شيّع العالم العربي والإسلامي، اليوم الأحد، الداعية والعالم المصري الدكتور زغلول راغب النجار، الذي وافته المنية في العاصمة الأردنية عمّان عن عمر ناهز 92 عامًا، بعد رحلة علمية ودعوية امتدت لأكثر من سبعين عامًا، جمع خلالها بين عمق البحث الجيولوجي ووهج الإيمان، ليصبح رمزًا من رموز الفكر الإسلامي الحديث وواحدًا من أبرز من تناولوا قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم بأسلوب علمي رصين.

 

خيمت مشاعر الأسى على منصات التواصل الاجتماعي فور إعلان نبأ الوفاة، إذ نعاه علماء ودعاة وطلاب علم من مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي، مستذكرين إرثه العلمي الضخم ودوره في الدفاع عن الإسلام بلغة العلم والمنطق.
 

النشأة والبدايات

 

وُلد الدكتور زغلول راغب محمد النجار في قرية مشاري التابعة لمركز بسيون بمحافظة الغربية في 17 نوفمبر عام 1933. نشأ في بيت متدين؛ فقد كان والده معلمًا، وحرص على تحفيظه القرآن الكريم منذ طفولته، كما غرس في أبنائه حبّ العلم والخلق والتدين، حتى كان يجتمع بأفراد أسرته يوميًا ليقرأوا في السيرة النبوية والحديث الشريف.

 

تلك النشأة الإيمانية، الممزوجة بالانضباط العلمي، شكّلت ملامح شخصيته لاحقًا؛ فعُرف منذ صغره بحب العلم والاجتهاد، والتزامه بالمنهجية الدقيقة في التفكير والبحث.
 

التعليم والتحديات الأولى

 

التحق النجار بكلية العلوم في جامعة القاهرة عام 1951، وتخرج في قسم الجيولوجيا عام 1955 بمرتبة الشرف وكان الأول على دفعته. إلا أن انتماءه للفكرة الإسلامية في فترة الخمسينيات حرمه من التعيين معيدًا في الجامعة، لتبدأ سلسلة من التنقلات المهنية القاسية التي صقلت شخصيته وثبّتت عزيمته.

 

عمل في شركات ومناجم عدة بمصر، وحقق نجاحات مبهرة، أبرزها في مناجم الفوسفات في وادي النيل حيث ساهم في تحقيق إنتاج قياسي لم يتكرر لاحقًا، غير أن نشاطه الفكري والدعوي جعله عرضة للفصل المتكرر من وظائفه.

 

لكن هذه العقبات لم تثنه عن طموحه العلمي، بل زادته إصرارًا على المضي قدمًا في طريق البحث والمعرفة.
 

من مصر إلى العالم: مسيرة علمية تتجاوز الحدود

 

في عام 1959، تلقى دعوة من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض للمشاركة في تأسيس قسم الجيولوجيا هناك، وكانت تلك أولى محطاته الأكاديمية خارج مصر.

 

ثم سافر إلى بريطانيا حيث حصل على درجة الدكتوراه في الجيولوجيا من جامعة ويلز عام 1963، وتُوّجت أبحاثه بتقدير كبير، حتى إن لجنة الممتحنين أوصت بنشرها بالكامل. نُشرت أعماله في عدد خاص من المتحف البريطاني الملكي، وطُبعت أكثر من سبع عشرة مرة، وهو إنجاز علمي غير مسبوق لباحث عربي في ذلك الوقت.

 

واصل النجار بعد ذلك مسيرته العلمية في عدد من الدول العربية، حيث شارك في تأسيس أقسام الجيولوجيا في جامعات الكويت وقطر، وتولى رئاسة أقسامها. كما عمل أستاذًا زائرًا في جامعة كاليفورنيا عام 1977، وقدم خلالها أبحاثًا رائدة في جيولوجية الأراضي العربية والبترول والمياه الجوفية والطاقة الطبيعية.

 

نشر ما يزيد على 85 بحثًا علميًا متخصصًا في الجيولوجيا، إلى جانب 40 بحثًا في الفكر الإسلامي والإعجاز العلمي، مما جعله من القلائل الذين جمعوا بين التخصص الدقيق والاهتمام بالقضايا الحضارية والدينية للأمة.
 

الإعجاز العلمي في القرآن.. رسالة عمره

 

كرّس الدكتور زغلول النجار جانبًا كبيرًا من حياته لتأسيس خطاب علمي إسلامي جديد يُبرز الإعجاز العلمي في القرآن الكريم. لم يكن في نظره مجرد موضوع ثقافي، بل كان "منهجًا للدعوة إلى الله بلغة يفهمها العالم الحديث".

 

وفي محاضراته، التي جاب بها عشرات الدول، كان يؤكد أن القرآن الكريم ليس كتاب علوم تجريبية، بل كتاب هداية، لكنه في الوقت نفسه يحتوي على إشارات علمية دقيقة لا يمكن أن تكون من كلام بشر.

من أشهر مؤلفاته في هذا المجال:

 

  • الجبال في القرآن الكريم
  • الإعجاز العلمي في خلق الإنسان
  • السماء في القرآن
  • إسهام المسلمين الأوائل في علوم الأرض
  • قضية التخلف العلمي في العالم الإسلامي

 

كما أشرف على أكثر من ثلاثين رسالة ماجستير ودكتوراه، وأسّس معهد ماركفيلد للدراسات العليا في إنجلترا الذي يمنح درجات علمية في الفكر الإسلامي والاقتصاد والعلوم الشرعية.
 

عالم وداعية وإنسان

 

عرف عن الدكتور النجار تواضعه الجم وحرصه على الحوار الهادئ حتى مع مخالفيه. كان خطابه يجمع بين العلم والدعوة والتربية، فيتحدث إلى الشباب عن الإيمان بالعقل والمنهج، ويربط بين الاكتشافات الكونية وآيات الله في الكون.

 

كان يرى أن على الأمة الإسلامية أن تتصالح مع العلم، وأن تملك أدواته الحديثة لتعيد بناء حضارتها، قائلاً في إحدى محاضراته:

 

"نحن أمة الوحي المحفوظ، لكننا تأخرنا لأننا تركنا العلم الذي أمرنا به الله."
 

إرث خالد للأمة

 

رحل الدكتور زغلول النجار تاركًا وراءه إرثًا علميًا وفكريًا ثريًا، يجمع بين عمق التخصص العلمي ودقة التفسير القرآني، وبين روح العالم وغيرة الداعية.


لقد مثّل نموذجًا للعالم المسلم الذي يعيش بعقله وقلبه معًا، ويُقدّم للإنسانية نموذجًا في التوازن بين العلم والإيمان.

 

وفي رحيله، خسر العالم الإسلامي أحد أبرز رجاله الذين سعوا لتجديد الفكر الدعوي المعاصر عبر بوابة العلم، وأحد الأصوات التي دافعت عن القرآن بالعقل والمنطق والعلم التجريبي، ليبقى اسمه منارة تلهم الأجيال المقبلة.