في 12 أغسطس 2025، نفّذ جهاز تنمية مدينة بدر بالتعاون مع إدارة “العلاج الحر” حملة تفتيش موسّعة على العيادات الخاصة داخل المدينة، وأسفرت الحملة عن غلق وتشميع 5 عيادات طبية تعمل بدون تراخيص، وسط تأكيدات رسمية بأن الحملات “ستتواصل بشكل دوري ومفاجئ” لحماية صحة المواطنين.

ظاهريًا يبدو الإجراء حازمًا، لكنّه في الجوهر يفضح عمق أزمة تنظيم القطاع الصحي، واتساع مساحة الممارسة الطبية خارج القانون في عهد عبد الفتاح السيسي.

 

توسّع الظاهرة

ما جرى في بدر ليس استثناء، خلال الشهور الأخيرة أعلنت وزارة الصحة مرارًا إغلاق منشآت مخالفة في محافظات مختلفة: ففي 13 أغسطس 2025 أُغلِق مستشفى خاص في الجيزة وعيادة في المنوفية لتشغيلهما بدون ترخيص، مع دعوة المواطنين للتحقق من تراخيص المنشآت ومؤهلات القائمين عليها.

هذا الإعلان نفسه يكشف نمطًا متكررًا.. الدولة تُطارد المخالفات بعد وقوعها بدلاً من منعها مسبقًا عبر تنظيم فعال، ورقابة منهجية، ومسارات ترخيص شفافة وسريعة(

 

موجات متتالية من الإغلاق

في يوليو 2025، تحدثت الصحة عن إغلاق 112 منشأة خاصة لعلاج الإدمان في خمس محافظات خلال حملات تفتيش، بعدما كانت قد أعلنت في يوليو 2024 إغلاق 39 منشأة مماثلة في القاهرة والجيزة والشرقية والقليوبية.

إذا كانت الموجات تتكرر سنويًا وبأعداد متزايدة، فما معنى ذلك سوى اتساع السوق غير النظامي وغياب الردع الحقيقي؟ الأرقام تقول إن المشكلة تتضخم بدلًا من أن تنكمش.

تؤكّد وزارة الصحة ومن يمثلها في كل بيان تقريبًا أن الإغلاق يأتي “حرصًا على سلامة المواطنين” و”استمرار الحملات المكثفة” و”التأكد من التراخيص”، وهي عبارات كررها مسؤولو الوزارة في إعلانات الإغلاق الأخيرة، لكن هذه اللغة، وإن بدت صارمة، تُقر ضمنيًا بأن بوابة الممارسة بدون ترخيص ظلّت مفتوحة على مصراعيها لسنوات، وأن أجهزة الرقابة لا تصل إلا بعد وقوع الضرر أو تراكم الشكاوى، بدلًا من منع نشأة العيادات المخالفة من الأصل.

 

أين الخلل؟ من الترخيص إلى الرقابة

الخلل يبدأ من مسارات الترخيص نفسها؛ فالتأخير والبيروقراطية يدفعان بعض الممارسين إلى العمل خارج النظام، ثم يأتي ضعف التفتيش الدوري، وغياب قواعد بيانات محدثة وموحّدة للمنشآت والعاملين، وقصور في نشر معلومات التراخيص للعموم، فحين تُدار “عيادة تغذية” بواسطة سيدة تحمل بكالوريوس تجارة تنتحل صفة طبيب وتصف أدوية وتستخدم أجهزة طبية، فهذه ليست مجرّد “مخالفة فردية” بل ثغرة مؤسسية هائلة تسمح بانتحال الصفة وتداول أدوية مجهولة المصدر.

 

آثار مباشرة على صحة الناس

العيادات غير المرخصة ليست مجرد مخالفة ورقية؛ إنها خطرٌ سريري؛ تشخيصات خاطئة، إجراءات دون تعقيم كافٍ، صرف أدوية مهبّرة أو ملوّثة، وتلاعب بصحة الفقراء الذين ينجذبون لسعر أرخص أو وعود أسرع.

كل إغلاق متأخر يعني أنه سبق وقوع أذى، وحين يتحول “الضبط” إلى لقطات تشميع باللون الأحمر على وسائل التواصل، يكون المواطن قد دفع الثمن بالفعل، وهنا تكمن مسؤولية الحكم: الوقاية المؤسسية لا الاستعراض المتأخر.

 

القانون بلا رادع

ينص قانون تنظيم المنشآت الطبية والعقوبات المرتبطة به على الغلق والغرامة التي قد تصل إلى 50 ألف جنيه لفتح منشأة دون ترخيص، لكن مقارنةً بحجم أرباح بعض العيادات غير الشرعية، تبقى الغرامات زهيدة لا تمنع إعادة الفتح بأسماء واجهات مختلفة أو في مواقع جديدة، الردع الحقيقي يتطلّب عقوبات تصاعدية، ومصادرة الأجهزة، وربطًا آنيًا لقرارات الغلق بقاعدة بيانات تَحُول دون التحايل.

 

لماذا تتحمّل السلطة المسؤولية؟

لأن تكرار الظاهرة على هذا النطاق يصبح حكمًا على الأداء العام، الحكم الذي يفاخر بالمشروعات العملاقة والإنفاق على واجهات حضرية، لكنه يعجز عن ضمان الحد الأدنى من انضباط سوق الطب الخاص، يثبت فشلًا في أولويات إدارة الدولة.

إذا كانت مدينة واحدة مثل بدر تُغلَق فيها 5 عيادات في يوم واحد، وفي الوقت نفسه تغلق الوزارة مستشفى وعيادات في محافظات أخرى في اليوم التالي، فالمشكلة ليست “جيوب مخالفة” بل نمط ممتدّ في حقبة السيسي .

 

ماذا كان يجب أن يحدث؟

  1. بوابة ترخيص رقمية مُوحّدة تُصدر التراخيص خلال مدد محددة وقصيرة، مع نشر سجل عام يُمكّن المواطن من التحقق بالاسم والرقم والموقع قبل دخول أي منشأة.
  2. تفتيش ذكي قائم على البيانات: ربط الشكاوى، فواتير الأجهزة الطبية، التأمينات، والإعلانات التجارية، لاستهداف البؤر عالية الخطورة قبل أن تفتح أبوابها.
  3. ردع مُجْدٍ: غرامات مضاعفة، إغلاق فوري مع إحالة جنائية في حالات انتحال صفة طبيب، ومصادرة معدات وأدوية مجهولة المصدر.
  4. شفافية أسبوعية: نشر تقارير تفصيلية دورية تتضمن المواقع، المخالفات، الإجراءات القضائية، وأي إصابات أو وفيات مرتبطة بالمخالفات؛ لا بيانات إنشائية.
  5. تمكين النقابات والهيئات المهنية لتكون جزءًا من منظومة الإبلاغ المبكر، مع حماية قانونية للمبلّغين.

 

ظاهرة تتغذّى على فشل منظومي

تشميع 5 عيادات في بدر ليس خبرًا عابرًا؛ إنه حلقة جديدة في سلسلة تكشف هشاشة الحوكمة الصحية تحت حكم السيسي.

حجم الإغلاقات المتكررة خلال 2024 و2025، وتصريحات المسؤولين التي تُعيد ذات العبارات، والغرامات التي لا تردع، كلها مؤشرات إلى فشل في كل المستويات؛ من التخطيط والرقابة إلى التشريع والتطبيق.