كلها عوامل تساهم في تفاقم الأزمة.
الحكومة التي تتشدق بالحديث عن "حماية الطفولة" و"تطوير التعليم"، تفشل في توفير الحد الأدنى من السلامة والكرامة للأطفال داخل المؤسسات التعليمية. فمتى ستتوقف هذه الحكومة عن التعامل مع حوادث العنف المدرسي كـ"كوارث فردية" تُحل بقرارات شكلية، وتبدأ في إصلاح جذري للمنظومة التعليمية ومحاسبة حقيقية للمسؤولين عن هذا الفشل الذريع؟
طفولة مهدرة ومستقبل مظلم
المدارس المصرية لم تعد مكانًا آمنًا للتعلم والنمو، بل تحولت إلى ساحات للعنف والإذلال والإهمال المنظم. من حوادث السقوط من ارتفاعات شاهقة بسبب الاستهتار بمعايير السلامة، إلى حبس الأطفال الفقراء وتعذيبهم نفسيًا لعجز أسرهم عن سداد المصروفات، وصولًا إلى الضرب والركل والصفع على يد من يفترض أن يكونوا قدوة تربوية، تكشف هذه الممارسات انهيارًا أخلاقيًا ومؤسسيًا شاملًا.
ما يحدث داخل المدارس المصرية ليس مجرد "حوادث فردية"، بل هو جريمة منظمة ضد الطفولة تقترفها منظومة تعليمية فاشلة تحت إشراف حكومة عاجزة عن حماية أبسط حقوق الإنسان. وطالما استمر هذا الفشل الحكومي وغياب المحاسبة الحقيقية، ستظل المدارس المصرية مصانع لإنتاج أجيال محطمة نفسيًا وجسديًا، تحمل ندوب العنف والإذلال التي عاشتها في أيام الطفولة التي كان يجب أن تكون الأجمل في حياتهم.

