ملايين النساء في الهند وماليزيا وإندونيسيا وبنغلادش والفيليبين وفيتنام وتايلاند وكمبوديا وغيرها من دول جنوب شرق أسيا يتدافعن نحو محال الصاغة لشراء الذهب. بات الطلب على الشراء في تلك البقعة من المعمورة يفوق كل التوقعات. السيناريو يتكرر في دول أسيوية أخرى مثل روسيا وباكستان وأفغانستان وإيران. فهناك عمليات شراء غير مسبوقة وواسعة النطاق.

يتكرر الأمر في منطقة الخليج الثرية حيث تدافع المواطنون والوافدون معاً نحو شراء كميات كبيرة من المعدن النفيس الذي شهد قفزات في الفترة الأخيرة على خلفية زيادة المخاطر الاقتصادية والجيوسياسية حول العالم، والاضطرابات العنيفة في أسواق المال والبورصات بسبب اشتعال الحرب التجارية الشرسة ورسوم دونالد ترامب الجمركية.

لا يختلف الحال كثيراً في دول عربية أخرى، منها مصر والسودان وليبيا والجزائر والمغرب وتونس واليمن والأردن والعراق وسورية، حيث الشراء تعمق أكثر خاصة في الدول التي تتعرض عملاتها الوطنية لهزات وتراجع متواصل. كما انضمت أفريقيا إلى السباق خاصة في دول مثل إثيوبيا ونيجيريا وتشاد والنيجر وجنوب أفريقيا.

الملايين حول العالم باتوا على قناعة بأنه يجب الاحتماء بالذهب لأنه الأكثر ربحاً وضماناً وأمناً ومخزناً للقيمة في عصر الحروب الاقتصادية والتجارية التي يقودها ترامب، وحرب العملات وعودة التضخم والتشدد النقدي للأسواق. والمشهد بات مألوفاً بين المواطنين في العديد من الدول الذين اصطفوا أمام محال الصاغة لشراء كل أنواع الذهب، وفي مقدمتها السبائك والذهب بكل عياراته والحلي وذهب الزينة.

ومع موجة حيازة الذهب تلك، عاد الاهتمام بقوة بالمعدن الأصفر في كلّ أسواق المعادن والسلع حول العالم، وتصاعدت الاستفسارات حول الموعد المناسب للشراء، وهل نشتري الآن أم ننتظر، ومتى يحدث موسم جني الأرباح وتلتقط الأسعار أنفاسها حتى نعاود الشراء مرة أخرى، وما هي أحدث التوقعات، وهل شراء الذهب أفضل، أم حيازة الدولار؟

لا يقتصر الأمر على الأفراد الباحثين عن الضمان والربح معاً في زمن رسوم ترامب، بل عاد المضاربون بقوة إلى أسواق الذهب من السماسرة وأصحاب الأموال والثروات وصناديق الاستثمار وقناصي الصفقات، والأهم من ذلك، هو دخول الدول والبنوك المركزية العالمية السباق، وبشكل جماعي وموسع، مشترية الذهب وبكميات ضخمة، بعدما اشترت ما يزيد على الألف طن في العام الماضي بقيمة تقارب 96 مليار دولار، وذلك في محاولة لتنويع احتياطياتها من النقد الأجنبي، في ظل حالة الغموض وعدم اليقين الجيوسياسي غير المسبوقة التي تفرضها إدارة ترامب على الاقتصاد العالمي.

البنك المركزي الصيني قاد التحرك الجماعي حيث عزز حيازاته من الذهب، واشترى أطناناً منه، في محاولة لتفادي أي مخاطر اقتصادية ومالية ناتجة عن قرارات ترامب الفجائية والصادمة، وفي محاولة من البنك للضغط أيضاً على ترامب لإثنائه عن الحرب الشرسة التي يقودها ضد الاقتصاد الصيني. وكذا فعلت البنوك المركزية في تركيا والهند وبولندا وروسيا وأوزبكستان وسنغافورة وهي الأكثر شراء للذهب في العالم.

موجة الشراء الحادة تلك اشعلت توقعات حدوث قفزات في سعر الذهب حتى من قبل المؤسسات المالية وبنوك الاستثمار الكبرى، التي راحت تضع توقعات جديدة للأسعار بعد أن كسر الواقع توقعاتها السابقة وزاد السعر بنسبة 19% خلال الربع الأول من العام.

أحدث تلك التوقعات ما صدر عن بنك “جولدمان ساكس” الاستثماري الذي رفع توقعاته لأسعار الذهب إلى 3700 دولار للأوقية بنهاية العام الجاري 2025، بدلاً من 3300 دولار، مع نطاق تداول متوقع يتراوح بين 3650 دولاراً و3950 دولاراً، مبرراً ذلك بالطلب الأقوى من المتوقع من البنوك المركزية، وتزايد التدفقات لصناديق الاستثمار المتداولة بسبب مخاطر الركود.

كما لجأ المستثمرون حول العالم إلى المعدن باعتباره ملاذاً آمناً وسط زعزعة الأسواق وتنامي الصراعات في أوكرانيا والشرق الأوسط، وتوقعات عودة البنوك المركزية إلى سياسة التشدد النقدي وخفض أسعار الفائدة مع عودة شبح التضخم، وهو ما دفع سعره إلى حاجز 3320 دولارا للأوقية اليوم الأربعاء.

موجة شراء الذهب واتساع رقعتها عالمياً يوماً بعد يوم ليست في صالح الاقتصاد الأمريكي أو إدارة ترامب، فهذه الموجة تعطي رسائل عدة أخطرها أن العالم لم يعد يثق كثيراً بعملة الدولار الذي تتراجع قيمته في أسواق العملات، وأنّ هناك توقعات بحدوث هزات لتلك العملة وتآكل مكانتها ملاذاً آمناً بصورة تدريجية، إذا واصل ترامب سياسته التجارية المجنونة والمتغطرسة وحارب كل دول العالم اقتصادياً عبر رسومه الجمركية وقراراته الصادمة والأنانية والأحادية، وعاد البنك الفيدرالي لسياسة التشدد النقدي لمواجهة شبح التضخم، والتي تعني التوقف عن خطة خفض سعر الفائدة.