مقدمة
جامعة الدول العربية هي منظمة تضم الدول العربية، وينص ميثاقها على التنسيق بين الدول الأعضاء في الشؤون الاقتصادية وكل المجالات التي تعود بالنفع على الدول الأعضاء، ومن أهدافها التي نشئت من أجلها: التعزيز والتنسيق في البرامج السياسية والبرامج الثقافية والاقتصادية والاجتماعية لأعضائها، والتوسط في حل النزاعات التي تنشأ بين دولها، أو النزاعات بين دولها وأطرافٍ ثالثة، وغيرها من الأهداف.
الجامعة العربية في خلد الإمام البنا
نشأت جماعة الإخوان المسلمين في أوقات عصيبة حيث كانت البلدان الإسلامية واقعة تحت نير الاستعمار، والذي نهب مقدراتها، وعاث فيها فساد، وكل واحد يعمل من اجل مصلحته، ولذا عمدوا إلى محاولة توحيد هذه الدول لتقف في وجه الاستعمار، ومن ثم لم تقتصر معنى وروح الوطنية على شعوب البلد الواحد، بل كان هدفهم أن تعمل هذه الروح لتشمل كل وطن عربي بل كل وطن إسلامي، فيقول الإمام البنا عن مفهوم الإخوان للوطنية في رسالة دعوتنا: "أما وجه الخلاف بيننا وبينهم فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة، وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وطن عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم .
بهذه المعاني بذر الإمام البنا البذرة الأولى في نفوس الإخوان، بذرة الشعور الأخوي بين أبناء العالم الإسلامي.
لقد كانت فكرة الوحدة تسيطر على عقل الإمام البنا منذ سقوط الخلافة الإسلامية، فعمد إلى الحديث عن هذا الفكر وهذه الروح في أكثر من مكان وأكثر من موضع، وأكد على ذلك بقوله في رسالة المؤتمر الخامس: (إن هذا الإسلام الحنيف نشأ عربيًّا، ووصل إلى الأمم عن طريق العرب، وجاء كتابه الكريم بلسان عربي مبين، وتوحدت الأمم باسمه على هذا اللسان يوم كان المسلمون مسلمين، وقد جاء في الأثر: "إذا ذل العرب ذل الإسلام"، وقد تحقق هذا المعنى حين دال سلطان العرب السياسي وانتقل الأمر من أيديهم إلى غيرهم من الأعاجم والديلم ومن إليهم، فالعرب هم عصبة الإسلام وحراسه) .
لقد كان مبدأ الوحدة يسيطر على تفكير حسن البنا، ومن ثم سعى ليعمم هذا الفكر من أجل إيجاد وحدة بين الشعوب العربية، فيقول: وحدة العرب أمر "لابد منه لإعادة مجد الإسلام، وإقامة دولته، وإعزاز سلطانه، ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا هو موقف الإخوان المسلمين من الوحدة العربية" .
وقد أكد الأستاذ البنا على هذا المعنى في رسالة أخرى وهي "رسالة دعوتنا في طور جديد" فقال: "العروبة أو الجامعة العربية لها في دعوتنا كذلك مكانها البارز، وحظها الوافر؛ فالعرب هم أمة الإسلام الأولى، وشعبه المتخير، وبحق ما قال رسول الله: "إذا ذل العرب ذل الإسلام"، ولن ينهض الإسلام بغير اجتماع كلمة الشعوب العربية ونهضتها، وإن شبر أرض في وطن عربي نعتبره من صميم أرضنا، ومن لباب وطننا.
إن هذه الحدود الجغرافية والتقسيمات السياسية لا تمزق في أنفسنا أبدًا معنى الوحدة العربية الإسلامية التي جمعت القلوب على أمل واحد وهدف واحد، وجعلت من مكان هذه الأقطار جميعًا أمة واحدة مهما حاول المحاولون وافترى الشعوبيون" .
الإخوان ونشأة الجامعة العربية
لقد احترم الإمام البنا والإخوان كل المؤسسات الشرعية والتي تعمل على إنصاف المظلوم، ورفعة الشعوب العربية والإسلامية، ومن ثم فكانت فكرة إنشاء جامعة تجمع كل الدول العربية مترسخة في ذهن الإخوان.
فقد بدأ المخلصون من أبناء الحركات الإسلامية والوطنية التحرك من أجل إنشاء وحدة عربية تكون نواة لوحدة أشمل وهي الوحدة الإسلامية، وكان ضمن هؤلاء المخلصين "الإخوان المسلمون"، وذلك منذ بداية الحرب العالمية الثانية، وفتحت صحيفة النذير (الناطقة باسم الإخوان) صفحاتها لمن يكتب ويشجع هذا المعنى وهذا الاتجاه، فتحت عنوان: "الجامعة الإسلامية أقوى رابطة بين الأمم تأسيسها على الوحدة العربية" جاء فيه: "إن لكل شيء أساسًا يبنى عليه أمره، ويترتب على تحققه وجوده، وإن من الضروري لإقامة ذلك المؤسس تحصيل أساسه المرتكز هو عليه، وإن أساس الجامعة الإسلامية العامة تحقق الوحدة العربية الصادقة" .
غير أن فكرة الجامعة العربية كانت فكرة بريطانية، أراد الانجليز من ورائها تحقيق مطامع لهم، خاصة في ظل الضربات التي يوجهها الألمان للقوات الفرنسية والبريطانية، فيقول محمود عبدالحليم في كتاب الإخوان المسلمين أحداث صنعت التاريخ: كان الإنجليز يهدفون من وراء هذا المشروع إلى استحداث جهاز يسهل لهم بسط نفوذهم على جميع الدول العربية، وليس أقدر على إصابة هذا الهدف من إنشاء هذه الجامعة، ولكن الإخوان رأوا في إنشاء هذا الجهاز -مع سوء القصد في إنشائه- رمزًا يومئ إلى معنى عزيز هو من صميم دعوتهم ألا وهو إشعار قسم ذي بال من المسلمين في هذا العالم بأن هناك آصرة قرابة تربطهم، وأن هذه البقعة مهما تعددت أسماء الدول فيها فإنها أمة واحد".
ويؤكد ذلك الدكتور محمد حسين هيكل بقوله: في 24 فبراير 1943م أعلن مستر "إيدن" وزير الخارجية البريطانية في مجلس العموم البريطاني قبول بريطانيا إنشاء جامعة عربية حيث قال: "إذا فكرت البلاد العربية في تكوين جامعة لها فإن إنجلترا تنظر إلى هذه الجامعة بعين العطف"، ثم يواصل الدكتور هيكل كلامه عن غرض إنجلترا من هذا التصريح قائلاً: "أيدت إنجلترا مطلب سوريا ولبنان في الاستقلال، ثم أعلن وزير خارجيتها أن الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف إلى جامعة للدول العربية إذا فكرت البلاد العربية من تلقاء نفسها في إنشاء هذه الجامعة .
ثم بدأ الإنجليز التحرك نحو هدفهم، فأوعزت إلى نوري السعيد باشا رئيس وزراء العراق أن يرفع أول صوت مناديًا بإنشاء الجامعة العربية، ومع بداية هذا التحرك البريطاني بدأ تحرك آخر من جانب الإخوان؛ حيث بدأ الإخوان دراسة مشروع الجامعة العربية دراسة تفصيلية فيقول الأستاذ محمود عبد الحليم: "وقبل أن ينادي بها نوري السعيد كان الإخوان قد وضعوها موضع الدراسة والفحص، وقلبوها على جميع جوانبها، وخرجوا من الدراسة بأن يتبنوا هذا المشروع، ولو أنه من وضع الإنجليز .
ولذلك بدأ الإخوان سلسلة مقالات في جريدة الإخوان المسلمين يوجهون فيها هذه الوحدة إلى الوجهة الصحيحة فكان مقال "الوحدة العربية" من بواكير المقالات التي تناولت هذا الموضوع حيث جاء فيه: "بيد أني أنتهز هذه الفرصة فأنصح لهؤلاء الدعاة بألا يصبغوا هذه الدعوة الكريمة البريئة بصبغة العصبية الطائشة الجارفة التي تجرح شعور الأمم الشقيقة الحية التي وحد بيننا وبينها ما هو أسمى من الجنس والدم واللون، وذلك هو الإسلام وأخوته وعقيدته، فالوحدة العربية وسيلة لا غاية وخطوة لا نهاية... نصل منها إلى الهدف الأخير وهو الوحدة الإسلامية .
يقول الأستاذ جمعة أمين عبد العزيز: وقد تمثلت جهود الإخوان الداعية إلى إنشاء الجامعة العربية في عدة محاور بداية من المحور الإعلامي والدعائي؛ حيث بدءوا الترويج للفكرة، وتحميس الناس لها، ففي مجلة الإخوان المسلمين كُتب مقال تحت عنوان: "الوحدة العربية أمل كل أخ مسلم"، ثم توالت المقالات حول الوحدة وطبيعتها وأهدافها، ومن هذه المقالات مقال بعنوان: "وحدتنا الكاملة".
ولم يكتف الإخوان بهذا المحور، بل بدأ تحركهم الفعلي والعملي بتكوين لجنة برئاسة الأستاذ أحمد السكري سكرتير عام الجماعة عهد إليها متابعة موضوع الجامعة العربية، وخاصة بعد تحمس الملك فاروق لفكرة إنشائها، ودعوته لوفود البلاد العربية لعقد لجنة تحضيرية في مصر تبحث تحقيق تلك الجامعة، وبالفعل سافرت اللجنة إلى الإسكندرية مع مجيء أعضاء وفود الدول المشاركة في وضع الميثاق، وقد اختار الأستاذ المرشد الأستاذ محمد لبيب البوهي رئيس الإخوان بالإسكندرية ليكون ضابط الاتصال بين الإخوان وبين لجنة الرؤساء، يقول الأستاذ محمود عبد الحليم عن تلك الأحداث: "دعي إلى القاهرة رؤساء وزارات الدول العربية المستقلة في ذلك الوقت، وكانت سبع دول تقريبًا هي: مصر والسعودية واليمن والعراق وسورية ولبنان لوضع ميثاق لجامعة الدول العربية".
ثم يواصل حديثه عن تحرك الإخوان قائلاً: "وكانت الخطة التي وضعها الأستاذ المرشد أن يكون في استقبال هؤلاء الرؤساء وفد من الإخوان للترحيب بهم، ولإشعارهم بأن المهمة التي قدموا من أجلها تلقى من اهتمام الشعب ما هي جديرة به -وهو ما كان الإنجليز يحاولون إيهام الشعوب العربية به- ولذا فإن هذه الحركة من الإخوان قد نالت رضا نوري سعيد الذي كان المتبني لفكرة الجامعة وكان هو الداعي لها".
وقد أتاح الإخوان لأنفسهم بهذا الرضا فرصة الوجود بجانب لجنة الرؤساء، وعن طريق هذا الوجود استطاعوا أن يعرفوا كثيرًا مما كان يدور خلال اجتماعات هذه اللجنة، واستطاعوا بطريق غير رسمي الاشتراك في بعض المناقشات .
ويروي الأستاذ محمد العدوي: "كتب الإمام الشهيد مذكرة كمشروع ميثاق، وتكونت لجنة برئاسة الأستاذ أحمد السكري وسافرت إلى الإسكندرية، وبدأ اتصالهم بالوفود واحدًا واحدًا وسلمتهم اللجنة المذكرة، ورحبوا بها كثيرًا، بل وطلب بعضهم صورة أخرى منها يحتفظ بها لنفسه؛ حيث سيبعث بالصورة المسلمة له إلى حكومته لإبداء الرأي، وانتهت الاجتماعات وصدر ميثاق أنطونيادس وإذا به يكاد يكون صورة طبق الأصل من مذكرة الإخوان" .
استمر الإخوان في دعم الوفود السبع المشاركة في وضع ميثاق الجامعة العربية حيث أقام المركز العام للإخوان حفلات تكريم لهم، ومنها ما نشرته جريدة الإخوان المسلمين تحت عنوان: "أبطال العروبة في دار الإخوان" متحدثة عن احتفال المركز العام للإخوان المسلمين بتكريم أعضاء الوفود العربية بمجلس الدول العربية فقالت: "وقد حضر الحفل الكبير أعضاء الوفود العربية، وكثيرون من المشتغلين بشئون الشرق يتقدمهم أصحاب الدولة والسعادة السيد عبد الحميد كرامي، والسيد يوسف يس، والسيد تحسين السكري، والأستاذ أميل لحود النائب اللبناني، والأستاذ توفيق السويدي، والسيد تقي الدين الصلح، والسيد صادق المجددي، وصبري أبو علم باشا، وفؤاد أباظة باشا، ومحمد العشماوي بك، والدكتور عبدالو هاب عزام، والدكتور يعقوب خوري، والأستاذ إسماعيل الأزهري رئيس نادي الخريجين في السودان، وغيرهم كثيرون .
ومع الرغم أن هذه الجامعة قد نشأت بإيعاز من الانجليز إلا أن الجميع استبشر بها خيرا بما فيهم الإخوان المسلمين، ورأينا كيف احتفوا برؤساء الوزراء والوفود، تشجيعا لما يقومون به، إلا أن الإمام البنا حزن لعدم اشتراك بعض الدول العربية فيها، وذلك بسبب سياسة المستعمر الجاثم على كل دولة من هذه الدول، فقد عبر الإمام البنا في حديث مع سبنسر -المراسل الأمريكي- عن هذا الشعور بقوله: خطت إنجلترا خطوة يسيرة نحو تحقيق توحيد العالم الإسلامي، فساعدت قيام جامعة الدول العربية لشرق البلاد العربية فقط وما زال غرب هذه البلاد(تونس والجزائر ومراكش) مقطوعا عنها وهى خطوة شكلية على كل حال؛ لأن الجامعة تقف مكتوفة اليدين أمام المصالح الجوهرية لشعوبها، فإذا كونت الأمم العربية وحدة توحد بينها المصلحة مستعدة للتعاون مع إنجلترا وأمريكا فإن أقرب الأشكال للجمع بينها يكون على هيئة تحالف .
جامعة الدول العربية في فكر حسن البنا
لقد ذكرنا آنفا كيف اهتم الإمام البنا بهذه المؤسسة الحيوية، وكيف ساهم بشكل غير مباشر في إخراج ميثاقها، غير أنه ظل يخاطبها كمؤسسة رسمية منوط بها توحيد الشعوب العربية، والعمل على استقلالها، والتصدي لمحاولات الصهاينة في فلسطين، وكان يطالبها بالعمل الدءوب من أجل صالح الشعوب العربية والإسلامية.
فحينما زار السيد عبد العليم الصديقى الداعية الهندي الإسلامي الكبير مصر، وانتقد الإخوان من كونهم يعيرون قضايا الوطن العربي أهمية عن بقية قضايا المسلمين، فقد وضح له الإمام البنا أن دعوة الإخوان لا تفرق بين عربي ومسلم فالكل سواء، وقد وضح له ذلك المعنى الداعم للجماعة العربية التي تسعى لاحتواء قضايا المسلمين بقوله: (سررت لأن هذه الحملة النبيلة أتاحت لنا فرصة إظهار حقيقة دعوة الإخوان، وأنها تتلخص في الإسلام في أنصع صوره وأعمق معانيه وأوسع دوائره، وقد تبين له أننا لا نعرف الحدود المصنوعة ولا الفروق الموضوعة، وإنما نسير إلى هدفنا بنظام مرسوم وخطوات مرتبة كما سار السلف الصالح تمامًا، فإننا نهدف أولا إلى وحدة وادي النيل لنصير دولة وادي النيل الكبرى؛ الدعامة الأولى للجامعة العربية، ثم نهدف ثانيًا إلى تقوية الجامعة العربية وتثبيتها؛ حتى تكون الأساس الأول للجامعة الإسلامية العظيمة التي هي أمل جميع المسلمين) .
ومن هذا نجد أن الإمام البنا ينشد لهذه الجامعة العزة والريادة من اجل تبنى قضايا الأمة العربية والإسلامية، وقد تقدم الإمام البنا بكثير من القضايا إلى الجامعة وأمينها العام مثل قضية مصر ووادي النيل وقضايا المغرب العربي وفلسطين وغيرها من القضايا، ففي رسالة كتبها تحت عنوان (قبل انعقاد الجامعة العربية) يقول: (نحن وطن واحد وأمة واحدة ومصلحة مشتركة واحدة، وبهذا التكاتف على خير هذا الوطن العام سنصل إلى كل خير لأوطاننا الخاصة ويد الله على الجماعة، وبذلك يقضى على الإشاعات الكاذبة والأخبار المضللة التى يحاول خصوم القضية العربية سواء فى وادي النيل أو فلسطين أو فى غيرهما أن يذيعوها وأن يسمموا بها الأجواء الصافية وينالوا بها من الوحدة الكاملة القوية، ولن يستطيعوا بإذن الله وسيرون من نتائج هذا الاتحاد وآثاره ما لم يكونوا يحتسبون) .
بل حث الجميع على احترامها وتقديرها، ففي رسالة إلى الطلبة الجامعيين يقول لهم الإمام البنا: هذه الجامعة العربية من واجبنا أن نعمل على تقويتها وتدعيمها، ومن حقنا أن يعترف الناس بها وأن يقدروها قدرها، وأن يؤمنوا بأنها حين تقوى وتعتز ستكون من أقوى دعائم السلام العالمي وبخاصة فى هذا الشرق كله .
كما حث الدول الكبرى على احترام هذه الهيئة وقراراتها، في رسالة مؤتمر رؤساء المناطق والشعب، يقول: ونطلب أن تثق الدول الكبرى بالجامعة العربية، وأن تفسح لها المجال لتقوى وتنهض، ففى نهضتها وقوتها أكبر عامل يساعد على استقرار السلام والطمأنينة فى الشرق العربي، كما يجب أن يعترف لكل أمة عربية بحقها فى الحرية والاستقلال الكامل.. فتجلو القوات الأجنبية .
بل جعلها نواة طيبة في سبيل الوحدة العربية، وجعلها من ضمن الحول المقدمة لتقدم الشعوب العربية، حتى ولو كانت هذه المؤسسة ضعيفة نوعا ما، لكنها هي البيت الذي يجتمع فيه كل عربي وإسلامي، فيقول في رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي: نحن أمام كل هذه الأوضاع العالمية الجديدة، وأمام تشابه قضايانا وتشابكها فهى كلها قضية واحدة معناها استكمال الحرية والاستقلال وتكسير قيود الاستغلال والاستعمار، لابد أن نلجأ من جديد إلى ما فرضه الإسلام على أبنائه منذ أول يوم حين جعل الوحدة معنى من معانى الإيمان. يجب أن نتكتل ونتوحد. وقد بدأنا بالجامعة العربية، وهى وإن كانت لم تستقر بعد الاستقرار الكامل، إلا أنها نواة طيبة مباركة على كل حال، فعلينا أن ندعمها ونقويها ونخلصها من كل ما يحيط بها من عوامل الضعف والتخلخل. وعلينا أن نوسع الدائرة حتى تتحقق رابطة أمم الإسلام (عربية وغير عربية) فتكون نواة "لهيئة الأمم الإسلامية" بإذن الله. وبهذه الطريقة التى ستضيف إلى وسائلنا الخاصة بكل أمة من النبذ والجهاد معنى آخر من معانى القوة هو الوحدة والتجمع، نستطيع أن نتخلص، وأن نحفظ التوازن العالمي بين الأمم الطامعة والدول المتنافسة على المغانم والحطام .
البنا وفلسطين والجامعة العربية
حينما نشأت جامعة الدول العربية وأصبحت هي الجهة الرسمية المنوط بها حل والدفاع عن القضايا العربية، غير أن هذه الجامعة ظلت مقيدة ولا تستطيع اخذ قرار حاسم، ومن ثم كان لابد من الضغط عليها حتى تستجيب للقضايا العربية، ومن هذه القضايا قضية فلسطين التي أعطاها الإمام البنا عناية خاصة لما كانت تتحلى به فلسطين من مقدسات إسلامية، وككونها دولة عربية.
ولذا نجده يحث الجامعة العربية على الدفاع عن قضايا الفلسطينيين ضد التهجير، وضد السياسات التي يمارسها الإنجليز والصهاينة لصالح العدو المغتصب، فيقول في: (إن واجبنا منذ هذه اللحظة العمل، فلم يعد فى الوقت متسع يضيع فى التردد أو التفكير أو الكلام. ولهذا سنقترح عليكم تأليف لجنة عليا تقوم بتنظيم الجهود وتنسيقها فى سبيل استعادة فلسطين العربية، وتشرف على جمع التبرعات وتجهيز المتطوعين بالتدريب والعتاد والسلاح والاتصال بالهيئات واللجان فى الداخل والخارج بهذا الخصوص، وتشرف على كل ما يتصل بهذا الجهاد المرير المبارك المثمر إن شاء الله، وستباشر هذه اللجنة مهمتها وسنطلب إلى الحكومة أن تيسر لها سبيل النهوض بها، فإن استجابت لها فذاك، وإلا فإن الشعب سيعرف كيف يحاسبها على ذلك أشد الحساب والكلمة للشعب على كل حال.
ومن الإنصاف أن نقول إن الجامعة العربية قد تبنت هذه القضية تبنيا كريما وأن الحكومات المشتركة فى الجامعة قد سارت قدما بخطوات طيبة إلى الآن.
وإن عليها بعد ذلك ألا تتراجع وأن تنفذ قراراتها بحزم وعزيمة، وأن تأخذ الأهبة من الآن لكل الاحتمالات وأن تساعد الشعوب المتحمسة على أداء واجبها، فإن قصرت فى ذلك فإن إثم التقصير سيقع عليها ولن تصبر عليها الشعوب، فإن الوقت وقت جد لا هزل معه) .
ويقول أيضا: على الجامعة العربية الناشئة الوليدة أن تنهض بهذه الأعباء الثقال جميعا، ونعتقد أن الجامعة العربية -رغم حداثة عهدها- ستنهض بها على خير حال وسيوفقها الله إلى النجاح الكامل فى هذا الامتحان الرهيب إن شاء الله.
وقضية الساعة (قضية فلسطين) قد انتهى الأمر فيها من دور النقاش والجدل إلى دور الكفاح والعمل، واستنار الطريق كأوضح ما يكون أمام العاملين فليس هناك عذر لمتردد.
وصار من الواجب المحتوم على العرب والمسلمين جميعا وعلى الجامعة العربية بوصفها القيادة العامة لهذه الشعوب أمور ثلاثة:
1- مصارحة أعداء البلاد فى الداخل والخارج بالخصومة حتى يتحدد موقفهم من الشعوب وموقف الشعوب منهم، واعتبار الصهيونية مبدأ هداما شديد الخطورة على الأوطان العربية، ومؤاخذة كل صهيونى بجرمه بهذا الاعتبار، وإشعار الدول التى ناصرت الصهيونية هذه المعانى من السخط والألم بكل الوسائل الممكنة وهى كثيرة؛ كمقاطعة بضائعها، والتخلص من رءوس أموالها، وسلب حق الإقامة فى ديارنا من رعاياها، وسحب امتيازات شركاتها وعدم التعاون معها فى مصالحها المادية أو الأدبية المتصلة بنا وهكذا.
2- وبذل المال من الحكومات ومن الشعوب. والمال بحمد الله كثير والنفوس مستعدة للبذل، وإنما ينقصنا تركيز القيادة وحسن التنظيم وتنسيق جهود الهيئات، وإننا لنرى مظاهر هذا الاتجاه بادية بين الهيئات والجماعات، وعلى الجامعة والحكومات أن تعنى بتشجيع هذه الجهود حتى يتكاتف الجميع على التركيز والتنظيم المنشود.
3- وتجهيز الرجال. والنفوس العربية والإسلامية -بحمد الله- لا زالت تحن إلى الجهاد، وترغب الموت فى سبيل الله وتؤثره على هذه الحياة الذليلة، وتتمنى الشهادة فى سبيل الحق، والعدد كثير ولن نشكو فى يوم من الأيام القلة. وعقبة الحصول على السلاح ميسرة مذللة إذا اتجهت إليها الهمم بصدق وحزم .
كما اجتمعت الهيئة التأسيسية لجماعة الإخوان المسلمين، فكان من مطالبها من الجامعة العربية:
1- إعلان الاعتراف بفلسطين كلها (بحدودها المعروفة برا وبحرا) دولة عربية موحدة حرة مستقلة ذات سيادة، وأن كل قرار يخالف ذلك من أية جهة يعتبر عدوانا على الحكومات العربية والأمم العربية جميعا. وإن عصابات اليهود المسلحة من الهاجاناه والأرجون وشتيرن وغيرها قراصنة معتدون مطالبون بما اقترفوا من جرائم وما أراقوا من دماء، وأن الصهيونية الآثمة لا حق لها فى شبر واحد من أرض فلسطين.
2- مصارحة الشعوب بأنها قد أصبحت فى حالة حرب عنيفة مع الصهيونية المعتدية الآثمة، وإعلان الجهاد المقدس واتخاذ التدابير التى يقتضيها هذا الوضع الجديد بفتح معسكرات التدريب للمتطوعين، والحصول على الأسلحة والذخائر، وإقامة المعامل والمصانع الحربية بأية طريق، بحشد القوات النظامية الكافية، وتكييف الحياة المدنية بالصورة التى تقتضيها حالة الحرب.
3- دعوة الحكومات والشعوب الإسلامية -وفى مقدمتها تركيا- للاشتراك مع الجماعة العربية فى هذه السبيل .
ولم يتوقف الأمر نحو هذه القضية على القول بل قدم حسن البنا حلولا عملية، فطالب بفتح باب الجهاد أمام من يريد الدفاع عن أرض فلسطين، بل أرسل للجماعة العربية برسالة يطلعها أنه على استعداد لتقديم 10000 متطوع من الإخوان فيقول فيها: (بمناسبة انعقاد مجلس الجامعة الموقر للنظر فى قضية فلسطين الشقيقة يرى الإخوان المسلمون ألا سبيل لإنقاذها إلا القوة ولهذا يضعون تحت تصرف الجامعة العربية عشرة آلاف من خيرة شبابهم المجاهدين ككتيبة أولى فى جيش الإنقاذ للزحف العملى عند أول إشارة) .
لقد أخذت الجامعة العربية على عاتقها الدفاع عن قضية فلسطين، وتعاونت مع مفتى فلسطين الشيخ محمد أمين الحسيني، كما استجابت لطلبات الإخوان بفتح باب التطوع تحت راياتها، ومن ثم أثنى الإمام البنا على هذا الموقف بقوله: كانت مأساة فلسطين على ما فيها من مرارة وقسوة خيرا وبركة على العرب والمسلمين، إذ جمعت كلمتهم ووحدت صفهم وصرفتهم عن الكلام المعسول والأمل الحلو والخيال الواهم إلى الجد والعمل.
ولقد اتخذت الجامعة العربية -ممثلة فى رؤساء العرب- قراراتها الموفقة ما نشر منها وما لم ينشر، وكان العزم وصدق التصميم باديا كأوضح ما يكون على قسمات وجوه هؤلاء الرؤساء الذين كان من حظهم أن يواجهوا هذه التبعة الثقيلة، تبعة إنقاذ فلسطين العربية ومكافحة قوى الظلم والطغيان والصهيونية والدولية على السواء، وجزى الله أمين الجامعة العربية أفضل ما جازى به مجاهدا عن أمته بما بذل من جهد تنوء به العصبة أولو القوة. ولقد صدر بيان الجامعة بعد ذلك، وحاول بعض الناس أن يقول: إنه مجرد من الخطوات العملية، وفاتهم أنه بيان لا قرارات، وأن الخطوات العملية لا يجوز أن تعلن على الناس، ونرجو أن نراها محققة قريبا -بل قريبا جدا إن شاء الله- وأن يلمس الجميع ما وراء هذا البيان من أعمال .
مذكرة المركز العام للإخوان المسلمين إلى اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية بشأن فلسطين
حضرات أصحاب السمو والدولة والمعالى والسعادة أعضاء اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية. حضرة صاحب السعادة الأمين العام للجامعة العربية:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد: فمعذرة إذا رأيتم فى هذه المذكرة خشونة الصراحة وقوة الحق، فإن هذه هى طبيعة القضية التى نعالجها ونواجهها جميعا الآن، ليس فيها إلا الخشونة والقوة، وسنحاول أن نضع بين يديكم فى اجتماعكم هذا مشاعر الشعوب العربية وخوالج نفوسها أمام الحقيقة الراهنة التى صار إدراكها اليوم بديهيا أو كالبديهى للجميع سائلين الله لكم كل توفيق وتأييد.
يا حضرات السادة:
من الحقائق المسلم بها عند العرب والمسلمين كافة حكومات وشعوبا الآن: أن قضية فلسطين لم تعد قضية سكان هذه البقعة من الأرض، ولكنها أصبحت قضية الجامعة العربية بأسرها.. قضية سبع حكومات تنطق بلسان سبعين مليونا من العرب، هم مجموع هذه الأمة العربية على ظهر الأرض.. وتعبر عن مشاعر ثلاثمائة مليون من المسلمين غير العرب. وقد أصبحت كرامة هؤلاء العرب والمسلمين جميعا وقيمتهم الأدبية والمعنوية وقضاياهم الوطنية والاجتماعية كلها معلقة بهذه القضية. وما أثقلها من تبعة! وما أفدحه من عبء! وما أعظمه من مجد! وما أجله من جهاد! والتاريخ يسطر، والزمن يسجل، والعالم ينظر، والله يسمع ويرى. ﴿وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ [الحج: 41].
ومن الحقائق كذلك أن الشعوب العربية قد أعلنت استعدادها الكامل للعمل بكل ما فيها من قوة فى سبيل كسب هذه المعركة، وعبرت عن هذا الاستعداد ببذل أموالها ورجالها، والتسابق فى التطوع والتنافس فى التبرع، والاهتمام الكامل بكل ما يمس القضية من قريب أو من بعيد، فلا عذر بعد اليوم للحكومات فى التخلف عن سير الشعوب، والمفروض أن القيادة بيدها وأن التبعة أولا عليها.
ومن الحقائق كذلك أن الصهيونيين قد استكملوا عدتهم، وحشدوا قوتهم، واستعانوا بالدعاية والمال والعلم والوقت، وحكومة الانتداب، وظروف الحرب، والتقلبات السياسية، ومطامع الدول والأشخاص، حتى ركزوا أنفسهم أكمل تركيز، وصارت مستعمراتهم آية فى التحصين، ومصانعهم على استعداد لصنع السلاح والذخيرة والمصفحات وبعض أجزاء السيارات والطائرات، وأنهم قد استوردوا من ذلك الشىء الكثير، مع دربة رجالهم، واكتمال تنظيمهم، ووحدة قيادتهم، وتماسك شعبهم فى داخل فلسطين وخارجها، واستغفال بعض الحكومات والشعوب لإمدادهم والعطف عليهم ماديا وأدبيا، هذا فى الوقت الذى حرم فيه عرب فلسطين من كل هذه المزايا، إذ كانت السلطة المنتدبة تحول بينهم وبين محاولة أى استعداد -فضلا عن الاستعداد نفسه- وتحكم بأقسى الأحكام على كل عربى يحمل السلاح أو يحرز الذخيرة، وكان دعاتهم وقادتهم جميعا فى السجون والمنافى والمعتقلات، على حين شغلت الحكومات والشعوب العربية والإسلامية بقضاياها الخاصة عن التأهب لهذا الظرف وإعداد عرب فلسطين له، فلم يواجهون الموقف بشىء إلا الإيمان بحقهم وإيثارهم الحرية على الحياة.
وهذه الحقائق الثلاث توجب على الجامعة العربية -بصورة عامة- ولجنة فلسطين بصورة خاصة أن تنظر إلى الأمور نظرة فاحصة أكثر جدية واهتماما مما عليه الآن، وأن تتذرع بهذه الدعائم الخمس: الإخلاص، والوحدة، والعدة، والإسراع، والحزم، لتصدر حكومات الجامعة العربية عن شعور واحد ورأى واحد وهدف واحد يخلص له الجميع، هو أن تطهر فلسطين من الصهيونية الآثمة، ثم ليكن لأهلها بعد ذلك حق تقرير مصيرها بدون ضغط أو إكراه.
ولتكن الوحدة رائد الجميع لتحقيق هذا الهدف؛ وحدة الشعور ووحدة الغاية، ووحدة التفكير، ووحدة الوسيلة والعمل فى ثقة وطمأنينة لا شك يعكرها ولا قلق يكدرها.
وليكن أول عمل تبذل فيه اللجنة قصارى جهدها هو توفير العدة الكاملة والعتاد اللازم (الأسلحة سريعة الطلقات، الذخائر الوافرة، المدافع الثقيلة بمستلزماتها، المصفحات والدبابات وجهاز النقل السريع، وتجهيز سلاح جوى قوى لمواجهة الحالة المنتظرة، مع إعداد الشعب لمواجهة الغارات الجوية، وتجهيز سلاح بحرى قوى حتى يواجه قوافل المهاجرين ومهربى السلاح إلى تل أبيب والمواني التى يستطيع اليهود أن يأمنوا فيها على ما يريدون.
كل هذه لوازم أساسية وضرورية ولا يقوم عذر للجنة أمام الله والناس والتاريخ. ما يقال من صعوبة الحصول عليها، فالمستعدون لتيسير هذه المهمة كثيرون، وما عند الحكومات أكثر. ولقد أصبح تباطؤ اللجنة فى هذا الشأن -مع كثرة العطاءات التى بين يديه- لغزا يحار فى فهمه المفكرون، ولا تفسير له -فيما نعتقد- إلا الخوف من التبعة المالية، مع أن ظروف الحرب غير ظروف السلم، ولا يضير القائد العسكري أن تنقذ أرواح الناس بأى ثمن من الأثمان.
كما أن من اللوازم الأساسية -كذلك- تجهيز الحملات الطبية، وتدعيم القيادات وأركان حربها بالضباط الأكفاء الأقوياء المؤمنين، فإن الأمر جد لا ينفع معه التهاون بحال، وهذا كله هين يسير إذا اتجهت إليه الهمم.
ومن الواجب أن يتم ذلك كله فى سرعة تامة وحزم ومضاء، فإن الوقت لا ينتظرنا والله لا يقبل عذرنا، ولابد من عمل حازم سريع يطمئننا على مستقبل القضية فى هذه الفرصة التي إن أفلتت منا فلن تعود إلينا.
ثم إنه غنى عن البيان أن نقول: إن أحاديث إرجاء التقسيم إلى حين وتوقيع الهدنة وفرض الوصاية وإعادة القضية إلى هيئة الأمم إلخ، كلها أمور الغرض منها كسب الوقت وتشتيت الشمل وتفريق الكلمة، ثم تعود السياسة الرخوة اللينة سيرتها الأولى من مصادرة كل حق، والاعتداء على كل عزيز متى اطمأنت إلى أنها قد وصلت إلى ما أرادت من ذلك، ومن تفريق الشعوب العربية عن الشعب الفلسطيني وتصرفه فيما لديه من عدة وسلاح – هذا الفخ حضراتكم جميعا أعرف الناس بداخله وخارجه، وأحرصهم من الوقوع فيه أو الرضا بها. وإن من الخير كل الخير للقضية الفلسطينية -أولا- ثم للقضايا العربية والإسلامية كلها –ثانيا- أن نظل هكذا مناضلين مكافحين حتى نصل إلى إحدى نتيجتين: إما جلاء الصهيونية عن فلسطين قاطبة إلى لا رجعة ولا كرامة. وإما أن يوافق اليهود على أن يعيشوا مع العرب فى ظل الدولة الفلسطينية الحرة الواحدة على أن يرد إلى وطنه الأصلي كل يهودى دخيل بعد الحرب الماضية.
تمسكوا بهذا أيها السادة الأجلاء وثقوا كل الثقة أنكم بذلك ترضون الله وتطمئنون الشعوب وتسجلون فى صفحات تاريخ هذه القضية صفحة رائعة من صفحات المجد والإباء ..(23)
المذكرة التي تقدم بها الإخوان لرؤساء الوزراء العرب
لقد تقدم الإخوان بمذكرة إلى رؤساء الوزراء الذين اجتمعوا لتكوين جامعة الدول العربية، فقد جاء فيها:
"حضرات السادة الفضلاء رئيس وأعضاء اللجنة التحضيرية لمؤتمر الوحدة العربية:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..
ففي هذه الساعات التاريخية الفاصلة في مستقبل الأمم والشعوب عامة والأمة العربية خاصة، قدر لكم أن تعقدوا اجتماعكم هذا، وأن تضطلعوا بأجلّ مهمة في تاريخ العالم العربي الحديث بينما يتطلع إلى جهودكم فيها مائة مليون عربي من أقصى العراق إلى أقصى المغرب، ومن ورائهم ثلاثمائة مليون مسلم، "والإسلام عروبة بعد العروبة"، والجميع يرقبون بلهفة وشوق وأمل عظيم ما تقرون، وينتظرون منكم وضوح المؤمنين، وعزائم المجاهدين، وصلابة الذين لا يخافون في الحق لومة لائم، ويسعدهم أن يفتدوا حقوقهم بأنفسهم وأولادهم ودمائهم وأموالهم (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 35].
وإني باسم الإخوان المسلمين في أنحاء المملكة المصرية، وفي بلدان العالم العربي والإسلامي المختلفة، أرفع إليكم أطيب التهنئات وأجمل التحيات، سائلاً الله -تبارك وتعالى- أن يبارك عملكم، وأن يرفع العقبات من طريقكم، وأن يوفقكم لخير أمتكم وبلادكم، إنه نعم المولى ونعم النصير.
ضرورة الوحدة:
أيها السادة الفضلاء
إنكم لتدافعون عن أعدل وأنجح وأوضح قضية في التاريخ؛ فمن البديهيات التي لا تقبل الجدل أن العرب أمة واحدة، وأن هذا التعبير ليساوي في أحقيته ووضوحه واستقراره في النفوس والأذهان قول القائلين: "السماء فوقنا والأرض تحتنا"، فقد اصطلحت على تكوين هذه الوحدة العربية وتدعيمها كل العوامل الروحية واللغوية والجغرافية والتاريخية والمصلحية.
وإن العرب من خليج فارس إلى المحيط الأطلسي ليتحدون بوحدتهم أية أمة متحدة في القديم والحديث، وليست تعوز هذه القضية الأدلة والبراهين، ولكنها يعوزها ثبات المؤمنين وعدالة المنصفين، فإذا حققتم في نفوسكم الأولى وهو العهد بكم، وحقق حلفاؤكم الثانية وهو الظن بهم فقد عاد الحق إلى أهله ووضعت الأمور في نصابها، (فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)) [الروم: 4-5].
أيها السادة الفضلاء:
إن بين يدي مؤتمركم ولجنتكم أمورًا كثيرة أنتم مطالبون بدارستها وتمحيصها، وأهدافًا كثيرة أنتم مطالبون كذلك بتحقيقها والوصول إليها، وإن من الخير للقضية العامة أن تصارحوا الشعوب والهيئات بما بين أيديكم؛ لتكون لكم مددًا وعونًا، وأن تصارحكم الشعوب والهيئات بما ترى؛ ليكون ذلك مكاشفة ونصحًا، ولهذا أتقدم إليكم باسم الإخوان المسلمين بهذه الخواطر، راجيًا أن نكون بذلك قد أدينا بعض الواجب، وساهمنا في هذا الجهاد المبرور.
ومن تلك الأهداف:
أ- تحقيق مظاهر الوحدة العامة:
فهنالك خطوات أولية تعتبر وسائل عملية للوحدة المنشودة، وهي في الوقت نفسه من حق الحكومات العربية الخالص التي لا ينازعها فيه منازع، ومن تلك الخطوات:
1- رفع الحواجز الجمركية.
2- إلغاء جوازات السفر ومنح حرية المرور والتنقل في أي قطر من الأقطار العربية لكل عربي، بعد التأكد من شخصيته، وإباحة الهجرة والاستيطان على نظام واسع ميسر.
3- التوسع في التعاون الاقتصادي وتأليف الشركات العربية الواسعة النطاق من سكان البلاد العربية جميعًا في أي قطر من هذه الأقطار، ولدراسة المشروعات العربية العامة دراسة مشتركة، وإحياء ما تعطل منها، كمشروع سكة الحديد الحجازية التي أنشئت بأموال العرب والمسلمين جميعًا وأوقافهم.
4- تنمية التعاون الثقافي والتشريعي والعسكري بتوحيد برامج التعليم ومناهجه، وتوحيد منابع التشريع وقواعده، وتوحيد نظم التدريب العسكري وأساليبه، ومؤتمر الوحدة العربية مطالب من العرب جميعًا بأن يعمل على تقرير هذه الخطوات، ورسم الخطط الموصلة إلى تحقيقها، وجمع الحكومات والشعوب العربية عليها.
ب- تحقيق الأماني القومية ومساعدة الأمم الناشئة على نيل استقلالها واستكمال نهوضها:
على مؤتمر الوحدة العربية ولجنته التحضيرية أن يرسم للشعوب والحكومات طرائق هذا الجهاد المشترك، وأن يقرر تكاتف الجميع في سبيل كسب هذه القضايا، التي منها:
1- العمل على استكمال استقلال مصر والمحافظة على وحدة وادي النيل، فكل محاولة يراد بها انتقاص استقلال مصر، أو تقييد هذا الاستقلال، أو تمزيق وحدة وادي النيل عمل ظالم، يؤثر في كيان الأمة العربية العام، وعلى كل شعب عربي وحكومة عربية أن يشد أزر مصر حكومتها وشعبها في سبيل هذه القضية حتى تفوز فيها.
ويجب أن يكون مفهومًا للرأي العام العالمي كله أن مصر حين تتمسك بوحدة وادي النيل لا تعتدي بذلك على شعب من الشعوب، ولا تستعبد أمة من الأمم، ولا تطمع في توسعة حدودها، أو زيادة مساحة أرضها، أو تنمية ثروتها على حساب غيرها، فكل هذه المزاعم باطلة لا وجود لها، ولكن مصر حين تتمسك بالنيل الأعلى تحقق بذلك وحدة شعبها؛ فمصر والسودان أمة واحدة تحافظ على صميم كيانها، وتضحي بكثير من مواردها وثروتها وجهودها، وأن حاجة هذا الجزء من الأرض إلى مصر لأعظم بكثير من حاجتها هي إليه.
2- العمل على استكمال استقلال البلاد الشامية على اختلاف أقسامها.
3- العمل على حل قضية فلسطين حلاًّ يتفق مع وجهة النظر العربية، ويؤدي إلى سلامة هذا الجزء من الوطن العربي -وهو منه بمثابة القلب من الجسد- وإلى المحافظة كل المحافظة على أن يظل عربيًّا خالصًا، وإلى دفع العدوان اليهودي وذبذبة السياسة الدولية عنه بكل الوسائل؛ فإن العرب جميعًا وفي مقدمتهم أعضاء اللجنة يدركون مدى الأخطار العربية التي تهدد كيان الأمة العربية وتحطم آمالها إذا استقرت قدم اليهود في فلسطين، والشعوب العربية كلها قد وطدت العزم على أن تستنقذ فلسطين مهما كلفها ذلك من الجهود والتضحيات.
4- مساعدة بقية أقطار الجزيرة العربية على استكمال استقلالها ونهضتها، ودفع الدسائس السياسية المختلفة عنها، وبخاصة وهي الآن في مهب عاصفة قوية من التنافس الدولي الشديد سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، هي أمامها أحوج ما تكون إلى ما يشد أزرها ويبصرها بمواقع الخير والشر لحاضرها ومستقبلها، وليست هناك فرصة للنظر والاختيار أبدع ولا أوسع من هذه الفرصة التي إن أفلتت اليوم فلن تعود إلا بعد حين.
5- العناية بتحرير الأقطار العربية في شمال أفريقيا، وإدخالها في دائرة الوحدة.
فليبيا بقسميها "برقة- وطرابلس" يجب أن تعود إليها حريتها واستقلالها، وأن تظل قطرًا واحدًا تحت لواء حكومة من أهلها، بعد أن زال عنها سلطان الغاصب المعتدي، وإن شأنها في ذلك شأن الحبشة سواء بسواء، فإذا كان البريطانيون قد حاربوا وحدهم الطليان حتى أجلوهم عن الحبشة، ثم سلموها موحدة مستقلة لإمبراطورها السابق، فإن من واجبهم وقد طردوا هذا العدو البغيض عن لوبيا لمساعدة أهلها ومساعدة الشعوب العربية لهم في ذلك أن يعيدوها لأهلها موحدة مستقلة كذلك، وليس هناك ما يدعو إلى تمزيق وحدتها وتقسيم أرضها، ومعاملتها بغير الأسلوب الذي عوملت بها سابقتها.
وتونس والجزائر ومراكش بلاد عربية وقعت تحت الاستعمار الفرنسي باسم الحماية تارة، والاستعمار تارة أخرى، وقد جاهدت في سبيل حريتها واستقلالها جهاد الأبطال، ولم تعترف بهذه الأوضاع التي رسمتها لها السياسة الاستعمارية في يوم من الأيام، ثم ساهمت أخيرًا في المجهود الحربي للحلفاء مساهمة عظيمة أطلقت ألسن زعماء الأمم المتحدة بالثناء عليها، وسجلها المستر تشرشل في خطبه بالإعجاب والإكبار، وما كان جيش فرنسا الحرة الذي حارب في صفوف الحلفاء في شمال أفريقيا وفي إيطاليا وفرنسا إلا هؤلاء الجنود البواسل من أبناء هذه الديار العربية الصميمة، ومن واجب المؤتمر العربي أن يطالب بحقوق هذه البلاد كاملة، وأن ينقذ من براثن الظلم والعدوان عشرين مليونًا من العرب ما زالوا متمسكين بعروبتهم، مطالبين بحرية بلادهم مهما أراد المستعمرون أن يظهروهم بغير هذا اللون.
لقد حاول هؤلاء الغاصبون خلال هذه السنوات الطوال أن ينالوا من وطنية هؤلاء العرب المجاهدين بالتجنيس وبالإرهاب والضغط الشديد، وأن ينالوا من عروبتهم بالثقافة الأجنبية ومحاربة اللغة العربية والغزو الاجتماعي، وأن ينالوا من دينهم بالتبشير ومقاومة الأوضاع الإسلامية فلم يجدهم كل ذلك نفعًا، وما زال شمال أفريقية وسيظل عربيًّا مسلمًا.
ونرى أن من واجب اللجنة أن تدعوا إلى المؤتمر ممثلين من أبناء هذه الدول ومن أبناء فلسطين ليبسطوا أمامه قضاياهم ومطالبهم.
ونحن حين نرى أن يطالب مؤتمر الوحدة بهذه الحقوق للبلاد العربية، ويلح في المطالبة بها والثبات عليها، وأن يحتفظ لنفسه وللشعوب العربية والحكومات العربية بحق التمثيل في مؤتمر الصلح القادم، لا نعتمد في ذلك على قوة السلاح وكثرة الجيوش والأساطيل فحسب العالم ما قاسى من الاعتماد على القوة ونبذ القانون والعدالة، ولكنا نعتمد على أن هذا حق العرب الطبيعي.
وعلى أن ميثاق الأطلنطي الذي قيد به الحلفاء أنفسهم وأيدوه بكثير من التصريحات قد ضمن هذا الحق لكل الشعوب.
وعلى أن الشعوب العربية قد ساهمت في المجهود الحربي مع الحلفاء مساهمة جليلة لاشك أنها كانت من عوامل النصر والظفر لهم، وقد اعترفت بذلك حكوماتهم وشعوبهم وصحافتهم.
ونعتمد أخيرًا على هذا التطور في التفكير العالمي، وهذه اليقظة في الضمير الإنساني، ويا ويح الدنيا إذا كانت ستسوسها وتصرفها من جديد الأفكار الرجعية وتتحكم فيها المطامع الاستعمارية.
ولاشك أن من الخير كل الخير للأمم المتحدة أن تقوم في الشرق أمة عربية قوية لها من خلقها ومجدها وجلال تقاليدها في ماضيها وحاضرها ما يجعلها أقوى دعائم السلام في آسيا وأفريقية خاصة، وفي مستقبل البشرية عامة.
جـ- الكيان السياسي العام للأمم العربية المتحدة:
وتأتي بعد الخطوة السابقة خطوة ثالثة يكمل بها بناء الوحدة العربية، تلك هي لون الكيان السياسي العام لهذه الحكومات العربية المتحدة، ولا نظن أن الوقت قد حان أو أن الظروف قد تهيأت لمثل هذا البحث، كما لا نظن أن مهمة المؤتمر أن يختار شكل الحكومات؛ فإن ذلك متروك للشعوب نفسها يتخير كل شعب منها لنفسه النوع الذي يريد، ولكن الذي يجب أن يعمل له المؤتمر بهذا الخصوص ويقرره من الآن:
أن يحتفظ للحكومات العربية المستقرة بحق التمثيل فيما إذا أجري استفتاء للشعوب العربية المحررة، أو التي لم تستقر حكوماتها الوطنية بعد.
وأن يقرر من الآن لونًا من ألوان الارتباط السياسي بين الحكومات العربية كمجلس استشاري أعلى تستطيع بواسطته أن تتصل بعضها ببعض بطريقة دائمة منظمة، ويكون أساسًا لوحدة أتم وأكمل في المستقبل -إن شاء الله.
د- تحديد الصلة بين البلاد العربية وجاراتها من الممالك الإسلامية غير العربية:
وهذا المعنى وإن كان لا يتصل بمهمة المؤتمر صلة مباشرة إلا أنه مما يعزز الوحدة العربية، وتهتم له الحكومات والشعوب معًا، فهناك أقطار ليست عربية ولكنها تجاور بلاد العرب وتجمعها بها جامعة المصلحة والجوار من جانب، والعقيدة الإسلامية والذكريات التاريخية من جانب آخر كـ: الأفغان وتركيا وإيران وغيرها.
ه- المطالبة بحقوق الشعوب الإسلامية المظلومة ورعاية الأقليات المسلمة في مختلف البلاد والأقطار:
وهناك شعوب إسلامية وأقليات وجاليات عربية في كثير من البلاد والأقطار بلاد الحلفاء وبلاد الأعداء كالشعب الإندنوسي والتركستان والمسلمين في الهند والمسلمين في الصين والفلبين والمسلمين في روسيا وفي البلقان، وكل هؤلاء يضرب عليهم الاستعباد باسم الاستعمار، وتهضم حقوقهم ويحال بينهم وبين الرقي والنهوض، فإذا كان هذا الوقت هو الوقت الذي يترقبه المظلومون لينالوا حقوقهم، وليصلوا إلى حريتهم، فإن أولى من ينطق بلسان هؤلاء ويطالب بحقوقهم هو المؤتمر العربي بحكم الروابط الكثيرة بين العرب وبين هذه الجماعات، فعلى المؤتمر أن يطالب باسم الإنسانية وباسم التطور الجديد في نظام العالم لتحرير الشعوب المستعبدة من هؤلاء، وإنصاف المظلومين من هذه الأقليات، ودراسة القضايا المعلقة التي طال عليها الأمد ولم تمتد إليها يد العدالة والإنصاف.
و- لون الحضارة التي يجب أن تصطبغ بها الأمة العربية:
ولعل من أهم واجبات المؤتمر أن يعنى بدراسة هذه الناحية دراسة دقيقة، وأن يكون لنفسه رأيًا، وأن يوجه به الأمم والحكومات العربية، فذلك أجدى لها من هذه الذبذبة في التفكير والتفيذ معًا. ولعل هذه الناحية الاجتماعية لاتقل أهمية عن الناحية السياسية إن لم تزد عليها.
والرأي العام العربي يذهب في هذه الناحية مذهبين مختلفين: فمن الناس من يدعو إلى الحضارة الغربية ويحض على الانغماس فيها وتقليد أساليبها (خيرها وشرها وحلوها ومرها ونافعها وضارها وما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب)، ويرى أنه لا سبيل للنهوض والرقي إلا بهذا (ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع أو مخدوع).
ومن الناس من ينفر من هذه الحضارة أشد النفير، ويدعو إلى مقاومتها أشد المقاومة، ويحملها تبعة هذا الضعف والفساد الذي استشرى في الأخلاق والنفوس.
ولا شك أن كلا الفريقين قد تطرف، وأن الأمر في حاجة إلى دراسة أعمق وأدق، وإلى حكم أعدل وأقرب إلى الإنصاف والصواب.
لقد وصلت الشعوب الغربية من حيث العلم والمعرفة واستخدام قوى الطبيعة والرقي بالعقل الإنساني إلى درجة سامية عالية، يجب أن تؤخذ عنها، ويجب أن يقتدى بها فيها، وهي إلى جانب ذلك قد عنيت بالتنظيم والترتيب وتنسيق شئون الحياة العامة تنسيقًا بديعًا يجب أن يؤخذ عنها كذلك، وهذه الحقائق لا يكابر فيها إلا جاهل أو معاند.
ولكن هذه الحياة الغربية والحضارة الغربية التي قامت على العلم والنظام فأوصلها إلى المصنع والآلة وجبى إليها الأموال وال