طه خليفة

كاتب وصحفي مصري

 

فوجئت بأن السبت 8 نوفمبر الجاري، هو اليوم الثاني في المرحلة الأولى لانتخابات مجلس النواب للمصريين بالخارج.

 

كنت أتجول سريعًا بين الشاشات، خلال وقت راحة من انشغال بأمور خاصة، فوجدت القنوات المصرية تتابع التصويت، وتتحدث عن الإقبال على اللجان من المصريين بالخارج، ما علينا.

 

قلت لنفسي: كيف أكون كاتبًا مهتمًا بالشأن العام، وأتابع انتخابات في بلدان خارجية، ثم أتجاهل انتخابات في بلدي تقرر حاضر شعبها ومستقبله، وأنا من هذا الشعب؟

 

ذهبت إلى موقع الهيئة الوطنية للانتخابات، واطلعت على جدول العملية كلها، ووجدت أن الانتخابات تجري على مرحلتين بمواعيد محددة.

 

هذه المواعيد نشرها الإعلام في مصر مرات، وكان يعيد التذكير بها، لكن بصري لم يكن يتوقف عندها، ذلك أن الشغف مُفتقد، والاهتمام غير موجود، والمتابعة بعيدة.

 

الأصل هنا أن الإنسان لا يكون إيجابيًّا تجاه الأحداث والموضوعات ومختلف الأشياء في وطنه خاصة، إلا إذا كانت له إرادة حقيقية في رسمها، وصاحب قرار مؤثر في صنعها، ويستفيد منها سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وسواء أكانت الفائدة تخصه وحده أم يشترك فيها مع آخرين.

 

وإذا شعر الإنسان بأن له دورًا وقيمة وحضورًا فاعلًا في تخطيط وصياغة حاضره ومستقبله، فإنه سيكون نشطًا ويتحمل المتاعب، ويواجه الصعاب، وكل ما دون ذلك فإنه لا يتحرك من مكانه، وتخيم السلبية عليه.

 

أزيدكم من الشعر بيتًا: إن انتخابات أخرى لمجلس الشيوخ جرت هذا العام، وفوجئت بها أيضًا، فهي نفسها السلبية التي تحيط بي تجاه الاستحقاقات الانتخابية التي لا تلبي الطموح في رؤية نموذج انتخابي ديمقراطي رائع.

 

والاستحقاق الوحيد الذي أهتم به هو انتخابات نقابة الصحفيين، إذ أجد فيها ما يجعلني حريصًا عليها، ولو لم يكن فيها قيمة لكانت السلبية لازمتني بشأنها أيضًا.

 

بين مصر ونيويورك

 

لكن مثلًا، لماذا نهتم بانتخابات محلية في مدينة مثل نيويورك الأمريكية، وهي بعيدة عنا بآلاف الأميال، ولا تنعكس نتائجها علينا، في حين لا يحدث ذلك في انتخابات الهيئة التشريعية في مصر، وهي سلطة التشريع التي تمثل الشعب وتنوب عنه في وضع القوانين التي تحقق مصالحه، وفي مراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية التي تتولى إدارة الدولة والحفاظ عليها وحمايتها من كل الأخطار الداخلية والخارجية، وتسيير أمورها اليومية، ورعاية الشعب، وتوفير الحياة الكريمة له، وجمع الأموال العامة من الناس، وإنفاقها عليهم وعلى المشروعات الخدمية والاستثمارية؟

 

الشغف بالتجارب الانتخابية في الخارج، وفي العالم الحر الديمقراطي، مرجعه أنها تجري وفق ما يقول كتاب الحكم الديمقراطي الرشيد، لهذا نتابعها، ونُعجب بها، وننبهر بكل مراحلها، إذ تنعقد الإرادة الشعبية وحدها، ولا شيء غيرها، في مناخ من العدالة والمنافسة والحياد لتكون نتائجها وفق قرار أغلبية الناخبين في الاختيار، حتى لو كان هذا الاختيار صادمًا أحيانًا، أو يميل إلى انحراف سياسي أو حزبي معيَّن (يمين قومي متشدد أو يسار راديكالي متطرف)، ذلك أن الدستور والقانون هما الحاكمان في إدارة الفائز لوظيفته التشريعية أو التنفيذية، سواء كان رئيسًا أو حزبًا أو فردًا مستقلًّا في هيئة تمثيلية.

 

هذا ما نجده فعلًا في الانتخابات الأمريكية كلها، سواء كانت محدودة كما حصل أخيرًا، أو تشريعية موسعة ومؤثرة كما سيحدث خلال نوفمبر 2026، أو رئاسية وتشريعية تمثل قمة الاستحقاقات الديمقراطية في هذا البلد في 2028.

 

وهو ما وجدناه منذ أشهر في فرنسا، حيث جرت انتخابات اختيار ممثلي فرنسا في البرلمان الأوروبي، وعندما خسرها حزب الرئيس ماكرون، قرر حل الجمعية الوطنية (البرلمان) على أمل أن يُثبت من خلال انتخابات جديدة أنه لا يزال يحظى بأغلبية شعبية، لكن النتائج جاءت مخيبة لآماله، إذ خسرها حزبه مجددًا.

 

ووجدنا الديمقراطية الانتخابية في ألمانيا، حيث خسر الحزب الحاكم (الاشتراكي الديمقراطي)، وعاد المحافظون إلى الحكم (الاتحاد المسيحي الديمقراطي). وفي بريطانيا خسر حزب المحافظين السلطة بعد سنوات طوال فيها، وعاد العمال إلى الحكم بعد طول غياب.

 

وهكذا الأمر في كل الديمقراطيات؛ انتخابات جادة وحقيقية ومقنعة، ليفز من يفز، ويخسر من يخسر، فهناك دساتير وقوانين لها ما يشبه القداسة، فلا تسمح السلطات لنفسها بأن تخالفها أو تنتهك نصوصها، وهذا ما استقر في عقل وضمير ووجدان وممارسات الشعوب والساسة والعملية السياسية كلها، ويصعب -بل يستحيل- أن يتجرأ أحد على تجاوز الوثائق الدستورية والقانونية.

 

وعندما تجرأ الرئيس الكوري الجنوبي على الدستور، وأراد فرض حالة طوارئ دون ضرورة، فإن البرلمان تصدى له وعزله، وأيدت المحكمة الدستورية العزل، وجرت انتخابات جديدة، وخرج هذا الرئيس من التاريخ.

 

يحدث هذا في كوريا الجنوبية، رغم أنها ليست عتيدة في الحياة الديمقراطية مثل بريطانيا وأمريكا، لكن الديمقراطية فيها تسير على طريقها الصحيح بانتظام واحترام من كل القوى السياسية، لذلك يتقدم هذا البلد اقتصاديًّا بشكل مذهل، وصار من القوى الاقتصادية الكبرى في قارة آسيا والعالم، وشتان الفارق بين التطور وحرية ورفاهية شعبه، وحكم الفرد المستبد ومسخ الشعب في كوريا الشمالية، النصف الآخر من شبه الجزيرة الكورية.

 

الانتخابات بين عهدين

 

في تاريخ مصر خلال العهد الملكي، جرت الانتخابات بحرية وحياد مرات عدة، وكان يفوز بها حزب الوفد، وفي مرات أخرى لم تكن تتمتع بالنزاهة.

 

وبعد إلغاء الملكية وبدء عهد الجمهورية، فإن الانتخابات أخذت الشكل دون الجوهر الديمقراطي، سواء خلال فترة التنظيم السياسي الواحد، أو بعد السماح بعودة الأحزاب وحتى اليوم.

 

دومًا، الحزب الحاكم أو أحزاب الموالاة حاليًّا تهيمن وحدها على المشهد الانتخابي دون أن تكون هذه الهيمنة وفقًا لآليات وقيم وشروط وقواعد وأسس الديمقراطية الصحيحة والانتخابات الحرة المشهود لها بالثقة والمصداقية.

 

والاستثناء من هذا المسار هو تجارب انتخابات ما بعد ثورة يناير، وإذا كانت قد أفرزت نتائج لم تكن متوقعة تمامًا بالشكل الذي خرجت به، أو كانت مفاجئة للبعض، أو صادمة للبعض الآخر، فإن القاعدة أن استمرار الديمقراطية كفيل بتصحيح مسارها، وضبط الطريق، واستعادة التوازنات السياسية والحزبية، وتحوُّل الحكم إلى معارضة، وفوز المعارضة بالحكم، هكذا بدأت جميع الديمقراطيات المستقرة في الغرب، وأيضًا كل من يسير على هديها في أي بلد آخر بالعالم.