بينما يُكثّف وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي رسائله المُطمئِنة بدعوة الخريجين للتقدّم لاختبارات التعيين والتأكيد على «الشفافية والاعتماد على الكفاءة»، تتكشّف على الضفة الأخرى شهادات وتقارير متواترة تُظهر منظومة مُربِكة تُغذّيها المحسوبية وتفتقر إلى الضمانات الجوهرية للنزاهة.

هذا التقرير يُعيد ترتيب الوقائع كما يوردها أصحاب الشهادات ومصادر إعلامية، ويُسلّط الضوء على أثرها الإنساني والمؤسسي، وفي القلب منها قضية الشاب عبد الحميد شتّا التي تحوّلت إلى مرآةٍ قاسية لخللٍ بنيوي طالما أنكرتْه الجهات الرسمية.
 

امتحانات بلا شفافية كافية
تشير شهادات مرشّحين ودبلوماسيين سابقين إلى أن اختبارات التعيين لا تُدار وفق معايير مُعلَنة قابلة للتحقّق العام، وأن الباب الخلفي للمحاباة يظل مفتوحًا؛ من قوائم ترشيح غير واضحة، إلى مقابلات شخصية تُحسم بمعايير ضبابية، وصولًا إلى رسوب أصحاب ملفات أكاديمية مرموقة من دون تسبيب مُقنِع.

ووفق هذه الروايات، فإن ضعف الإفصاح عن ضوابط الانتقاء وآليات التظلّم يُحَوّل «الحق في التوظيف العادل» إلى امتيازٍ قابل للمساومة، ويُلحق أذًى مباشرًا بصورة مؤسسة يُفترض أنها واجهة الدولة وكفاءاتها أمام العالم.
 

اتهامات تطال الوزير… ومطلبٌ للتحقيق
تتداول تقارير صحفية ومتابعات رقابية اتهاماتٍ بحق الوزير بدر عبد العاطي تعود إلى فترات عملٍ سابقة، من بينها تبديد مقتنيات ذات قيمة من سفارة مصر في برلين وملابسات شراء سيارة مرسيدس على غير الأصول الدبلوماسية، مع حديثٍ عن إقرارٍ بردّ مبالغ محلّ فحص.

ورغم أن حسم هذه المزاعم يظل بيد جهات التحقيق والقضاء، فإن تراكمها—مع نفيٍ رسمي لوجود فساد بمنظومة التعيين—يعزّز الحاجة لتحقيقٍ مستقلّ وشفاف يقطع بالبينات، ويبعث رسالةً بأن لا أحد فوق المساءلة، خصوصًا حين يكون موضع الاتهام هو الوزير المُشرف على «الاختيار النزيه» ذاته.


 


«عبد الحميد شتّا»… مأساة تُدين النظام لا الأفراد وحدهم
تختزن ذاكرة المصريين واقعة الشاب عبد الحميد شتّا (2002) الذي انتهت رحلته مأساويًا بعدما وُوجه برفضٍ من الوزارة وتوصيفٍ جارح لملاءمته الاجتماعية. كثرة الروايات حول ملابسات الرفض وطريقة مراجعة التظلمات تضع الإصبع على جرحٍ أعمق: منظومة لا تُصحّح خطأها ولا تُراجع ضرر قراراتها على الشباب.

الجدل الذي لم يخمد حول القضية—بصرف النظر عن الرواية الجنائية النهائية—يُذكّر بأن انتفاء الشفافية والإنصاف لا يخلّف رسوبًا في امتحانٍ فحسب، بل يخلّف جروحًا إنسانيةً معلنة وصدًى مجتمعيًا طويل الأمد.
https://www.facebook.com/groups/757237320976864/posts/25075611268712797/  
 

تسريبات تكشف هشاشة الكفاءة الإدارية
تفيد تسريبات من داخل الوزارة بوجود ضعفٍ مهني ملحوظ لدى بعض المُلحَقات والمُلحَفين الإداريين، حتى في مهارات أساسية كالكتابة والتحرير باللغات الأجنبية. إن صحّت هذه الإفادات، فهي تُقرَع جرس إنذار على جودة المخرجات المهنية لآلية انتقاء يُفترض أن تكون الأكثر صرامة في الدولة. المفارقة أن هذا الواقع المزعوم يتجاور مع خطابٍ رسمي يُمجّد «معايير عالمية»، ما يطرح سؤالًا بسيطًا ومُحرجًا: إذا كانت المعايير رفيعة كما يُقال، فأين أثرها في أداء الكوادر على الأرض؟


 

 

حاجةٌ عاجلة لإصلاحٍ مُؤسّسي
التذرّع بالشعارات لا يُصلح منظومةً تهتزّ ثقة الناس بها. المطلوب حزمة إجراءات عاجلة: إعلان معايير الاختيار مكتوبة قابلة للفحص العام؛ تمكين تظلّم مُستقلّ بمواعيد مُحدّدة وإلزامية التسبيب؛ إشراف رقابي وقضائي على جميع مراحل الامتحانات من إعداد البنود إلى المقابلات؛ نشر نسب النجاح وأسباب الاستبعاد دون مساس بالخصوصية؛ وتجميد أي تعيينات مُثار حولها نزاعٌ لحين البتّ فيها. كما أن فتح تحقيق مُعلن في الوقائع المثارة—بما فيها ما نُسب للوزير—ليس ترفًا سياسيًا بل شرطٌ لاستعادة الثقة وإثبات الجدية.

في النهاية فما بين خطاب «الكفاءة والشفافية» وواقع الشهادات والوقائع، تتبدّى فجوةٌ لا يردمها الإنكار. إن قضية عبد الحميد شتّا ليست حكايةً قديمة تُستدعى للتجريح، بل جرس إنذار على حاضرٍ يُعاد إنتاجه إن لم تُعالَج جذوره. إصلاح منظومة التعيين في الخارجية امتحانٌ للدولة أمام مواطنيها قبل أن يكون امتحانًا للخريجين أمام لجانها. ومن دون مساءلة شفافة وإرادة سياسية حقيقية، سيبقى شعار «اختيار الأفضل» غطاءً لسياسةٍ تُهدر طاقات الشباب وتضرّ بسمعة مصر حيث يجب أن تكون في أفضل صورها.