د/ حامد السيد  - استاذ التفسير وعلوم القرأن

إن الهجرة النبوية كانت ولا زالت درسا في التخطيط والإعداد والتنظيم، فالنبي صلى الله عليه وسلم  بعد بيعتي العقبة الأولي والثانية، والتأكد التام من تهيئة الأرض الجديدة لاستقبال الفئة المستضعفة المعذبة في مكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن الله – عز وجل – قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها. فخرجوا أرسالا وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه. 

وفي الليلة التي تآمرت فيها قريش على قتله، جاءه الإذن بالهجرة، وأخبر بذلك الصديق، فأعد الراحلة، واستأجر دليلا خبيرا بالصحراء، وأمر عليا أن ينام مكانه ومن إحكام التخطيط الترتيب الدقيق للجهاز الذي يمدهم في الغار بالزاد والأخبار عن قريش، ثم من يقوم بإخفاء الآثار ومعالم الأقدام حتى لا تهتدي قريش إلى مكانهم. 

الصبر والتضحية سلاح الدعاة: 
واجب الدعاة التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم في الصبر على الدعوة والتضحية في سبيل إرشاد الناس إلى الخير، وعدم اليأس حين يلقى المسلم من الناس صدودا وإعراضا، فالهداية قدر الله لمن شاء من عباده: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين . 

والمسلم وهو يعمل في الدعوة إلى دين الله وتعريف الناس بالإسلام عليه أن يعلم أن هذه العملية تتكون من شقين: 
أ – جهد بشري. . 
ب – قدر إلهي. 

وواجبنا أن ينتهي دورنا عند بذل الجهد البشري في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة التي أمرنا بها المولى، ثم ندع للقدر الإلهي يصطفي من يشاء من عباده، لحمل دينه ورسالته.. وإن كان من واجب أن ينتقي من الناس الأخيار ليوجه لهم الدعوة ابتداء، ثم يدع أمر الهداية لله، فقد يسوق له من يحمل الرسالة، ويستجيب للدعوة أناس لم يفكر في أمرهم، ولم يتوجه إلى ديارهم. . . 

نلمح ذلك المعنى جليا في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث ظل يدعو أهل مكة، ثم تحرك بالدعوة إلى الطائف، فلما رفضوا دعوته، ساق الله نفرا من المدينة، وفتح قلوبهم للدعوة مع أول لقاء، ليتحولوا بعد ذلك إلى دعاة مخلصين لهذا الدين، فعرفوا قومهم بالإسلام ودعوهم إليه، حتى فشا فيهم، ولم تبق دار من دور الأنصار، إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

لقد استطاع النفر الستة أن يبشروا بهذا الدين الجديد، والنبي الخاتم، حتى أضحى ذلك القضية الهامة، التي تشغل كل بيت، ومحور الحديث في كل مجلس. . 

وهكذا شأن كل دعوة لا بد لها من تعريف بها أولا. ويثمر هذا التعريف الإيمان بها واعتناقها، ولذلك في العام التالي مع مواصلة الدعوة، والصبر عليها، لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام. 

الهجرة جهد بشري وقدر إلهي: 
وكذلك الهجرة النبوية كانت تخضع لنفس المعيار السابق: 
جهد بشري: البحث عن رفيق الطريق، والراحلة والدليل الخبير بالصحراء، ووسائل التمويه من اختفاء بالغار مدة الطلب وترتيب جهاز الإمداد بالطعام والأخبار ومن ينام مكانه. 
قدر إلهي: يضرب بالنوم على آذان من تجمعوا حول داره ليقتلوه ويخرج من بينهم فلا يبصرون، بل ويحثو على رؤوسهم التراب فلا يشعرون.. ويقفون على باب الغار ولا يلجونه لأنها في حمى الله ويتجلى ذلك في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما. وقد حكاه القرآن الكريم: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها . 
وكذلك تعثر سراقة بفرسه والحيلولة بينه وبين اللحاق بالرسول ـ ص ـ وصاحبه. 
المسلم مطمئن لمعية الله: 
والمعاني السابقة تتجلى من خلال التأمل في مثل هذه التساؤلات: 
أليس الله كان يعلم بتآمر قريش على رسوله صلى الله عليه وسلم فلماذا لم يأذن له بالهجرة، قبل الليلة الموعودة، فيما بينهم، وقبل أن يحاط بالبيت؟ 
وأيضا الله – عز وجل – أسرى بعبده من مكة إلى الشام ثم صعد به إلى السماء في لحظات، فلماذا لم ينقل نبيه بالبراق ويجنبه آلام وشدائد الطريق؟ 
ثم ألم يكن الله قادرا على أن يصرفهم عن الغار، فلا يصلون إليه كما صرفهم عن النظر إليه؟
إن في ذلك تشريع ورسم الطريق لحملة الدعوات، وأنها طريق محفوفة بالصعاب، مملوءة بالأشواك، وعلى السالك لها أن يوطن النفس علي تحملها، محتسبا كل ما يلقاه في سبيل الله، وله على ذلك أجر عظيم وثواب جزيل، وأسوته وقدوته في ذلك أحب الخلق إلى الله رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
كما أن عليه عند المواجهة أن يكون ثابت الفؤاد، رابط الجأش، مطمئن القلب، وأنه في معية الله، وأن الله لا يخذل عبدا ارتكن إليه، ولا يتخلى عن مسلم احتمى به، وأسوته في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطمئن صاحبه: إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا . 
وهذا هو بعينه ما حكاه القرآن الكريم عن موسى – عليه السلام – حين كان العدو من الوراء والبحر من الخلف: فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون. قال كلا إن معي ربي سيهدين. فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصال البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم. وأزلفنا ثم الأخرين. وأنجينا موسى ومن معه أجمعين . ثم أغرقنا الآخرين . 
-لم تكن الهجرة فرارا ولا طلبا للراحة: 
لم تكن الهجرة فرارا من الشدائد والآلام بمكة، ولا بحثا عن الراحة والدعة بالمدينة، ولا طلبا للدنيا وحطامها، ولكنها أولا وقبل كل شيء استجابة لأمر الله ورسوله، وطلبا لمرضاة الله ونصرة لدينه: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون . 
لقد كان الباعث الحقيقي هو النور الإلهي الذي ملأ قلوبهم وحياتهم، وغير أنفسهم وعقولهم، ونقلهم إلى محيط الإيمان الذي حررهم من العبودية للمال والعبودية للدنيا، والعبودية للأرض. ، وحررهم من حظوظ النفس ورفعهم فوق الشهوات، ثم ضيق أهل مكة من هذا النور وحملته، فدفع ذلك بهم إلى ترك أموالهم وأولادهم وأوطانهم، وخوض غمار المجهول بالتحول إلى ديار لم يكن لهم بها سابق عهد. .. لا فرارا من العنت والمشقة في مكة ولكن لمواصلة مسيرة الجهاد والتضحية… 
الهجرة جهاد وتضحية: 
لقد كانت الهجرة مليئة بالجهاد والتضحية في سبيل الله، وكيف لا، وقد كان منهم ترك داره وماله كصهيب، فلما وصل المدينة استقبله الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “ربح صهيب، ربح صهيب . 
كما كان منهم من فرقت الهجرة بين وبين زوجه وولده كأبي سلمة، وظلت زوجه لمدة عام تبكي حتى جمع الله شملهم بعد عام . 
نعم لقد كانت الهجرة مرحلة جديدة من الجهاد والتضحية في سبيل الله، وكان لهم من الأجر عند الله بقدر ما كانوا عليه من إخلاص النية: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه” .