منذ لحظة دخوله البيت الأبيض، ظهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كقائدٍ يتعامل مع السياسة بنفس طريقة تعامله مع عالم الأعمال، وفقًا لاستراتيجيته الشهيرة في عقد "الصفقات". عقليته التفاوضية القائمة على الابتزاز والضغط، والتي طالما أثارت الجدل، لم تكن وليدة لحظتها، بل تجذّرت في فكره منذ سنوات، وهو ما أوضحه بوضوح في كتابه الشهير "فن الصفقة".

 

ترامب والتفاوض: من العقارات إلى السياسة

صدر كتاب "فن الصفقة" عام 1987، وكان ثمرة تعاون بين ترامب والصحفي توني شوارتز. يجمع الكتاب بين السيرة الذاتية لترامب ودليل عملي في عالم العقارات والتفاوض، حيث يكشف استراتيجياته التي مكّنته من تحقيق النجاح في صفقاته الكبرى. وعلى الرغم من مرور عقود على صدوره، فإن الكتاب ما زال يُعدّ مرجعًا لفهم عقلية ترامب، سواء في إدارة أعماله أو في قيادته السياسية لاحقًا.

يصرّح ترامب بأن "فن الصفقة" هو ثاني كتبه المفضلة بعد الكتاب المقدس، مشيرًا إلى أنه يجسد فلسفته في الحياة. يعكس الكتاب نظريته في التفاوض، حيث يعتمد على استراتيجيات مثل المبالغة في العرض، رفع سقف المطالب، ثم التراجع التدريجي للحصول على الحد الأقصى الممكن من المكاسب. هذه الطريقة، التي استخدمها بنجاح في عالم العقارات، أصبحت لاحقًا إحدى أدواته السياسية والدبلوماسية.

 

منظور ترامب للقيادة: رجل بلا مؤسسات

يكشف كتاب "فن الصفقة" أن ترامب لا يؤمن بدولة المؤسسات ولا بالدبلوماسية التقليدية، بل يرى أنه يجب أن يكون صاحب القرار الوحيد. يعتقد أن القيادة تعني فرض الشروط وإجبار الآخرين على القبول بها، وهو ما انعكس في سياسته الخارجية، حيث استخدم التهديدات والعقوبات لتحقيق أهدافه.

ويشير الكتاب إلى أن ترامب لا يخشى المواجهة، بل يراها أداةً ضرورية في التفاوض. يوضح كيف أنه يستخدم الصدمات الأولى لفرض شروطه، مؤمنًا بأن الطرف الأضعف سيخضع بسهولة إذا شعر بالخوف من العواقب. هذه العقلية ظهرت بوضوح خلال فترته الرئاسية، سواء في علاقاته مع الدول الحليفة مثل أوروبا وكندا، أو في مواجهاته مع خصومه مثل الصين وإيران.

 

استراتيجية "التضخيم الصادق": كيف يبني ترامب نفوذه؟

يركّز "فن الصفقة" على مبدأ "التضخيم الصادق"، حيث يرى ترامب أن الجمع بين المبالغة والتفاؤل يمكن أن يخلق هالة من الاهتمام حول مشروعاته، مما يزيد من قيمتها ويسهم في تحقيق نجاحها. استخدم هذا الأسلوب ليس فقط في أعماله التجارية، ولكن أيضًا في حملاته الانتخابية، حيث تعمّد تضخيم وعوده لإثارة الجدل وجذب الانتباه.

وفي الكتاب، يشرح ترامب كيف استطاع أن يستغل وسائل الإعلام لصالحه، مؤكدًا أن أي دعاية—even لو كانت سلبية—هي دعاية مفيدة طالما أنها تبقيه في دائرة الضوء. هذه الفلسفة كانت واضحة خلال رئاسته، حيث كان دائمًا محط أنظار الإعلام بتصريحاته الجريئة وقراراته المثيرة للجدل.

 

"لا تبدُ متلهفًا": قواعد ترامب في التفاوض

من المبادئ التي يشرحها ترامب في كتابه، هو أن أسوأ ما يمكن أن يفعله المفاوض هو أن يبدو متلهفًا لإتمام الصفقة، لأن ذلك سيجعل الطرف الآخر يدرك ضعفه ويستغله. لذلك، يرى أن التفاوض الناجح يتطلب الصبر، والمراوغة، والضغط المستمر حتى يقتنع الطرف الآخر بأنه بحاجة إلى إتمام الاتفاق بشروط ترامب.

ويؤكد على أهمية وجود خطط بديلة دائمًا، وعدم الرهان على خيار واحد فقط، حيث يجب على المفاوض أن يكون مستعدًا للانسحاب أو التصعيد إذا لزم الأمر. هذه الفلسفة انعكست في سياسات ترامب التجارية، خاصة في حربه الاقتصادية مع الصين، حيث استخدم الرسوم الجمركية كورقة ضغط دائمة لإجبار بكين على تقديم تنازلات.

 

اقتناص الفرص: استغلال الأزمات لتحقيق المكاسب

يشير ترامب في "فن الصفقة" إلى أن الأزمات الاقتصادية توفر فرصًا نادرة للمستثمرين الأذكياء، حيث يمكن اقتناص الأصول المتعثرة وإعادة إحيائها لتحقيق أرباح ضخمة لاحقًا. هذه الاستراتيجية، التي تبناها في أعماله، عكست رؤيته البراغماتية للعالم، حيث لا يرى في الأزمات سوى فرص يجب استغلالها بأقصى سرعة.

 

عقلية المواجهة: متى يختار ترامب الهجوم؟

يرى ترامب أن هناك لحظات لا يكون فيها أمام الشخص خيار سوى المواجهة، خاصة عندما يتعرض للظلم أو الاستغلال. يقول إنه عندما يعامله الناس بشكل سيئ، فإن رده يكون أقوى، حتى لا يتمادى الطرف الآخر في استغلاله. هذه الفلسفة ظهرت بوضوح في تعامله مع خصومه السياسيين، حيث لم يتردد في مهاجمة وسائل الإعلام، القضاء، وحتى أعضاء إدارته إذا شعر أنهم لا يخدمون مصالحه.

 

"التفكير السلبي" بدلًا من التفكير الإيجابي

على عكس العديد من رجال الأعمال الذين يروجون لقوة التفكير الإيجابي، يؤكد ترامب في كتابه أنه يؤمن بقوة التفكير السلبي، أي الاستعداد للأسوأ دائمًا. يرى أن التوقعات العالية قد تؤدي إلى خيبة أمل، لذلك يفضّل أن يكون مستعدًا لكل السيناريوهات، حتى لا يُفاجأ بأي انتكاسات.

 

"فن الصفقة" وتأثيره على صعود ترامب السياسي

لم يكن "فن الصفقة" مجرد كتاب في ريادة الأعمال، بل كان مقدمة لصعود ترامب السياسي. فقد أسهم في ترسيخ صورته كرجل أعمال ناجح لا يخشى اتخاذ القرارات الجريئة. خلال حملته الانتخابية عام 2016، استخدم مبادئ الكتاب للترويج لنفسه، حيث قدّم نفسه كمرشح "غير تقليدي" يستطيع إعادة التفاوض على الصفقات الدولية واستعادة "عظمة أمريكا".