بقلم: الإمام حسن البنا
أيها الناس، تجردوا عن الغاية وافهموا الأمور على وجهها
لا يريد كثير من الناس أن ينظروا إلى الحقائق إلا بمنظار مطموس بالغايات ملوث بالأهواء سودته الحزازات الحزبية، وتكاثفت على زجاجه الضغائن الشخصية، وما دام ذلك كذلك فلن يصل هذا إلى الحق وإن كان أوضح من النهار وأضوأ من الشمس المشرقة، فالهوى والحق لا يجتمعان، والغاية والإنصاف خصمان لدودان ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾[المؤمنون: 71].
ولا يريد هذا الصنف من الناس أن يفهم أن الإسلام قد أفتى فى شئون الحياة جميعا، وتناول أمور الدنيا والآخرة بالبيان والإيضاح، ورسم للناس فيها حدودا إن اتبعوها فهم مسلمون صادقون وإن خرجوا عليها فهم آثمون مخالفون يقولون ما لا يفعلون، وما دام الإسلام قد بين للناس نظام الحكم وقواعده ووضح لهم حقوق الحاكم والمحكوم فى بيان شامل فاصل، فإن الإسلام بهذا قد ضرب فى صميم السياسة، وتناول أخص خصائص رجالها، وزج بأحكامه فى تيارها، وألزم الناس النزول على هذه الأحكام. وهل أوضح فى هذا من قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ*أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[المائدة: 49-50]؟
وما دام الإسلام قد فرض على الناس أن يجهروا بالحق، وأن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر، وألا يقروا ظالما على ظلمه، وألا يستسلموا لجائر فى جوره، وأن يجاهدوا أمراءهم وحكامهم وأولى الرأى منهم فى سبيل إقامة موازين العدل حتى تقوم، وإعلاء كلمة الله حتى ترتفع على الرءوس، وإظهار شعائر الإسلام حتى تسمو فوق كل منار، فهو بذلك قد فرض على المسلمين جميعا اليقظة السياسية، والتدخل فى شئون السياسة، وأعطى الأمة حق مراقبة قوادها وزعمائها وحكامها وأمرائها وملوكها ووزرائها وأهل النفوذ والرأى فيها، فما من كبير إلا والحق أكبر منه، وما من ضعيف إلا وهو أقوى الناس بحقه، وهل أوضح فى ذلك من قول الله تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ*كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: 78-79]،
ومن قول الرسول (ص) "سيد الشهداء حمزة, ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" فى أحاديث وآيات أكثر من أن يتسع لها كتاب ما دام الإسلام يقول هذا-أيها الناس- فليس هناك شىء اسمه دين وآخر اسمه سياسة، وهى بدعة أوربية أراد خصومكم بها أن تفتر حماستكم للإسلام، وأن يصرفوكم عن نظمه إلى نظمهم الفاسدة، وليس هناك فى حقيقة الأمر إلا شىء واحد –هو شريعة الله التى صلح عليها أمر الدنيا والآخرة، ووضعت للناس أفضل النظم فى سياسة معاشهم، ومعادهم، وحكمهم، وقضائهم، وحربهم، وسلمهم، وأخذهم، وعطائهم: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ﴾[المائدة:3].
أيها الناس: ضعوا عن أبصاركم هذه المناظير الملونة التى قدمتها إليكم أوربا وروجها عليكم ساسة هذا العصر، وانظروا إلى الإسلام بنور الله الذى هداكم إليه فحبب إليكم الإيمان وزينه فى قلوبكم ترون ذلك جليا وتبصرونه واضحا، وتعلمون أن الحق فى جانب الإخوان المسلمين وأن الخطأ كل الخطأ فى نظرات الزعماء السياسيين الذين يفرقون بين السياسة والدين.
وبعد: أيها الناس، فقد اختلفت أحكامكم على الإخوان وكتابات الإخوان فى هذه الصحيفة، وذهبتم فيها كل مذهب، وجافيتم الصواب كثيرا، وحكمتم بأهوائكم لا بحقيقة الأمر، والمسألة أبسط من ذلك وأهون مما تظنون.
كتب الإخوان ينتقدون رجال الحكومة الحاضرة نقدا مرا لاذعا أليما فيه صراحة وفيه وضوح وفيه حساب عسير وفيه مؤاخذة شديدة، نقدوا وزير الخارجية فى حفل البعثة الإيرانية، وما كان فيه من خمر ورقص وعبث ولهو بأموال الفلاحين بما يخالف أوامر الدين، ونقدوا وزير الداخلية السابق فى سفره ظهر الجمعة وتركه أداء فريضتها مع منشوره للمديرين والمحافظين ورجال الإدارة بوجوب مشاركة المسلمين فى أداء هذه الفريضة المقدسة، ونقدوا وزير المالية الحالى، والنائب العام فى حضور ميادين السباق والمراهنة على الخيل، وهى بوضعها الحاضر قمار صريح لاشك فيه، ونقدوا رئيس الوزراء فى تصريحه الخاص بقضية فلسطين وفى إعجابه بفرسان المغاربة يزينون ميادين فرنسا وهم سلالة الأشاوس الفاتحين من أبطال الموحدين.
كتبوا فى كل هذا وسوف لا تقف هذه الأقلام عن هذا النقد أو هذا النصح إن شئت ما وجدت إليه سبيلا، ولن تقف فى سبيلها عقوبة أو محاكمة فنحن نرتل دائما قول الرسول: "إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" فإذا تأولتم أنتم -أيها الناس- كلماتنا هذه، ونظرتم إليها خلال غايتكم وغفلتم تماما عن الدافع الحقيقى لها، فأما الحكوميون منكم فقالوا فى أنفسهم وفى مجتمعاتهم: وفديون نحاسيون مهرجون مأجورون لا يرضيهم شىء ولا يعترفون بمحمدة كل همهم خصومة الحكومة وعداوة الحكومة والنيل من الحكومة ورجال الحكومة، وقال الوفديون وأنصارهم: إن الحكومة لم تغدق على هؤلاء القوم من الإعانات المادية، ولم تعطهم من المصروفات السرية، ولم تحقق لهم مطالب شخصية فهم لهذا يحملون عليها وينتقدون رجالها ويشهرون بأعمالها وهو انتصار للوفد مبين.
وكتب الإخوان مع الكلمات السابقة وفى أعداد واحدة ينقدون رفعة النحاس باشا فى تصريحه عن الحدود الإسلامية، وينددون بموقفه من التشريع الإسلامى، ويعيبون على المؤتمر الوفدى إضاعته لصلاة المغرب، ويطالبون الوفد ورجال الوفد بالحرص على شعائر الإسلام ومظاهر الإسلام، فانعكست الآية وانقلبت التهمة وفرح الحكوميون واغتاظ الوفديون، وأصدر كل منهما على العدد الواحد من أعداد النذير حكمين متناقضين فهو العدد بعينه ومن يكتب فيه وفدى وحكومى وماهرى ونحاسى ومؤيد ومعارض كل ذلك فى وقت واحد. هذه الأحكام المتناقضة كلها خاطئة، وإنما جر الناس إليها أمر واحد هو أنهم لا ينظرون إلى الأمور إلا من وراء الأفكار الحزبية، والحق -أيها الناس- أننا حين ننقد الحكومة أو الوفد لا نكره واحد منهما، ولا نعتبر هذا النقد معارضة إلا فى هذا العمل الذى نقدناه، وحين نؤيد واحدا منهما ونثنى على عمل حميد صدر منه فليس معنى هذا أننا معه أو مؤيدوه إلا فى هذا العمل وحده، ونحن على استعداد لأن نؤيد اليوم من نقدناه بالأمس إذا أحسن وأجاد، وأن ننقد اليوم من أيدناه بالأمس إذا اعوج والتوى، وليس ذلك بتلون منا ولا نفاق، ولكنه نزول على حكم الحق أينما كان، وليس هذا -أيها الناس- تدخل حزبى أو كيد سياسى، ولكنه أداء واجب دينى فرضه الله، هو واجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فهل آن أن نتفهم معا هذه الحقيقة فنتعاون جميعا على أن نرى الحق حقا ونتبعه والباطل باطلا فنجتنب ونحاربه، ذلك ما نريد أن يفهمه الناس عنا، ويحملوا عليه كتاباتنا.