في تصريح يعكس بوضوح الذهنية الانتهازية والانحدار الأخلاقي في خطاب قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، خرج ليؤكد أن بإمكانه استخدام المصريين كورقة ضغط على أوروبا مقابل "كام مليار"، لكنه – على حد زعمه – لم يفعل.
لم يتحدث السيسي عن حق الشعب في حياة كريمة، أو عن أسباب الهجرة غير الشرعية، بل تحدث كما لو كان "تاجر بشر" يملك مفاتيح العبث بمصائرهم، يساوم بهم ويمنّ على العالم بعدم إطلاقهم في قوارب الموت.
هذه ليست زلة لسان، بل كشف صريح عن رؤية رجل لا يرى في شعبه سوى أداة مساومة ومصدر دخل، في ظل نظام يقوده بالحديد والنار منذ أكثر من عقد.
ابتزاز سياسي على ظهر الفقراء
تصريحات السيسي لم تأتِ في معرض تحليل لأزمة الهجرة أو التعاطف مع من يخاطرون بحياتهم عبر البحر، بل جاءت ضمن خطاب تبريري لأداء اقتصادي كارثي، محاولًا أن يُظهر نفسه "متسامحًا" مع الغرب، وأنه "كان قادرًا" على تهديد أوروبا لو أراد، لكنه لم يفعل.
أن يتحدث رئيس دولة عن تهريب البشر كوسيلة تفاوض، هو إقرار ضمني بانهيار منظومته السياسية والأخلاقية. فبدلًا من أن يعمل على حل أسباب الفقر والبطالة التي تدفع الشباب لركوب قوارب الموت، يتحدث كمن يملك حق "إرسالهم أو حبسهم"، مقابل المال.
حين تصبح الدولة سمسار هجرة
بعقلية سمسار لا رئيس، يعرض السيسي على الأوروبيين "خدمة": كنا ممكن نركّبهم مركب، لكن إحنا مكناش زي كده! تصريح يكشف أن النظام يفكر بعقلية تجار البشر لا برؤية وطنية أو أخلاقية. فأين هي الدولة التي تحترم كرامة مواطنيها؟ وأين هو الحاكم الذي يقاتل لأجل توفير فرصة عمل لشاب، بدلًا من ابتزازه واستغلاله كسلعة على طاولة التفاوض الدولي؟
السيسي لم يتحدث عن برامج حقيقية لوقف الهجرة غير الشرعية، أو عن تمكين اقتصادي للفئات المهمشة، بل تحدث فقط عن "الفلوس" التي لم يأخذها، وكأن حياة الناس رهن المليارات التي تأتي أو لا تأتي من الغرب.
الهجرة ليست تهديدًا.. بل هروب من جحيم حكمك
الشباب لا يركبون البحر حبًا في أوروبا، بل هربًا من واقع سياسي واقتصادي خانق صنعه نظام السيسي بيديه.
ارتفاع الأسعار، انهيار الجنيه، البطالة المتفشية، وقمع الحريات، كلها عوامل دفعت عشرات الآلاف من المصريين لركوب البحر، والموت غرقًا، بدلًا من العيش ذلًا.
لكن بدلًا من أن يعترف السيسي بأن حكمه هو السبب، يعود ليستخدمهم كورقة ضغط: "كنا نقدر نركبهم مركب". إنها جريمة مزدوجة: إنتاج للهجرة، وابتزاز بها.
أوروبا تعلم.. لكنها تصمت
السيسي يعلم جيدًا أن الغرب – وخاصة الاتحاد الأوروبي – يخشى من موجات الهجرة، وقد سبق له أن وقّع مع إيطاليا وألمانيا واليونان اتفاقات لمنع المهاجرين، مقابل الدعم المالي والتقني. لكن الجديد في خطابه هو الصفاقة العلنية التي تحدث بها عن إمكانية تسليط المصريين على أوروبا إن لم تدفع.
ورغم وضوح هذا الابتزاز، فإن الرد الأوروبي ضعيف أو غائب. أوروبا تعلم أن نظام السيسي لا يحترم شعبه ولا حقوق الإنسان، لكنها تفضل التعامل معه كشرطي حدود يمنع المهاجرين، ولو على حساب حياة الملايين.
الكرامة ليست منّة يا سيسي
الكرامة ليست منحة من الحاكم، ولا "خدمة" يقدمها للغرب. الكرامة حق. والحاكم الذي يستخدم مواطنيه كرهائن في صفقة سياسية لا يستحق أن يبقى في السلطة يومًا واحدًا. تصريحات السيسي تعكس مدى الانفصال بينه وبين معاناة المصريين. يتحدث عن "كان ممكن نركّبهم" وكأنهم أدوات، لا بشر لهم حقوق وكرامة.
كفى استخفافًا بالشعب.. وارحل
حين يصل حاكم إلى هذه الدرجة من اللامبالاة والانفصال عن الواقع، وحين يتعامل مع حياة الناس كأوراق ضغط ومزاد سياسي، فإن خروجه من المشهد يصبح ضرورة وطنية وأخلاقية.
الشعب المصري لا يحتاج لمن "يتمنن" عليه بعدم تهريبه، بل يحتاج لمن يوفر له عدالة اقتصادية، وكرامة معيشية، وفرص حقيقية للحياة.
والحاكم الذي يرى الهجرة وسيلة للابتزاز، ويرى الناس مجرد أرقام في قوارب، هو ذاته الذي صنع الكارثة، ويرفض الاعتراف بها، بل يتفاخر بأنه "كان ممكن يستخدمها" لو أراد.
لقد آن لهذا العبث أن يتوقف.

