تبدو ساذجة تلك الصدمة من إقرار البرلمان المصري قانون الإجراءات الجنائيّة الجديد؛ بلهاء إلى حدٍّ كبير، إذ لم يقدّم هذا البرلمان، أو غيره للأمانة، أيّ إشارة تقولُ بغير انحيازاته الحاسمة لمصدر التعليمات الذي شكّله، وأقعد هؤلاء على مقاعد التشريع في بلد عظيم كمصر، رغم أنّ مؤهلات غالبيّتهم لا تتجاوز التقرير الأمني الذي أدخلهم إلى هناك.
لعلّ الاعتراف بفقدان مصر مجلساً تشريعياً يكون أهون، لولا أنّه في جانبٍ آخر قد يُسقطُ عنّا ضرورة مساءلة هؤلاء الذين يسوّدون مستقبلنا أكثر ممّا فيه من سواد، وينسفون كلّ احتمال للعيش فيه على أيّ صورةٍ مهما كانت بدائيّتها، فلا حدود ولا أرض ولا اقتصاد ولا عدالة ولا حتى لقمة عيش، فقط ينفّذون ما يأتيهم على مجموعة الواتساب التشريعية، والتي لا يفقهُ مصدرها شيئًا، لا عن التشريع ولا عن البلد.
كانت القوانين الاستثنائيّة (كالطوارئ) سُبّةً يعيّر بها أهل الحكم، وإن ظلّت تحكم صراحةً أو ضمنًا، لكنّ السلطة قرّرت أن توفّر على نفسها وطبّالي زفّتها وذبابها الإلكتروني، كما على الشعب أيضًا، اضطرار الجميع لادّعاء غير حقيقة الحاصل، فاستبدلت الاستثنائي بالطبيعي، وجعلت قانون الإجراءات الجنائيّة، على تلفيق اسمه، قانون طوارئ عسكريًا يحكم البلاد والعباد بلا رقيب ولا حسيب.
فبدءًا من غياب أيّ ضمانات جادّة وحقيقيّة للحدّ من استخدام الحبس الاحتياطي عقوبةً (أشدّ من العقوبات المنصوص عليها في كثير من الأحيان)، والذي يحتفظ القانون الجديد بآليات تسمح بمدّه إلى آجال طويلة من دون رقابة أو قيود، خاصّةً على جريمة "تدوير" المعتقلين بإعادة اتهامهم في قضايا جديدة، بالتهم نفسها التي حبسوا عليها لأوّل مرّة (وهو التعريف الحرفي للاعتقال التعسّفي)، فيجعل القانون الجديد الحبس الاحتياطي (ترسيخًا للواقع المشؤوم) وسيلة ممنهجة لإطالة أمد الاعتقال من دون محاكمة.
ثمّ تأتي مصيبة إطلاق يد النيابة العامّة في مواجهة المعتقل/المتّهم، وإهدار حقوقه بالسماح لها بالتحقيق معه في غياب دفاعه، ومنع المحامي من الاطلاع على أوراق القضايا حفظًا لـ"مصلحة التحقيق"، وهو ما يجعل المعتقل عاريًا تمامًا من أيّ فرصة للدفاع ودحض حجج السلطة (على اختلاف طبقاتها) ولا المحامي من تقديم مرافعته ودفاعه بشكل كامل ووافٍ، وتنسف أيّ احتمال لتكافؤ الفرص بين طرفي الدعوى وتفرّغ المحاكمة (أيّ محاكمة) من مضمونها.
كما يمنح القانون الفاضح النيابة العامة صلاحيّات تمكّنها من تجاوز دورها الطبيعي، بصفتها جهة ادّعاء، إلى صلاحيات تنفيذيّة قضائيّة، كما في مسألة التوقيف والتحقيق، كما يمنحها الحريّة في اختيار القضايا التي تباشر التحقيق فيها (إذا رأت محلًّا لذلك) خاصّةً ما يتعلّق بالجنح والمخالفات، وهو ما يمنحها القدرة على تقييد حريّة المواطنين وعقابهم من دون رقابة.
إضافة لما منحه هذا القانون للنيابة العامة (النائب العام أو من يفوّضه) من سلطة لمنع المواطنين من السفر من دون قيد زمني أو سببي، وهو ما يجعلها عقوبة غير خاضعة لأيّ رقابة أو مساءلة، أو قدرة لهذا المواطن المُعاقب على الفكاك.
وفي السياق نفسه من إهدار ضمانات العدالة، فقد أضفى القانون صفةً قانونيّة دائمة على ما كان استثنائيًّا من الممارسات لظروف (كجائحة كورونا مثلاً) مثل استجواب المعتقلين/المتهمين عن بعد باستخدام الفيديو، وكذلك محاكمتهم عبر ذات التقنية، إضافة للعديد من التدابير التي تحتّمها ادّعاءات "الضرورة" التي لطالما استُخدمت لنسف حقوق المواطنين وإهدار احترام حياتهم الخاصّة، كمراقبة وسائل الاتصال وتفتيش محالّ السكن وغيرها من دون إذن قضائي أو رقابة قضائيّة كافية، بل ويعطي الصلاحيات نفسها لأفراد الأمن "في حال الخطر" بحسب تعريفه.
ولعلّ الختام الأنسب لنذكره هنا، وهي أمثلة بسيطة من طوفان خطر من مواد نسف العدالة والإجهاز على حقوق المتقاضين، هو ما نصّ عليه القانون بمنح أفراد الأمن والموظفين العموميّين حصانة واسعة، تمنع ملاحقتهم قضائيًّا على أفعال قد يرتكبونها أثناء تأدية عملهم مهما كانت مخالفةً للقانون، ولا يُستبعد بحسم الاعترافات المُنتزعة تحت التعذيب والإكراه ما يرسّخ جرائم على هذا القدر من البشاعة سلوكا قانونيا لأفراد الأمن.
بل وحظر القانون الجديد رفع الدعوى الجنائية ضدّ موظف عام أو مُستخدم عام أو أحد رجال الضبط في أيّ جنحة وقعت منه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها. كما منحت مسؤولي السجون حصانةً مشابهة تمنع محامي المعتقلين وذويهم من التقدّم مباشرةً للنيابة العامة ببلاغ أو شكوى ضدّ ما يُرتكب بحقّهم من قبل مسؤولي السجن، بل جعلت ذلك شبه مقصور على إدارة السجن الذي يسلّمها المسجون شكواه وترفعها بدورها للنيابة العامة (ماذا لو كانت الشكوى ضد إدارة السجن نفسها، وغالبًا ما تكون كذلك؟).
بدأتُ الكتابة وفي نيّتي أن أضع أخطر ما في هذا القانون/ الجريمة في حدود ما يسمح به عدد كلمات المقال، لكنّني اكتشفتُ أنّ الطريقة الوحيدة التي يمكن بها تبيان ما في هذا القانون من جرائم بحقّ الناس وحقوقهم وحريّاتهم وضمانات عدالة إجراءات التقاضي بحقّهم هي نسخه كما هو على ترتيبه، إذ كلّه جريمة، لا تعود بالعدالة خطوة إلى الوراء فحسب، إنّما تنسفها نسفًا، وتجهز على أيّ مساحة يمكن لصاحب الحقّ اللجوء إليها لإنصافه، إلا ما استطاع هو بنفسه، ثأرًا أو انتقامًا أو انفجارًا في وجه المجرمين بحقّه.