في وقتٍ تواجه فيه إسرائيل انتقادات دولية حادة بسبب حربها المستمرة على قطاع غزة، تتصاعد أزمة داخلية تهدد بتفجير المشهد السياسي والاجتماعي من الداخل، حيث بدأ اليهود المتشددون (الحريديم) في تصعيد احتجاجاتهم ضد الخدمة العسكرية الإلزامية، مؤكدين رفضهم القاطع للمشاركة في أي عمليات قتالية، ورافعين شعارات "لن نموت من أجل دولة دنيوية".

الاحتجاجات الأخيرة ليست سوى حلقة في سلسلة طويلة من التوترات بين التيار الديني المتشدد والدولة، لكن تصاعدها في هذه المرحلة الحرجة من الحرب يسلّط الضوء على أزمة التجنيد في إسرائيل، ويطرح تساؤلات عميقة حول قدرة المؤسسة العسكرية على تأمين الجنود، خاصة في ظل ما وصفه كبار القادة العسكريين بأنه "نزيف بشري مرعب" على جبهات غزة.

 

الحريديم: فئة دينية ترفض الخدمة العسكرية

يشكّل الحريديم نحو 13٪ من سكان إسرائيل، ويعيش أغلبهم في مجتمعات دينية مغلقة ترفض الانخراط في مؤسسات الدولة الحديثة، وعلى رأسها الجيش الإسرائيلي. وبموجب اتفاق قديم يعود لعقود، تم إعفاء طلاب المدارس الدينية (يشيفا) من الخدمة العسكرية، وهو ما أثار وما يزال يثير جدلًا واسعًا داخل المجتمع الإسرائيلي.

لكن بعد اشتداد الحرب على غزة وسقوط مئات الجنود بين قتيل وجريح، بدأت أصوات داخل الجيش والحكومة تطالب بإلغاء الإعفاءات وضم المتشددين إلى الخدمة العسكرية، وهو ما أثار غضبًا واسعًا في الأوساط الحريدية، وترجم إلى مظاهرات صاخبة واشتباكات مع الشرطة في القدس وبني براك ومناطق أخرى.

 

المتدينون المتشددون: "لن نشارك في حرب إبادة"

مما زاد من حدّة التوتر، خروج عدد من كبار حاخامات التيار الحريدي بتصريحات قوية، ليس فقط ضد التجنيد العسكري، بل ضد طبيعة الحرب ذاتها، حيث وصفها بعضهم بأنها "غير أخلاقية وتتنافى مع الشريعة اليهودية"، في إشارة إلى أعداد المدنيين الفلسطينيين الذين يسقطون جراء العمليات العسكرية في غزة.

كما أكّد بعض الحريديم صراحة أنهم يرفضون المشاركة في عمليات قتل جماعي لا تتفق مع تعاليم التوراة، وهو موقف نادر في مجتمع ديني غالبًا ما يلتزم الصمت السياسي.

وقد أطلق الحاخام "يسرائيل آيزنبرغ"، وهو أحد الشخصيات المؤثرة في مدينة بني براك، تصريحًا قال فيه:

"دولة إسرائيل لم تُنشأ على أسس توراتية، ونحن لا نُقتل دفاعًا عن أفكارها العلمانية. من مات في غزة لن يُعتبر شهيدًا في ديننا، بل ضحية لحرب لا تخصنا."

 

موجة الاستقالات من الخدمة العسكرية

وفي موازاة رفض الحريديم، تزايدت أعداد الرافضين للخدمة العسكرية من فئات أخرى، خصوصًا من الجنود الاحتياط والشباب اليساري الذين يرفضون المشاركة في الحرب لأسباب أخلاقية وإنسانية، مشيرين إلى المجازر التي ترتكبها القوات الإسرائيلية بحق المدنيين في غزة.

في يونيو 2025، أعلنت حركة "نرفض أن نكون قتلة" المكوّنة من طلاب جامعيين وناشطين يساريين، أن أكثر من 1,500 شاب إسرائيلي وقّعوا على تعهد بعدم الانخراط في الخدمة العسكرية أو المشاركة في العمليات الجارية في غزة، متهمين الدولة بارتكاب "جرائم حرب" بحق الفلسطينيين.

كما سجّلت منظمة "يش دين" المعنية برصد التجاوزات العسكرية داخل الجيش الإسرائيلي زيادة بنسبة 48٪ في عدد طلبات الإعفاء من الخدمة منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر 2023.

 

جنود نظاميون ينشقون ويكشفون المستور

لم يقتصر الرفض على المدنيين، بل امتد إلى داخل الجيش نفسه، حيث شهدت إسرائيل استقالات وانشقاقات صامتة من صفوف ضباط وجنود شاركوا في العمليات البرية على غزة، بعد أن عبّر بعضهم عن شعورهم بـ"الذنب" والصدمة من حجم الدمار.

أحد هؤلاء هو الجندي السابق "يوآف حاييم"، الذي قال في شهادة مصوّرة نُشرت عبر قناة ألمانية:

"كنا نُؤمر بقصف أحياء كاملة لأن بها مشتبهاً بهم فقط... شاهدت أطفالًا يُنتشلون من تحت الركام، وشعرت أنني أشارك في إبادة وليس حربًا."

وقد استقال حاييم بعد أسبوعين فقط من بداية مشاركته في العملية العسكرية، وهو الآن يخضع لتحقيق بتهمة "الإساءة إلى سمعة الجيش".

 

انقسام داخل المجتمع الإسرائيلي

هذا الرفض المتنامي للتجنيد، سواء من الحريديم أو من الجنود والناشطين، يكشف انقسامًا عميقًا داخل المجتمع الإسرائيلي حول طبيعة الدولة، وطريقة إدارتها للصراع مع الفلسطينيين، ومستقبل الحرب في غزة.

ففي حين تصر الحكومة على أنها "تخوض حربًا عادلة ضد الإرهاب"، ترى فئات واسعة من الشعب أن الدولة فقدت بوصلتها الأخلاقية، وأن استمرار الحرب سيزيد من عزلتها الدولية ويؤدي إلى تفكك الجبهة الداخلية.

وقد حذّر الكاتب الإسرائيلي "جدعون ليفي" في صحيفة هآرتس من "تفكك العقد الاجتماعي"، مضيفًا:

"كيف تطلب من الشباب أن يُقتلوا في غزة، بينما يعيش آلاف الحريديم في مدنهم لا يشاركون في شيء سوى تلقي الإعانات؟"

 

أزمة سياسية متفاقمة

تفاقم أزمة التجنيد تضع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو تحت ضغط متزايد من أطياف متعددة؛ فالأحزاب اليمينية تطالبه بفرض الخدمة على الجميع دون استثناء، بينما يهدّده الحريديم بسحب دعمهم البرلماني إذا أُجبروا على الخدمة العسكرية، ما قد يُسقط حكومته.

وقد عبّر زعيم المعارضة يائير لابيد عن المأزق بقوله:

"لا يمكن أن تستمر دولة محترمة في فرض الموت على شبابها العلماني، بينما تُعفي آلاف الحريديم لأنهم يدرسون التوراة."

 

جيش في أزمة ودولة تواجه التآكل من الداخل

في ظل استمرار الحرب في غزة، والرفض المتنامي للتجنيد، سواء لأسباب دينية أو أخلاقية أو سياسية، يبدو أن الجيش الإسرائيلي يواجه أزمة تجنيد هي الأخطر منذ تأسيس الدولة. أزمة تكشف عن هشاشة الوحدة الوطنية، وتطرح أسئلة كبيرة حول مستقبل "جيش الشعب"، الذي لم يعد شعبه متّحدًا خلفه.

ومع استمرار المقاومة في غزة، وتزايد عدد القتلى، وتآكل الدعم الشعبي للحرب، قد تجد إسرائيل نفسها قريبًا أمام معضلة وجودية: هل يمكنها الاستمرار في حرب لا يريد أحد أن يقاتلها؟