في قلب صراع لا تخوضه بشكل مباشر، وجدت مصر نفسها تدفع الثمن الباهظ للتصعيد العسكري المتفاقم بين إسرائيل وإيران.
فمع كل ضربة تُطلق، وكل منشأة تُستهدف، تتوسع دائرة الأضرار لتطال اقتصادات الإقليم، وتحديداً الاقتصاد المصري المنهك أساساً بأزمات متراكمة.
وبينما يحتدم القصف المتبادل في الشرق الأوسط، تنزف القاهرة من بوابات متعددة: أمن الطاقة، قناة السويس، الجنيه المتهاوي، موازنة الدفاع، وحتى موائد المواطنين.
منذ الضربة الإسرائيلية ضد إيران في 13 يونيو الجاري، وما تلاها من رد إيراني، دخلت المنطقة حالة من الترقب والاضطراب الجيوسياسي، كان من أولى ارتداداته إغلاق إسرائيل لحقول الغاز البحرية "ليفياثان" و"كاريش"، ما أدى إلى انقطاع الإمدادات إلى مصر.
هذه الخطوة فجّرت أزمة طاقة حادة في البلاد، دفعت الحكومة إلى إعلان حالة الطوارئ، وسط تحذيرات من أن تتسبب في توقف صناعات حيوية، وتعميق التقشف، وتوسيع رقعة الغضب الشعبي.
ضربات الغاز... ضربة للاقتصاد المصري
منذ سنوات، استثمرت مصر موقعها الجغرافي وشبكتها البنية التحتية في التحول إلى مركز إقليمي لتجميع وتسييل الغاز، معتمدة على تدفقات الغاز الإسرائيلي عبر خط أنابيب العريش - عسقلان.
لكن مع تعليق الإمدادات بسبب الصراع، تعطّلت معامل الإسالة في دمياط وإدكو، وتوقفت مصانع أسمدة تعتمد على الغاز كمصدر رئيسي للطاقة، ما تسبب في خسائر بالمليارات.
يقول المحلل الجيوسياسي الإيطالي إيمانويلي روسّي إن "الصراع كشف هشاشة الاقتصاد المصري، الذي يعاني أصلاً من أزمة سيولة وعجز مزمن في الميزان التجاري، ويعتمد بشكل خطير على واردات الطاقة والغذاء".
ويضيف": "مع توقف إمدادات الغاز، تضطر الحكومة إلى ترشيد الكهرباء، ما يؤثر على الإنتاج الصناعي، والمرافق الحيوية، والمواطن العادي في منزله".
قناة السويس على خط النار
لم تكن الطاقة وحدها في مهبّ الأزمة، بل امتد التأثير إلى الشريان الأهم للعملة الصعبة: قناة السويس.
فالتوترات الإقليمية دفعت العديد من السفن التجارية إلى تحاشي المرور من البحر الأحمر ومضيق هرمز، ما أدى إلى تراجع ملحوظ في حركة الملاحة بالقناة، وسط تقارير عن انخفاض الإيرادات الشهرية.
تحذيرات روسي جاءت صريحة: "أي تهديد للملاحة في البحر الأحمر يعرض قناة السويس لضربة قاصمة. مصر تعتمد على دخل القناة لتوفير العملة الأجنبية وسد عجز الموازنة، وإذا استمر النزيف، فستُضطر الحكومة إلى مزيد من الاقتراض الخارجي أو رفع الضرائب وخفض الدعم".
إنفاق دفاعي
التطورات المتلاحقة دفعت مصر إلى تعزيز موازنة الدفاع بشكل استثنائي، خشية امتداد النزاع أو استهداف المصالح المصرية في سيناء أو سواحل المتوسط.
هذا الإنفاق، وإن بدا ضرورياً من منظور الأمن القومي، يضغط على موازنة تعاني أصلاً من العجز، ويؤجل تنفيذ إصلاحات اقتصادية حيوية وعدت بها الحكومة أمام صندوق النقد الدولي.
يقول روسّي: "زيادة الإنفاق الدفاعي في هذا التوقيت أشبه بالسير على حبل مشدود. فالحكومة بحاجة إلى دعم اجتماعي لمواجهة التضخم وتدهور القوة الشرائية، لكنها مضطرة أيضاً لتعزيز أمنها القومي في بيئة إقليمية بالغة التعقيد".
السياحة تختنق والمستثمرون يفرّون
تداعيات الحرب امتدت إلى السياحة، القطاع الذي تعوّل عليه الحكومة كأحد أبرز مصادر النقد الأجنبي.
تقارير دولية أشارت إلى تراجع الحجوزات وارتفاع تكاليف التأمين على الرحلات، خصوصاً مع إغلاق المجال الجوي في دول الجوار.
كما أن الاستثمارات الأجنبية تأثرت سلباً، مع اتجاه رؤوس الأموال إلى ملاذات أكثر استقراراً.
الكاتب الإيطالي فابريتسيو كاسّينيللي نشر في صحيفة Africa ExPress تقريراً بعنوان "إسرائيل توقف تصدير الغاز: طوارئ في مصر"، أشار فيه إلى أن وقف التصدير يمثل "ضربة مزدوجة لمصر وإيطاليا معاً، ولكنه أشد قسوة على القاهرة"، التي تعتمد على الغاز الإسرائيلي في توليد الكهرباء وتشغيل مصانعها، وإعادة تصديره إلى أوروبا ضمن اتفاق ثلاثي وُصف سابقاً بـ"التاريخي".
غضب شعبي مكتوم
في الوقت الذي تحاول فيه الدولة امتصاص الصدمة الاقتصادية، يعيش الشارع المصري حالة من الاحتقان.
فمع كل موجة غلاء جديدة، تتآكل دخول المواطنين الذين يواجهون ارتفاعاً في أسعار الوقود والخبز والنقل والكهرباء.
وفي ظل القيود المفروضة على الحريات، يظل الغضب مكتوماً، لكن قابلية الانفجار قائمة.
يربط بعض المراقبين بين قرار القاهرة بمنع "المسيرة العالمية من أجل غزة" مؤخراً، وبين الرغبة في تجنّب أي حراك شعبي، قد يبدأ بتعاطف سياسي، وينتهي بمطالب اجتماعية واقتصادية.
مصر بين المطرقة والسندان
يبدو أن مصر، اليوم، واقعة في قلب أزمة إقليمية دون أن تكون طرفاً مباشراً فيها.
فهي مطالبة بضمان أمنها القومي وسط إقليم مشتعل، وتوفير احتياجات 120 مليون مواطن في ظل انكماش اقتصادي حاد.
وبينما تحاول الحكومة التوازن بين متطلبات الدفاع ومتطلبات الإنفاق الاجتماعي، تتآكل هوامش المناورة يوماً بعد يوم.