في مطلع يوليو 2025، بدأت السلطات الليبية في مناطق الشرق، الخاضعة لسيطرة قوات المشير خليفة حفتر، تنفيذ حملات واسعة لترحيل العمالة المصرية، المئات من العمال المصريين، الذين دخلوا ليبيا عبر معابر رسمية وغير رسمية، تم احتجازهم في مراكز مؤقتة بمدينة طبرق والبيضاء قبل نقلهم إلى الحدود المصرية.
وفقًا لشهادات عمال وناشطين، تمت عمليات الترحيل في ظروف قاسية، وبدون منحهم فرصة للمطالبة بأجورهم المتأخرة أو مستحقاتهم القانونية.
ناجي الشربيني، عضو المجلس الرئاسي لاتحاد القوى الوطنية في ليبيا، صرّح في مقابلة إعلامية بتاريخ 5 أغسطس 2025 قائلاً: "ما يجري بحق العمالة المصرية لا يراعي المعايير الإنسانية ولا القوانين الدولية، هناك إهمال واضح لحقوقهم الأساسية، ولا تُمنح لهم أي حماية قانونية أثناء الترحيل."
كما أكدت "منصة اللاجئين في مصر" أن ما لا يقل عن 350 عاملًا تم ترحيلهم خلال الأسبوع الأول من أغسطس فقط، بعضهم تعرّض لمعاملة مهينة، ومصادرة أوراقهم الثبوتية، وحرمانهم من أجور امتدت لأشهر.
الأزمة لا تنفصل عن الوضع السياسي المعقد في ليبيا، حيث تتداخل المصالح الدولية والإقليمية، وفقًا لمراقبين، فإن التدخلات الأجنبية في ليبيا، وعلى رأسها الدعم العسكري والسياسي الخارجي، ساهمت في تكريس حالة الانقسام وغياب المؤسسات الفاعلة، مما جعل العمالة الأجنبية، خاصة المصرية، عرضة للاستغلال والطرد الجماعي.
هذا الواقع يتقاطع مع صمت حكومة الانقلاب المصرية، التي لم تتخذ خطوات جادة لحماية مواطنيها، ما يثير تساؤلات حول مدى تواطؤها أو تقاعسها.
سوابق ترحيل تاريخية
هذه ليست المرة الأولى التي يُعاني فيها العمال المصريون في ليبيا من سوء المعاملة أو عمليات الترحيل القسرية، فالتوترات بين القاهرة وطرابلس منذ سبعينات القرن الماضي خلفت موجات من الترحيل المتكرر، حيث يُعتبر العمال المصريون على الدوام "كبش الفداء" في النزاعات السياسية والدبلوماسية بين البلدين.
ففي السبعينيات، وخاصة في عهد القذافي، شهدت ليبيا ترحيل مئات المصريين في ظروف عنيفة بعد توترات سياسية مزمنة بين البلدين.
يُذكر أن ترحيل العمالة المصرية من ليبيا تصاعد بشكل لافت، خصوصًا منذ بداية العقد الحالي، مع تصاعد الاضطرابات السياسية في ليبيا وتدهور الأوضاع الأمنية.
في 2023 و2024، شهدت ليبيا عمليات ترحيل جماعية ممنهجة للعمالة المصرية التي كانت تتواجد بصورة غير نظامية، حيث تم ترحيل مئات إلى آلاف من العمال يوميًا.
على سبيل المثال، أعلنت حكومة شرق ليبيا عن ترحيل حوالي 600 عامل مصري غير موثق في نوفمبر 2023، وفي أبريل 2025 تم ترحيل 38 عاملاً مصريًا من منطقة طبرق دون حقوق أو ضمانات حقيقية.
القوانين الدولية المنتهكة
تتعارض هذه الإجراءات مع اتفاقية حماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم لعام 1990، والتي تنص على عدم جواز الطرد الجماعي، وضرورة تمكين العامل من الدفاع عن نفسه قبل الترحيل، كما تخالف اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 97 بشأن الهجرة من أجل العمل، التي تشدد على ضمان المساواة في الحقوق والأجور والحماية من الترحيل التعسفي.
هيومن رايتس ووتش، في تقريرها الصادر في 2 أغسطس 2025، طالبت السلطات الليبية بوقف عمليات الطرد الفوري، والتحقيق في الانتهاكات، وضمان وصول العمال إلى مستحقاتهم.
الآثار الإنسانية والاجتماعية كانت مدمّرة، كثير من العمال المرحّلين عادوا إلى مصر بلا أموال أو ممتلكات، بعدما تركوا وراءهم سنوات من العمل الشاق، بعضهم فقد منزله في مصر بعد عجزه عن سداد القروض، وآخرون أصبحوا بلا مصدر رزق في ظل أزمة اقتصادية خانقة.
على المستوى المجتمعي، فقدت أسر كاملة مصدر دخلها الرئيسي، بينما ارتفعت معدلات البطالة في بعض القرى بمحافظات الصعيد والوجه البحري، التي تعتمد على تحويلات العمالة في ليبيا.
صمت مثير لحكومة الانقلاب المصرية
وزارة القوى العاملة المصرية اكتفت، في بيان مقتضب بتاريخ 7 أغسطس 2025، بالقول إنها "تتابع الموقف"، دون إعلان أي خطط لتعويض المتضررين أو التحرك دبلوماسيًا لحمايتهم، هذا الموقف أثار انتقادات حادة، وصفوا تعامل الحكومة بأنه "تخلي عن المسؤولية الوطنية".
النائب السابق محمد عماد صرّح على صفحته في "إكس": "صمت السلطة جريمة، والمصريون في ليبيا يواجهون الترحيل بلا حقوق وسط تواطؤ دولي وإقليمي."
ليبيا.. مبررات أمنية أم تبرير للانتهاكات؟
السلطات الليبية بررت الإجراءات بدوافع "تنظيم سوق العمل" و"مكافحة الهجرة غير الشرعية"، لكن ناشطين حقوقيين يرون أن هذه المبررات تُستخدم كغطاء لترحيل جماعي غير إنساني، خاصة أن غالبية المتضررين كانوا يعملون بشكل نظامي أو شبه نظامي، وبعضهم دفع رسوم إقامات باهظة.
تقرير لمركز الدراسات الليبي في بنغازي (15 يوليو 2025) كشف أن 70 % من العمال المصريين المرحّلين كانوا قد جددوا أوراق إقامتهم خلال العام نفسه.
في ظل الوضع الليبي المنقسم، تستفيد جهات خارجية من اضطراب سوق العمل والتهجير القسري، عبر التحكم في عقود الإعمار والمشاريع الكبرى، ما يُقصي العمالة المحلية والأجنبية غير الموالية، هذا النمط يصفه بعض الخبراء بـ"الاحتلال الاقتصادي"، حيث يتم توظيف الموارد والسياسات لخدمة أطراف معينة على حساب حقوق العمال.
تصاعد الضغوط الحقوقية
منظمة العفو الدولية طالبت، في بيانها الصادر بتاريخ 6 أغسطس 2025، بفتح ممرات آمنة للعمالة الأجنبية في ليبيا، وضمان دفع الأجور قبل أي عملية ترحيل.
كما دعت مصر إلى إرسال بعثات قنصلية عاجلة لمتابعة أوضاع مواطنيها، مشيرة إلى أن "غياب الحماية القنصلية يعرض حياة وأرزاق المصريين في الخارج للخطر."
معاناة عابرة للحدود
ما يجري اليوم ليس مجرد أزمة عمالة، بل انعكاس لصراعات سياسية وأمنية واقتصادية تتجاوز حدود ليبيا ومصر، ضحيتها الأولى هم العمال البسطاء، الذين دفعوا ثمن غياب العدالة الدولية وتواطؤ الحكومات.
مع استمرار الصمت الرسمي، وتفاقم الأوضاع الميدانية، تظل الحاجة ملحّة لجهد حقوقي ودبلوماسي منظم، يضغط لوقف الترحيل القسري وضمان حقوق العمالة، بما يتماشى مع القوانين الدولية، ويعيد الاعتبار لكرامة الإنسان قبل أي اعتبارات سياسية أو اقتصادية.