هزّت جريمة مأساوية منطقة فيصل بالجيزة، بعدما لقيت أم وثلاثة من أطفالها مصرعهم إثر تناولهم عصيرًا مسمومًا داخل منزلهم، في واقعة تعكس تصاعد نمط جديد من الجرائم التي باتت تضرب استقرار الأسرة المصرية في عمقها.
بداية الحكاية.. ونهايتها
بدأت خيوط المأساة تتكشف عندما عثر أهالي منطقة فيصل على طفلين (13 عاماً و11 عاماً) مُلقيين في مدخل أحد العقارات السكنية في منطقة فيصل. حيث هرع الأهالي لنجدتهما، وتم نقلهما إلى المستشفى، لكن الطفلة الصغيرة لفظت أنفاسها الأخيرة بعد دقائق، بينما كان شقيقها يصارع الموت. لم تكن هذه سوى البداية. إذ كشفت ادعاءات الجاني أنه كان يعيش مع الأم الضحية وأطفالها الثلاثة في شقة واحدة، بعدما ارتبط بها بعلاقة غير شرعية، بحسب زعمه، إثر تركها منزل الزوجية منذ 20 يوما لخلافات مع زوجها. وبحسب ادعاءات المتهم أمام جهات التحقيق، فقد قرر "الانتقام" من الأم بعدما شك في علاقتها برجل آخر، حيث خطط لجريمته، مستغلاً معرفته بالمواد السامة بحكم عمله وامتلاكه محلا للأدوات البيطرية من أدوية وخلافه. وقدم العصير ممزوجا بالسم للسيدة وعندما بدأت تصرخ ألما، نقلها بنفسه إلى المستشفى. وهناك، سجل بيانات مزيفة باسم شخص مجهول، ثم تركها تواجه الموت وحيدة وهرب حتى توفيت بالفعل.
بعد ثلاثة أيام من وفاة الأم، عاد الجاني ليُكمل جريمته البشعة، حيث قرر التخلص من الأطفال الثلاثة، وخدعهم واصطحبهم معه، وقدم لهم "عصير الموت" المسموم مجددا. وشرب الطفلان الأكبر سناً، لكن الطفل الأصغر، البالغ من العمر 6 سنوات، رفض تناول العصير. فلم يتردد الجاني، فحمل الطفل الصغير وألقاه في ترعة مائية ليموت غرقاً. ثم عاد إلى الطفلين الآخرين اللذين كانا يحتضران بسبب السم، واستعان بشخص آخر (لا يعلم بالجريمة وحسن النية) لنقلهما وإلقائهما في مدخل أحد العقارات في منطقة فيصل، حيث عُثر الأهالي عليهما لاحقاً على أحدهما متوفى والآخر في حالة إعياء شديد.
وبعد أن ألقت أجهزة الأمن القبض على المتهم، الذي انهار واعترف تفصيلياً بجريمته خاصة بعد مواجهته بكاميرات المراقبة التي رصدت تحركاته ولقاءاته مع الأم وأطفاله، مؤكداً أنه أراد "الانتقام" فقرر "أن يمحوها هي وأطفالها من الحياة". المأساة كانت أعمق مما يتخيل أحد، فحتى عائلة الأم الضحية لم تكن تعلم بموتها. يقول شقيقها بصوت مكلوم: "عرفنا بموت الأطفال أولاً، ولم نكن نعلم شيئاً عن أختي. بعد أيام، اكتشفنا أنها ماتت قبلهما في المستشفى، وأن نفس الشخص هو الذي قتلهم جميعاً بالسم ولا نعرف أي سبب لارتكاب الواقعة". وأمرت النيابة العامة بحبس المتهم على ذمة التحقيقات بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار، وعرضه على الطب الشرعي لبيان تعاطيه المواد المخدرة أو عدمه.
خلف الجريمة.. أسرة انهارت بصمت
وكشفت التحقيقات الأولية أن الجريمة جاءت على خلفية خلافات أسرية حادة انتهت بجريمة غدر، تركت المجتمع في حالة ذهول أمام قسوة الفعل ودلالاته الواسعة على التحلل النفسي والاجتماعي الذي قد يدفع بعض الأفراد إلى تخطي كل خطوط الآدمية.
لم تكن المأساة وليدة اللحظة، بل سبقتها — وفق شهادات المقربين — مشاحنات طويلة، ضغط نفسي متراكم، وأجواء أسرية متوترة، قبل أن تتحول إلى فعل جنائي بارد التنفيذ. في بيت صغير يُفترض أن يكون ملاذًا آمنًا للأطفال، انقلبت الطمأنينة إلى كمين موت.
الخبراء: ليس حادثًا فرديًا.. بل ناقوس خطر
يرى مختصون في علم الاجتماع أن هذه الجريمة تندرج ضمن سلسلة من الجرائم الأسرية التي ارتفعت نسبتها خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة إلى 60%، ويربطونها بتفاقم الضغوط الاقتصادية، وتآكل شبكات الدعم الاجتماعي داخل الأسرة، وانهيار القدرة على الحوار أو طلب المساندة قبل الانفجار، إضافة إلى الخيانة الزوجية، والشك في الخيانة، أو انتقام من اتهام بالخيانة.
ويشير خبراء في علم النفس الأسري إلى أن تصاعد الخيانات الزوجية، وحالات التفكك الصامت، والضغوط المالية القاسية أسهمت في خلق بيئة مهيأة لانفجار العنف داخل البيت، بعدما كان العنف الخارجي هو الأكثر شيوعًا في السابق.
التفكك الأسري
يقول د. شريف صادق، أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة، إن الجريمة «ليست حادثًا فرديًا معزولًا»، بل انعكاس لحالة من التفكك الأسري غير المُعلن، حيث ينهار التواصل داخل البيت تدريجيًا دون أن يشعر أحد، إلى أن يصل أحد الأطراف إلى نقطة اللاعودة.
أما د. منى الحديدي، استشارية الطب النفسي والعلاج الأسري، فترى أن أخطر ما في المشهد هو أن «العنف ينتقل الآن من الشارع إلى داخل البيوت»، مشيرة إلى أن الجاني في هذه النوعية من الجرائم غالبًا ما يكون شخصًا غير قادر على تحمل ضغط نفسي ومادي وعاطفي متزامن، فيتحول من الدفاع عن نفسه إلى الانتقام من أقرب الناس إليه.
ويؤكد د. أحمد بدر، باحث في علم الجريمة، أن الجرائم المرتبطة بخلافات زوجية أو خيانة أو ابتزاز عاطفي ارتفعت بصورة ملحوظة، لافتًا إلى أن "الاقتصاد ليس مجرد رقم.. إنه مزاج اجتماعي كامل: حين تتدهور القدرة على العيش الكريم، ينهار الضبط الداخلي للأفراد".
وبحسب تقديرات بحثية محلية، ارتبط جزء كبير من الجرائم الأسرية الحديثة بتدهور الأوضاع المعيشية التي عمّقت الشعور بالعجز، وأضعفت الروابط بين أفراد الأسرة، فتحول المنزل من مساحة أمان إلى مساحة توتر دائم. ومع غياب الدعم النفسي والمجتمعي، يصبح أي شرخ عائلي قابلًا للتحول إلى مأساة.
خلفية رقمية عن الجرائم الأسرية
وفق مؤشرات بحثية غير رسمية منشورة خلال عام 2023 – 2024
:
- نحو 27% من جرائم القتل في مصر أصبحت ذات طابع أسري أو عائلي.
- قرابة ثلث هذه الجرائم مرتبطة بخلافات زوجية مباشرة.
- ازدياد ملحوظ في الجرائم التي تستخدم «وسائل غذائية أو منزلية» في القتل لإخفاء الشبهة الجنائية.
- محافظة الجيزة ضمن ثلاث محافظات تتصدر معدلات الجرائم الأسرية خلال آخر عامين.
المختصون يرجعون هذا الارتفاع إلى التدهور المعيشي + الفراغ العاطفي + غياب قنوات الدعم النفسي، وهي تركيبة خطرة تنتج انفجارات أخلاقية واجتماعية.
المجتمع في مواجهة سؤال صعب
جريمة فيصل لم تقتل أمًا وأطفالًا فحسب، بل كشفت صراحة هشاشة البيوت التي تبدو من الخارج «طبيعية» بينما تنزف من الداخل دون أن يراها أحد. ولعل السؤال الأخطر اليوم هو: كم أسرة أخرى تقف على الحافة نفسها دون أن ندري؟
هذه الجريمة ليست قصة شذوذ نفسي لشخص واحد، بل جرس إنذار اجتماعي يقول إن هناك أسرًا كثيرة تقترب من خط الانفجار دون أن تملك صوتًا أو سندًا.
وإذا لم يتحرك المجتمع لمحاصرة أسباب الانهيار العاطفي والأسري، فلن تكون مأساة فيصل الأخيرة.

