ارتبط اسم تركيا بدولة الخلافة الإسلامية حيث كانت معقل أخر خلافة إسلامية، فمع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام1914م، أعلنت تركيا الحرب على بريطانيا وكان ذلك في أواخر شهر أكتوبر، وأهاب الخليفة العثماني السلطان محمد الخامس بالمسلمين أن يهبوا لقتال الحلفاء، ولما انتهت الحرب العالمية الأولى في نوفمبر 1918م وخرجت تركيا منها مثخنة الجراح كثيرة النكبات، وبعدها هاجمتها اليونان عام 1922م غير أن كمال أتاتورك استطاع أن ينزل الهزيمة باليونانيين ويصبح بطلا شعبيا ساعده ذلك على إعلان الجمهورية وإسقاط الخلافة الإسلامية في يوم 3 مارس 1924 حين صوّت البرلمان التركي على إلغاء نظام الخلافة.
وكان الإمام البنا ينظر إلى تركيا على أنها دولة الخلافة وهي مصدر حماية الأمة الإسلامية من التشتت والتشرذم في ظل محتل متربص، فعمل بقدر استطاعته على العمل لعودة الخلافة مرة أخرى.
يقول الدكتور محمد عمارة:
"بعد فشل الجهود التي بذلت لإحياء الخلافة الإسلامية.. تداعت صفوة علماء الإسلام ومفكريه في "1345هـ / 1927م" إلى المؤتمر الذي عقد في القاهرة وأثمر قيام "جمعية الشبان المسلمين" وفي العام التالي "1346هـ / 1928م" أسس الإمام الشهيد حسن البنا "جماعة الإخوان المسلمين" كأول تنظيم جماهيري لتيار الإحياء والتجديد الإسلامي في العصر الحديث، وكان الإمام حسن البنا هو الذي شارك في المؤتمر التأسيسي للشبان المسلمين" كما أن الإمام البنا كتب يقول عن الخلافة فيرسالة المؤتمر الخامس: يعتقد الإخوان أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، كما أنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله، حتى إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قدموا النظر في شأنها في سقيفة بني ساعده على النظر في تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه؛ ولذلك فإن "الإخوان المسلمون" يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس منهاجهم، وإن ذلك يحتاج لكثير من التمهيدات التي لابد منها من تعاون ثقافي واجتماعي واقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلها، ثم تكوين الأحلاف والمعاهدات، وعقد المؤتمرات بين هذه الدول حتى ينصب إمام وخليفة للمسلمين يجمع شمل المسلمين ويحرر الأراضي المحتلة.
وقد كان الإمام البنا يدرك جيدًا أن إقامة الخلافة على أرض الواقع تحتاج إلى تدرج في الخطوات، وتمهيد للنفوس والعقول التي أصابها الصدأ، أو الغفلة من كثرة ما تراكم عليها من أفكار استعمارية، ونظريات غربية غريبة عن واقعنا الإسلامي فيقول: "والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس منهاجهم، وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لابد منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد أن تسبقها خطوات".
وبعد أن قامت جماعة الإخوان المسلمين وانتشرت في البلاد، كان دائما ما يذكر الإمام البنا بالعمل لعودة الخلافة، والتنديد بما يجري في تركيا من طمس الهوية الإسلامية، وتغيير معالم البلاد من إسلامية إلى علمانية.
حتى أنه حينما مدح مصطفى النحاس باشا -رئيس الوزراء المصري- مصطفى كمال أتاتورك إلى المراسل الخاص لوكالة الأناضول التلغرافية بالقاهرة بتاريخ 9/6/1936م بقوله: " أود قبل كل شىء أن أقول: إنني من المعجبين بلا تحفظ بكمال أتاتورك الذي صاغ بعبقريته الخالقة تركيا الجديدة التى يلذ للعالم أن يسميها تركية أتاتورك، فلقد أوجد من دولة كانت بنوع ما قد أمحت من خريطة العالم دولة شابة ذات حيوية فائقة غدت عاملاً يحسب حسابه فى الشئون الأوروبية، ولست أعجب فحسب بعبقريته العسكرية، بل أعجب أيضًا بعبقريته الخالقة وفهمه لمعنى الدولة الحديثة التى تستطيع وحدها فى الحالة العالمية الحاضرة أن تعيش وأن تنمو".
كتب له الإمام البنا قائلا:
- حضرة صاحب الدولة مصطفى النحاس باشا زعيم الأمة ورئيس الحكومة
- السلام عليكم
فدولتكم أكبر زعيم شرقى عرف الجميع فيه سلامة الدين وصدق اليقين، وموقف الحكومة التركية الحديثة من الإسلام وأحكامه وتعاليمه وشرائعه معروف فى العالم كله لا لبس فيه، فالحكومة التركية قلبت نظام الخلافة إلى الجمهورية، وحذفت القانون الإسلامى وحكمت بالقانون السويسرى مع قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 43]، وصرحت فى دستورها بأنها حكومة لا دينية، وأجازت بمقضى هذه التعاليم أن تتزوج المسلمة غير المسلم، وأن ترث المرأة مثل الرجل، واصطدمت فى ذلك بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾[الممتحنة:10]، وقوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾[النساء: 176]، وهذا قليل من كثير من موقف الحكومة التركية من الإسلام، وأما موقفها من الشرق فقد صرحت فى وقت من الأوقات بلسان وزير خارجيتها بأنها ليست دولة شرقية، وقد قطعت صلتها بالشرق حتى فى شكل حروفه وفى أزيائه وعاداته وكل ما يتعلق به.
ومنذ ذلك والإخوان حريصون على التصدي لحملات التغريب والتشويه التي يتعرض لها الإسلام في تركيا على يد الدولة العلمانية الأتاتوركية.
حتى أن أحد الإخوة من تركيا وأثناء رحلة الإمام البنا للحج عام 1946م جلس معه فى أحد اللقاءات وتحدث معه عن حال شباب تركيا الذى أصبح لا يجيد العربية ولا يتكلمها، مطالبًا العرب والمسلمين بجهد فى إحياء العربية بتركيا.
ولم يعرف بالضبط متى دخل فكر الإخوان المسلمين إلى تركيا غير أن الإخوان كانوا يعتبرونها محطة من المحطات، خاصة الذين فروا من طغيان عبدالناصر، وإن كان لم يظهر أثرهم بقوة في هذه البلاد.
غير أنه من المعروف أن الأستاذ سعيد رمضان شارك في بعض المؤتمرات في تركيا وعمل من خللها على توثيق الصلة بالمثقفين الإسلاميين بتركيا.
وبالرغم من تمسك الدولة التركية بالقيم العلمانية على المستوى الرسمى إلا أن الإسلام احتفظ بحضوره القوي في أوساط الشعب التركي –حيث تبلغ نسبة معتنقي الإسلام في تركيا قرابة 98% من السكان تتبع الغالبية منهم المذهب السني- وهو ما أدى في خمسينيات القرن العشرين إلى إفصاح بعض السياسيين الأتراك عن ميولهم الإسلامية ومحاولتهم الاستفادة من المكانة الشعبية للإسلام في تقديم خططهم لنهضة تركيا وحل مشكلاتها, غير أن هذه الأصوات عورضت من قبل أغلبية النخبة العلمانية الحاكمة لتركيا وذلك لاعتقادها بأن العلمانية تعتبر مبدأً راسخا قامت على أساسه الدولة التركية الحديثة ولا ينبغي تجاوزه, ولعل هذا التعصب من قبل القادة الأتراك للقيم العلمانية في مقابل احتقارهم للقيم الشائعة التي يعتقد بها أغلبية الأتراك والمتمثلة في قيم الإسلام أدى بشكل تدريجي إلى استقطاب المجتمع التركي نحو إيثار عودة القيم الإسلامية وهو ما دفع بدوره بحلول الثمانينات من القرن العشرين إلى ظهور جيل من السياسيين الأتراك أخذوا علانية في تحدي النخبة العلمانيةالحاكمة لبلادهم والمناداة بعودة القيم الإسلامية إلى تركيا.
وظلت تركيا لا يظهر فيها السمت الإسلامي أو الجماعات الإسلامية حتى ظهر نجم الدين أربكان الذي تحالف مع الحركة النورسية –وهي جماعة منهجها مثل منهجالإخوان وتدرس رسائل الإمام البنا وكتب الإخوان المسلمين - وكون حزب النظام الوطني الذي كان أول تنظيم سياسي ذا هوية إسلامية تعرفه الدولة التركية الحديثة منذ زوال الخلافة عام 1924.
لم يصمد حزب (النظام الوطني) سوى تسعة أشهر حتى تم حله بقرار قضائي من المحكمة الدستورية بعد إنذار من قائد الجيش محسن باتور، فقام أربكان بدعم من التحالف ذاته بتأسيس حزب السلامة الوطني عام 1972، وأفلت هذه المرة من غضب الجيش ليشارك بالانتخابات العامة ويفوز بخمسين مقعدا كانت كافية له ليشارك في مطلع عام 1974 في حكومة ائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك ليرعى المبادئ العلمانية.
تولى أربكان منصب نائب رئيس الوزراء وشارك رئيس الحكومة بولند أجاويد في اتخاذ قرار التدخل في قبرص في نفس العام، واعتبر من دافع عن مشاركة أربكان في الائتلاف أنه حقق مكاسب كبيرة لتيار الإسلام السياسي من أهمها الاعتراف بهذا التيار وأهميته في الساحة السياسية إلى جانب مكاسب اعتبرت تنازلات مؤثرة من قبل حزب الشعب. خلال وجوده في حكومة أجاويد، حاول أربكان فرض بعض قناعاته على القرار السياسي التركي، وحاول ضرب بعض من أخطر مراكز النفوذ الداعمة للنهج العلماني، فقدم بعد تشكيل الحكومة بقليل مشروع قرار للبرلمان بتحريم الماسونية في تركيا وإغلاق محافلها، وأسهم في تطوير العلاقات مع العالم العربي، وأظهر أكثر من موقف مؤيد صراحة للشعب الفلسطيني ومعاد لإسرائيل، ونجح في حجب الثقة عن وزير الخارجية آنذاك خير الدين أركمان بسبب ما اعتبر سياسته المؤيدة لإسرائيل.
حتى بعد خروجه من الحكومة فقد قدم حزب أربكان مشروع قانون إلى مجلس النواب في صيف عام 1980 يدعو الحكومة التركية إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل، وأتبع ذلك مباشرة بتنظيم مظاهرة ضخمة ضد القرار الإسرائيلي بضم مدينة القدس، كانت المظاهرة من أضخم ما شهدته تركيا في تاريخها المعاصر، الأمر الذي اعتبر استفتاء على شعبية الإسلام السياسي بزعامة أربكان. بعد بضعة أيام تزعم قائد الجيش كنعان إيفرين انقلابا عسكريا أطاح بالائتلاف الحاكم، وبدأ سلسلة إجراءات كان من بينها إعادة القوة للتيار العلماني ومن ذلك تشكيل مجلس الأمن القومي وتعطيل الدستور وحل الأحزاب واعتقال الناشطين الإسلاميين إلى جانب اليساريين.
كان أربكان من بين من دخلوا السجن آنذاك، وبعد ثلاث سنوات خرج في إطار موجة انفتاح على الحريات في عهد حكومة أوزال، فأسس في العام 1983 حزب الرفاه الوطني، الذي شارك في انتخابات نفس العام لكنه لم يحصل سوى على 1.5% من الأصوات، لكنه لم ييأس إذ واصل جهوده السياسية حتى أفلح في الفوز بالأغلبية في انتخابات عام 1996 ليترأس أربكان حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم برئاسة تانسو تشيللر. خلال أقل من عام قضاه رئيسا للحكومة التركية، سعى أربكان إلى الانفتاح بقوة على العالم الإسلامي، حتى بدا وكأنه يريد استعادة دور تركيا الإسلامي القيادي، فبدأ ولايته بزيارة إلى كل من ليبيا وإيران، وأعلن عن تشكيل مجموعة الثماني الإسلامية التي تضم إلى جانب تركيا أكبر سبع دول إسلامية: إيران وباكستان وإندونيسيا ومصر ونيجيريا وبنغلاديش وماليزيا.
لم يكتف أربكان بذلك، بل نشط عبر العالم الإسلامي، وحدد موعدا لمؤتمر عالمي يضم قيادات العمل الإسلامي، وباتت تركيا تتدخل بثقلها لحل مشكلات داخلية في دول إسلامية كما حدث حينما أرسل وفودا لحل خلافات المجاهدين في أفغانستان.
غير أن جنرالات الجيش قاموا بانقلاب من نوع جديد إذ قدموا إلى أربكان مجموعة طلبات لغرض تنفيذها على الفور تتضمن ما وصفوه بمكافحة الرجعية وتستهدف وقف كل مظاهر النشاط الإسلامي في البلاد سياسيا كان أم تعليميا أم متعلقا بالعبادات، فكان أن اضطر أربكان إلى الاستقالة من منصبه لمنع تطور الأحداث إلى انقلاب عسكري فعلي.
في عام 1998 تم حظر حزب الرفاه وأحيل أربكان إلى القضاء بتهم مختلفة منها انتهاك مواثيق علمانية الدولة، ومنع من مزاولة النشاط السياسي لخمس سنوات، لكنأربكان لم يغادر الساحة السياسية فلجأ إلى المخرج التركي التقليدي ليؤسس حزبا جديدا باسم الفضيلة بزعامة أحد معاونيه وبدأ يديره من خلف الكواليس، لكن هذا الحزب تعرض للحظر أيضا في عام 2000. ومن جديد يعود أربكان ليؤسس بعد انتهاء مدة الحظر في عام 2003 حزب السعادة، لكن خصومه من العلمانيين، تربصوا به ليجري اعتقاله ومحاكمته في نفس العام بتهمة اختلاس أموال من حزب الرفاه المنحل، وحكم على الرجل بسنتين سجنا وكان يبلغ من العمر وقتها 77 عاما.
غير أن رجب طيب أردوغان و