شهدت اليابان خلال الأيام الأخيرة واحدة من أكبر المظاهرات التضامنية مع الشعب الفلسطيني في تاريخها، حيث خرج مئات الآلاف من المواطنين في مسيرات ضخمة جابت شوارع العاصمة طوكيو ومدن رئيسية أخرى مثل أوساكا، كيوتو، ويوكوهاما.
رفع المحتجون أعلام فلسطين، ورددوا شعارات تُدين المجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال في غزة، في مشهد أكد أن البعد الإنساني للقضية الفلسطينية قادر على تحريك شعوب من ثقافات بعيدة جغرافيًا ودينيًا، في وقت تلتزم فيه الأنظمة العربية الصمت أو الاكتفاء ببيانات بروتوكولية باردة.
https://x.com/i/status/1953929067147014473
الاحتجاجات في قلب طوكيو
في العاصمة طوكيو، امتلأت الشوارع المحيطة بمحطة "شيبويا" الشهيرة بآلاف المحتجين الذين نظموا مسيرة سلمية امتدت لعدة كيلومترات.
كان المشهد لافتًا ليس فقط من حيث العدد، بل من حيث تنوع المشاركين: طلاب جامعات، عمال، أسر يابانية كاملة مع أطفالهم، نشطاء سلام، وحتى شخصيات أكاديمية وفنية بارزة.
وقد حمل المتظاهرون لافتات كتبت باليابانية والإنجليزية والعربية، ومن أبرزها:
- "Free Palestine" – حرروا فلسطين
- "Stop Genocide in Gaza" – أوقفوا الإبادة في غزة
- "No More War Crimes" – لا لجرائم الحرب
- "Children of Gaza are Children of the World" – أطفال غزة هم أطفال العالم
كما كان لافتًا رفع صور لأطفال غزة الذين قضوا تحت القصف، وصور لنساء يبحثن عن ذويهن تحت الأنقاض، ما أضفى بعدًا إنسانيًا قويًا على المظاهرات.
أوساكا وكيوتو.. الحشود تمتد
في أوساكا، ثاني أكبر المدن اليابانية، شارك عشرات الآلاف في مسيرة انطلقت من ساحة "نامبا بارك" واتجهت نحو مركز المدينة، مرددين شعارات تندد بالاحتلال وتطالب الحكومة اليابانية بقطع أي تعاون عسكري أو اقتصادي مع إسرائيل.
أما في كيوتو، فقد نظم طلاب جامعة كيوتو العريقة وقفة احتجاجية أمام الحرم الجامعي، وزعوا خلالها منشورات توضح تاريخ القضية الفلسطينية، مع التركيز على الوضع الإنساني في غزة بعد أسابيع من الحصار والقصف.
أبرز المشاركين
- الناشطة اليابانية ميساكي ناكامورا: معروفة بمواقفها المناهضة للحروب، قالت في كلمتها أمام الحشود بطوكيو: "نحن هنا لأن الإنسانية لا تعرف حدودًا، ولأن أطفال غزة يستحقون الحياة كما أطفال اليابان".
- البروفيسور كينجي ساساكي: أستاذ العلاقات الدولية بجامعة طوكيو، ألقى كلمة شرح فيها كيف أن ما يحدث في غزة يشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، داعيًا الحكومة اليابانية لاتخاذ موقف سياسي أكثر وضوحًا ضد الاحتلال.
- مجموعة طلاب السلام الياباني الفلسطيني: وهي منظمة طلابية مشتركة بين يابانيين وفلسطينيين يدرسون في اليابان، قادت تنظيم عدة فعاليات إعلامية وثقافية لشرح القضية للرأي العام المحلي.
موقف الحكومة اليابانية
رغم أن الحكومة اليابانية التزمت حتى الآن بموقف "الحياد الدبلوماسي"، مكتفية بدعوات لوقف إطلاق النار وتقديم مساعدات إنسانية عبر الأمم المتحدة، فإن حجم الاحتجاجات وضعها تحت ضغط شعبي متزايد لمراجعة سياساتها.
وقد صرح المتحدث باسم وزارة الخارجية اليابانية مؤخرًا بأن طوكيو "تتابع بقلق بالغ الوضع في غزة"، وهو تصريح يرى مراقبون أنه لا يرقى لمستوى التحرك المطلوب في ظل المجازر المستمرة.
المفارقة مع الموقف العربي
في الوقت الذي تحتشد فيه شوارع اليابان بمئات الآلاف تضامنًا مع شعب يعيش على بعد آلاف الكيلومترات، نجد الشوارع العربية فارغة من أي تحرك شعبي واسع.
الأنظمة العربية، خصوصًا تلك التي وقعت اتفاقيات تطبيع مع الاحتلال، تلتزم صمتًا شبه كامل، فيما تمارس أجهزتها الأمنية تضييقًا شديدًا على أي محاولات لتنظيم مظاهرات أو مسيرات تضامنية.
حتى على المستوى الشعبي، ورغم التعاطف الواسع على وسائل التواصل الاجتماعي، فإن المظاهرات الكبرى تكاد تكون غائبة، إما بسبب القمع الأمني أو حالة الإحباط العام من جدوى التحركات.
هذا التباين الحاد بين الحماس الياباني والركود العربي يثير تساؤلات عميقة حول معنى التضامن الإنساني وغياب المبادرة في العالم العربي رغم القرب الجغرافي والثقافي والديني من القضية الفلسطينية.
البعد الإنساني في التحرك الياباني
من اللافت أن التحرك الياباني ليس مدفوعًا بدوافع دينية أو سياسية ضيقة، بل بوعي إنساني عام، تشكل عبر عقود من الانخراط في قضايا حقوق الإنسان، ورفض الحروب بعد التجربة المريرة لليابان مع القصف النووي في هيروشيما وناجازاكي.
هذا الوعي جعل اليابانيين أكثر حساسية تجاه معاناة المدنيين في الحروب، خصوصًا الأطفال، وهو ما يفسر تركيز الشعارات على الجانب الإنساني أكثر من الجانب السياسي.
التأثير المحتمل لهذه الاحتجاجات
يرى محللون أن استمرار هذه الموجة من الاحتجاجات في اليابان يمكن أن ينعكس على السياسة الخارجية اليابانية في المدى المتوسط، عبر:
- زيادة الضغط على الحكومة لرفع صوتها في المحافل الدولية.
- توسيع حجم المساعدات الإنسانية الموجهة لغزة.
- دفع شركات يابانية لمراجعة تعاملاتها التجارية مع إسرائيل، خاصة في مجالات التكنولوجيا والسلاح.
وفي النهاية فإن ما شهدته اليابان في الأيام الأخيرة يمثل رسالة قوية بأن التضامن مع المظلومين لا يحتاج إلى رابط ديني أو قومي، بل إلى ضمير حي وشعور إنساني صادق.
وفي حين يرفع اليابانيون شعارات الحرية لفلسطين على بعد آلاف الأميال، تبقى العواصم العربية في صمت ثقيل، وكأنها تعيش في عالم آخر.
التاريخ سيذكر أن شعوبًا بعيدة ثقافيًا عن فلسطين خرجت تهتف لأجلها، بينما شعوبًا أقرب جغرافيًا وتاريخيًا وقوميًا بقيت حبيسة القيود السياسية أو الصمت الاختياري.