الارتقاء والتطور ضرورة حياتية
الإنسان في رحلته الدنيوية يواجه في كلِّ تجربة من حياته فرصة للتغيير، فإمَّا أن يغتنمها إيجابياً، أو تفوته الفرصة، وأيّما فرصة مضت، فلن تعود إلى الأبد.
فهو بذلك إمَّا أن يخطو خطوة للأمام، وإمَّا أن يظل مكانه دون حراك، وقد عبَّر القرآن الكريم عن هذه الحقيقة التي لا مفرَّ منها، في قوله تعالى :{نذيرا للبشر، لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر}. [المدثر، 36، 37].
فالحياة إمَّا تقدَّم أو تأخر، إمَّا ارتقاء في سماء المجد، أو إخلاد إلى حضيض التيه، إمَّا قرب من الله، أو بعد عنه، لا تخلو لحظة من كونها فرصة للتقدَّم، أو نقيض ذلك.
والثبات على ما تمَّ الوصول إليه في شتى مناحي الحياة، يكون تقدما عندما يكون محافظة على إنجاز قد تمَّ تحصيله، ودفاعاً عن خطر داهم يحاول هدمه، فالوقوف أمام هذه الأحوال العارضة على الإنجاز الأصلي تقدّم وترق، وإن كان ذلك كله في ظاهره لغير المتأمل، ثباتاً وسكوناً، {ولولا أن ثبتناك، لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا} [الإسراء، 74]، فرسول الله صلَّى الله عليه وسلّم، وهو بين ظاهرني كفار قريش، كان يسعى لدعوتهم، وإدخال أكبر عدد ممكن منهم في دين الله، وهو في حين من الأوقات لم يتمكن من ذلك، لأنَّه بدأ يواجه ظروفاً وضغوطاً تريد ثنيه وردّه عن أصل الأمر، فلمَّا أن ثبته الله جلَّ وعلا على الدَّعوة في مواجهة كل تلك الظروف، كان ذلك فتحاً ونصراً، وبلسان هذا الحديث: تقدّماً.
قد يكون الثبات والسكون علامة التأخر والتراجع، وهذا عندما يكون السكون في مقابل الانتقال إلى مرحلة أفضل، مع توافر الأسباب والدواعي لذلك، فيكون تفويتاً لفرصة
ومع ذلك قد يكون الثبات والسكون علامة التأخر والتراجع، وهذا عندما يكون السكون في مقابل الانتقال إلى مرحلة أفضل، مع توافر الأسباب والدواعي لذلك، فيكون تفويتاً لفرصة، ومن الأمثلة على ذلك، أنك لو تابعت أخبار رياضيٍّ ما، وكان يحصل المركز الثاني ، واستمر على هذا النحو مسابقات عدَّة، سيعد ذلك تراجعاً، لأنَّه لم يستطع أن يقدّم نجاحاً جديداً، واكتفى بسابق ما أنجز.
والقرآن الكريم بعد أن نبَّه إلى هذا الأمر، وأرشد أذهاننا ونظرنا إليه، رسم لنا معالم التقدّم، وحضنا عليه، ودلنا على كنهه في الأمور كلِّها، وأرشدنا جلَّ في علاه عبر آيات كثيرة إلى ضرورة الانتباه إلى هذا المنهج، وجاءت سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم أروع مثال على الارتقاء والصعود في سلّم الخيرية.
قولنا الارتقاء منهج، يعني الانتقال الدائم من وضع إلى وضع أفضل، فالانتقال من السيّئ إلى الأقل سوءاً تقدّم، والانتقال من الجيّد إلى الأكثر جودة تقدم، والانتقال من السوء الكثير إلى السوء القليل تقدم، والانتقال من الجيد القليل إلى الجيد الكثير تقدم، ألا ترى أنَّ المنظمات العالمية اليوم، تعدّ أيَّ نقص في عدد فقراء دولة ما تقدماً في وضعها الاقتصادي والاجتماعي، وانخفاض نسبة الرسوب في مرحلة دراسية ما، علامة على تحسن الأداء التدريسي لهذه المؤسسة.
ومن المعالم الواضحة في رسم هذا المنهج، قوله تعالى: { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه} [المزمل، 20]. فهنا يضع الله أمام أعيننا مراتب لعبادة من العبادات، ليعلمنا أنَّ الطريق إليه ليست في مرتبة واحدة، والقرب منه معياري نسبي، يراعى فيه ما يحيط الإنسان من ظروف شتى، وقد رتبها الله عزَّ وجل في هذه الآية من الأعلى للأدنى، في إشارة إلى دفعنا إلى تحصيل الأعلى في أدائنا لهذه العبادة الجليلة، وإنَّك إذا ما اطلعت على أي تقييم لهيئة تعليمية أو غير ذلك، ستجد الدّرجات مرتبة من أعلى لأدنى، فمثلا: امتياز، ممتاز، جيّد جداً، جيّد .. وهكذا، فالمؤمن يسعى دائماً إلى الرقي في عبادته، وفق المنهج الذي وضعه الله له، فلا يقنع بمرتبة، ولا يرضى بمنزلة، بل يظل في حالة من الحركة الدائمة الدائبة التي تنقله من مستوى أدنى لمستوى أعلى.
ولهذا المنهج انعكاساته على شتى نواحي الحياة، فالإنسان في عبادته كما في مثال صلاة قيام الليل، ينتقل من مرتبة إلى مرتبة، وهنا محذورات مهمَّة، منها:
1. أن لا يكلّف نفسه فوق طاقتها، فينطلق إلى أعلى المراتب وقد كان في أدناها، لأنَّ هذا تضييع للجهد، وتفويت للمقصد.
2. أن لا يقنع بمرتبة وصل إليها، فمن أكرمه الله بقراءة جزء من القرآن، عليه أن يسعى لأن يكون ورده جزأين، وهكذا في سائر العبادات.
3. أن يسير وفق خطة واضحة في الارتقاء والانتقال، فلا يضيع جهده، وهو يتردد ويتقلب دون نظرة واضحة.
4. أن لا ينتقل من مرتبة أعلى وصل إليها إلى مرتبة أدنى مهما واجه من ظروف، إذ في ذلك بداية الانتكاس، وأول عوامل الهدم، والخطوة الأولى نهو الانهيار، بل يصبر نفسه على ما أنجز، ويحافظ على ذلك ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وكما أسلفنا القول، فالمحافظة على الإنجاز أحيانا تعدُّ إنجازاً.
وينعكس هذا المنهج أيضاً على بناء الإنسان لشخصيته وتربيته لها، فهو لا بحال نفسه الأمس لليوم، ولا بحال نفسه اليوم للغد، بل يظل يراقب نفسه في حبّها لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وحرصها على دين الله تعالى، وحسن تعاملها مع الناس، وانتقائها أطايب الكلام، وابتعادها عن سفاسف الأمور، وما كان مقبولاً في مرحلة سابقة من تصرّفات وأقوال ونوايا، لا يصلح في مرحلة لاحقة، ونضرب لذلك مثالاً، بأن يكون الشاب المسلم وهو في سن المراهقة يعمد إلى ألعاب الحاسب الآلي لهدف الترويح عن النفس، فإنَّ هذا الأسلوب وإن كان مقبولاً من شاب مراهق، فهو مذموم من شاب جامعي، بل يروّح عن نفسه بقراءة قصص الصَّالحين أو ما شابه، ممَّا لا يحتاج إلى كثير تركيز، وفيه الفائدة والمتعة.
ومن التطبيقات الواضحة لهذا المبدأ في حياة المسلم، دعوته لإخوانه، فهو يحملهم من حال إلى حال، ويدلهم على الأفضل والأحسن، فلا يكون خطابه للجميع واحداً، بل ينتقي لهم ما يناسب أحوالهم، فمن كان يشغل نفسه بتوافه الأمور والمهمَّات، ينبّهه إلى أقلّها أهمية وفائدة، وهكذا، ومثال ذلك في سيّئات الأمور، أنَّ الداعي إذا أراد أن يدعو مدخناً لترك التدخين، فإنَّه يدعوه إلى التخفيف منه، تمهيداً لتركه، ومثال ذلك في حسنات الأمور، أنَّ الدَّاعي إذا أراد أن يثقف أخاً له في الله، فإنَّه ينتقل به من طور الوعظ وقصص الصَّالحين، إلى طور العلم ومسائل العقيدة والفقه.
وهذا المنهج عام في المؤسسات والهيئات أدناها منزلة، وأعظمها مهمَّة، فلا ينبغي لمدير في شركة، أو لأمين في حزب، أو لمسؤول في حكومة، أو لرئيس في دولة، أن يقنع بمرتبة وصل إليها، بل لا بد من الانتقال من مرحلة إلى أخرى، في ارتقاء دائم، فدولة عجزه السنوي النصف، تسعى لأن يكون عجزها السنوي الربع، وهكذا، حتى تتمكن من سدِّ عجزها، وتحصيل فائض عليه، أمَّا إذا رضيت بما هي عليه، فإنَّها تخطط لانهيارها، وضياع قوتها، واندثار أركانها.
{لمن شاء منكم أن يتقدَّم أو يتأخر} منهج واضح في القرآن الكريم، لا تنفك الحاجة إليه لمسلم أو داعية أو ذي شأن في المجتمع، في حركتنا المستمرة التي لا تتوقف في الحياة.