في ظل تصاعد التوترات المستمرة في قطاع غزة، تكشف مصادر متعددة عن عمليات تهجير فلسطينيين بشكل شبه سري عبر شركة استشارية تحمل جنسية إسرائيلية وإستونية، ما يثير تساؤلات عن أبعاد هذه التحركات وشرعيتها القانونية ومدى احترامها لحقوق الإنسان. بينما تتراجع الخطابات العلنية في واشنطن وتل أبيب عن الحديث عن خطط تهجير الفلسطينيين، تشير الوقائع إلى استمرار تنفيذ هذا السيناريو عبر طرق ملتوية وغير مباشرة، تستغل حاجة السكان للهروب من واقعهم المأساوي.
صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية سلطت الضوء على شركة غامضة تدعى "Talent Globus"، يملكها تومر يانار ليند، مولود عام 1989 ويحمل الجنسية الإسرائيلية والإستونية، والتي تعمل كواجهة لنشاطات تهجير الفلسطينيين من غزة إلى دول بعيدة مثل إندونيسيا وماليزيا وجنوب إفريقيا. وتظهر الشركة على الإنترنت تحت اسم "المجد أوروبا"، معتمدة على تسجيل قانوني في ألمانيا ومكاتب في القدس الشرقية، إلا أن موقعها الإلكتروني فارغ المحتوى ولا يقدم أي معلومات اتصال واضحة، ولا يرتبط بحسابات تواصل اجتماعي حقيقية، مما يزيد من الغموض حول طبيعة عملياتها وشفافيتها.
رحلات سرية وتنسيق شبه رسمي
وفق التحقيق الصحفي، قامت الشركة باستئجار رحلات طيران انطلاقاً من مطار رامون قرب إيلات، وأُجريت ثلاث رحلات على الأقل خلال الأشهر الماضية، تم خلالها نقل مجموعات من الفلسطينيين إلى دول بعيدة. وتشير التقارير إلى أن هذه الرحلات جرت بتنسيق مع "مكتب الهجرة الطوعية" بوزارة الدفاع الإسرائيلية ومنسق الحكومة لملف خروج الفلسطينيين، ما يعطي مؤشراً واضحاً على وجود مسار شبه منظم وليس مجرد مبادرات فردية.
العملية لا تخلو من تعقيدات مالية وأمنية: يُطلب من الراغبين في الهجرة دفع مبالغ تتراوح بين 1400 و2700 دولار للفرد، وأحيانًا تصل إلى 5000 دولار لتسريع إجراءات السفر. هذا الشرط المالي يشكل عائقاً أمام غالبية الفلسطينيين، ويثير مخاوف حقوقيين من استغلال هذه الحاجة الإنسانية.
تبدأ إجراءات السفر بتجميع المسافرين من مواقع مختلفة داخل غزة، ثم نقلهم إلى معبر كرم أبو سالم تحت سيطرة الاحتلال، حيث تخضع العائلات لفحوصات أمنية دقيقة قبل نقلهم إلى مطار رامون على متن حافلات مخصصة. ويلاحظ أن الإعلام الرسمي لا يعلن عن مواعيد الرحلات إلا قبل 24 ساعة تقريباً، ما يضاعف من حالة الغموض والتوتر لدى السكان الذين يواجهون واقعاً صعباً بالفعل.
خلفيات سياسية وإستراتيجية
هذه العمليات تأتي في سياق استراتيجية إسرائيلية لتغيير الواقع الديموغرافي في غزة بطرق غير مباشرة، بعيداً عن الضغوط الدولية أو النقد العام. فبينما تتجنب الحكومة الإسرائيلية الحديث العلني عن خطط تهجير السكان، تعمل على تنفيذها عبر شركات وشبكات شبه سرية، الأمر الذي يثير القلق حول الأبعاد القانونية والأخلاقية لهذه التحركات.
الاعتماد على شركات غامضة ومسجلة خارج الأراضي الفلسطينية يطرح أسئلة حول مستوى التنسيق مع هيئات دولية ومدى قانونية النشاط، خصوصاً أن الشركة لا تقدم أي دلائل على اتفاقيات واضحة أو تراخيص رسمية تتعلق بالهجرة الطوعية، ما يضع العملية في منطقة رمادية قانونياً.
تداعيات إنسانية واجتماعية
تهجير الفلسطينيين إلى دول بعيدة جغرافياً وثقافياً مثل إندونيسيا وماليزيا وجنوب إفريقيا يطرح تحديات اجتماعية وإنسانية كبيرة. اللاجئون سيواجهون صعوبات في الاندماج، سواء من الناحية الثقافية أو الاقتصادية، إضافة إلى الصدمات النفسية الناتجة عن الهجرة القسرية أو الشعور بفقدان الوطن. كما أن هذه التحركات قد تؤدي إلى تغييرات ديموغرافية تؤثر على مستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ومسار الحلول الممكنة.
وتشير مصادر حقوقية إلى أن هذه السياسات تمثل تهجيراً قسرياً مخفياً، إذ يطرح السؤال حول مدى احترام الفلسطينيين لحقهم في البقاء على أرضهم، وكيفية حماية الأطفال والنساء وكبار السن في هذه الرحلات السرية، والتي لا تخضع لمراقبة منظمات دولية مستقلة.
أبعاد قانونية وحقوقية
هذه الحالات تستدعي تدخل المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، لمراجعة مدى قانونية هذه الرحلات والالتزامات الدولية لإسرائيل كقوة محتلة وفق القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقيات جنيف التي تحظر التهجير القسري للسكان المدنيين. فالأفعال الموثقة يمكن أن تشكل انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، خصوصاً إذا كانت الرحلات تتم تحت الضغط الاقتصادي أو الاجتماعي، دون خيارات حقيقية تحترم إرادة الفلسطينيين.
مراقبون حقوقيون يطالبون بفتح تحقيقات شفافة لكشف الملابسات كافة حول هذه الشركة وطبيعة عملها، والجهات المتواطئة معها، بما يضمن وقف أي نشاط يهدف إلى تهجير الفلسطينيين بشكل قسري أو شبه قسري، وتأمين حق الفلسطينيين في البقاء بأرضهم وحياتهم المستقرة.
واخيرا تستمر عمليات التهجير السرية للفلسطينيين من غزة عبر شركات غامضة في كشف طرق الالتفاف التي تستخدمها السلطات الإسرائيلية لتحقيق أهدافها الديموغرافية والسياسية بعيداً عن النقد الدولي. هذه التحركات تحمل أبعاداً إنسانية، اجتماعية، وقانونية خطيرة، إذ أنها تعرض اللاجئين لتحديات كبيرة في دول بعيدة، وتشكّل انتهاكاً محتملاً للقانون الدولي.
الحاجة الملحة الآن تتمثل في تدخل المجتمع الدولي، والمنظمات الحقوقية، لمراقبة هذه الإجراءات وكشفها ووقف أي محاولات تهجير قسري، مع التأكيد على حماية حقوق الفلسطينيين في البقاء، وضمان إرادتهم الحرة، ومحاسبة كل من يشارك في هذه السياسات السرية التي تهدد مستقبل السكان المدنيين في غزة.

