بينما تُعلن حكومة الانقلاب عبر وزارة الزراعة أن «الوضع تحت السيطرة» وأن التحصينات تسير على قدم وساق، يعيش مربو الماشية في الريف المصري كارثة حقيقية. فمرض الحمى القلاعية تفشى بسرعة الصاروخ في أغلب المحافظات، مهددًا بالقضاء على الثروة الحيوانية. ورغم تراجع أسعار اللحوم مؤخرًا بنسبة 11.6% نتيجة الركود والخوف من المرض، إلا أن هذا التراجع لا يعكس تحسنًا في الوضع، بل انهيارًا في الثقة، وخسائر فادحة للمربين الذين يواجهون خطر النفوق بنسبة تصل إلى 50% في بعض المناطق.
أكاذيب رسمية وواقع من الانهيار
رغم رصد 16 بؤرة إصابة رسمية بمرض الحمى القلاعية، تتزايد الشهادات من المحافظات بأن الأعداد أكبر بكثير. فالفلاحون في الدقهلية والشرقية والمنوفية والبحيرة يؤكدون أن العدوى تنتشر يوميًا وأن التحصين مجرد «تستيف ورق». ومع ذلك، تصر وزارة الزراعة على ترديد جملة «الوضع تحت السيطرة» وكأنها شعار لتجميل الفشل الإداري.
يقول أحد المربين في الغربية: «كل يوم عندنا ماشية بتموت، والطب البيطري مش قادر يلحق. التحصينات بيقولوا عنها إنها وصلت لكن إحنا ما شفناش حاجة».
تحصينات على الورق.. ومزارع تئنّ من الخسائر
وزارة الزراعة أعلنت أنها نفذت 12 مليون جرعة تحصين خلال 2025، منها 5 ملايين بلقاح “سات1” (SAT1)، لكنها لم توضّح مدى فعالية هذه اللقاحات أو نسب التغطية الحقيقية. الخبراء يؤكدون أن كثيرًا من هذه الأرقام مبالغ فيها وأن التحصين لا يصل فعليًا إلى صغار المربين الذين يمتلكون 80% من الثروة الحيوانية في البلاد.
ويقول أحد الخبراء البيطريين: «ما يتم الآن ليس برنامج تحصين بل حملة علاقات عامة. اللقاحات غير كافية، وهناك تأخر في التطعيمات، والنتيجة نفوق متزايد».
الكارثة تمتد: المرض يهدد نصف الثروة الحيوانية
تقديرات ميدانية تشير إلى أن معدلات النفوق تتراوح بين 30% و50% في بعض المحافظات، وهو ما يعني خسائر بمليارات الجنيهات. ومع غياب التدخل السريع، يمكن أن تنهار منظومة إنتاج اللحوم والحليب خلال أسابيع.
المزارع الصغيرة في دلتا النيل تشهد حالة من الشلل؛ المربون توقفوا عن الشراء، الأسواق خالية، والذعر يسيطر على القرى. يقول أحدهم: «ما بقيناش نعرف نبيع ولا نربي. الحكومة سايبة المرض ياكل في البهايم».
أسعار اللحوم تنخفض.. بسبب الموت لا الإصلاح
وفقًا لبيانات سوقية، انخفض سعر كيلو اللحوم من 430 إلى 380 جنيهًا، أي بنسبة 11.6%، نتيجة حالة الركود وتخوف المستهلكين من شراء لحوم قد تكون من ماشية مريضة.
ويؤكد سعيد زغلول، رئيس شعبة القصابين بالجيزة، أن «الحمى القلاعية خلت الناس تبطل تشتري، والتجار اضطروا ينزلوا الأسعار». لكنه أضاف أن «الانخفاض مش دليل خير، ده دليل إن السوق واقف».
تضارب حكومي وتبريرات واهية
بينما تتحدث وزارة الزراعة عن نجاحها في «تحصين 90% من الماشية»، لا توجد بيانات مستقلة تثبت ذلك. الأطباء البيطريون يشتكون من نقص الإمكانيات وسوء توزيع اللقاحات. وفي المقابل، تتحدث الحكومة عن دراسة لتعويض المربين المتضررين، وهي وعود لا تختلف عن سابقتها من حيث الغموض والتنصل.
أحد مسؤولي الجمعيات الزراعية في كفر الشيخ قال: «التحصين متأخر، واللقاح غير متوفر، والحكومة بتعلن أرقام عشوائية عشان تقول إنها شغالة».
«استقرار وهمي» وتستر على الفشل
تكرر الحكومة في بياناتها مصطلح «استقرار الوضع الصحي للمواشي»، في حين أن الإصابات تتزايد يوميًا في محافظات الوجه البحري. تصريحات المسؤولين عن «سيطرة كاملة» تحولت إلى نكتة متداولة بين المربين، الذين يرون أن الدولة تتستر على الكارثة لتجنب الإدانة الدولية.
هيثم عبدالباسط، رئيس شعبة القصابين بالقاهرة، حاول التقليل من حجم الكارثة بالقول إن «انتشار الحمى القلاعية أمر موسمي»، لكن المربين يرون أن الوضع هذا العام مختلف تمامًا بسبب المتحور الجديد الذي ظهر منتصف يوليو الماضي.
تصدير اللحوم.. فيما الداخل يحتضر
في مشهد يثير السخرية، تواصل الحكومة التفاخر بتصدير لحوم إلى لبنان والأردن رغم الكارثة الصحية المحلية. فبينما تهلك المواشي في القرى، تُصدّر الدولة لحوماً مستوردة أُعيد تسمينها وتغليفها لزيادة العائد الدولاري. هذا النهج يكشف أولويات معكوسة: الدولار أولًا... والمربي المصري أخيرًا.
من فشل إداري إلى أزمة وطنية
انتشار الحمى القلاعية بهذا الشكل لا يمكن اعتباره أزمة طبية فقط، بل فشل إداري شامل. فغياب الشفافية، وتزييف الأرقام، والتأخر في التحصين، والتقليل من حجم الكارثة جعلت المربين وحدهم في مواجهة الموت الجماعي لقطعانهم.
ويحذر خبراء من أن استمرار الوضع الحالي سيؤدي إلى ارتفاع لاحق في أسعار اللحوم وانهيار الإنتاج المحلي، ما سيضطر الحكومة لاستيراد كميات ضخمة بأسعار مرتفعة، تزيد من الأعباء الاقتصادية على الدولة والمواطن.
ثروة وطنية تُباد بصمت
في الوقت الذي تتغنى فيه الحكومة بـ«استقرار الثروة الحيوانية»، يموت آلاف الرؤوس يوميًا دون أي خطة إنقاذ حقيقية. الكارثة أكبر من مجرد مرض موسمي، إنها عنوان لفشل منظومة كاملة في حماية أمن غذائي وطني.
الحمى القلاعية ليست وباءً عابرًا، بل مرآة لفساد إداري وإهمال متعمد، يدفع ثمنه المزارع البسيط، ويخسر فيه الوطن آخر ما تبقى من قواه الإنتاجية.

