سر المواجهة الحاسمة بين البنا وعلماء الأزهر
ولذا اعتقد الإخوان المسلمون أن الأزهر هو الحصن الرسمي للإسلام، والقلعة القائمة على حراسته، وإذا كان الإخوان يعتبرون أنفسهم إحدى الهيئات الدينية التي تعمل في ميدان هذه الرسالة فهم ينظرون إلى الأزهر دائمًا باعتباره الهيئة الرسمية العليا لهذه الرسالة، وكان هذا هو الفهم السائد عند الإمام البنا، وأظهره جليًّا لإخوانه فكتب لهم يقول: "إن الأزهر الشريف هو أمل المسلمين الباقي، وهو مظهر الإسلامية، وله من ماضيه وحاضره وآثاره ما يجعله كذلك؛ فإعزازه إعزاز للإسلام، والنيل منه نيل من الإسلام؛ فموقف الإخوان المسلمين منه المحافظة التامة على مجده وكرامته، والعمل الدائب على إعزازه وإعلاء شأنه وتأييده في كل خطةٍ يُراد بها خدمة الإسلام والمسلمين".
ولم يكن اهتمام الإمام البنا بالأزهر مصحوبًا بنشأة الجماعة، بل كان اهتمامه بالأزهر وعلمائه قبل نشأة الجماعة بفترة، خاصةً أثناء دراسة الإمام البنا في دار العلوم، ونظر فوجد الأمة تتقاذفها المدارس والمستشفيات التبشيرية ونهشها المحتل، فالتجأ الإمام البنا إلى الأزهر وعلمائه يستحثهم على العمل لإنقاذ الإسلام وما يُحاك له وإنقاذ الأمة من قبضة التنصيريين.
ولقد حاول استنهاض همة العلماء؛ فقد قام بزيارة الشيخ يوسف الدجوي، وكان من العلماء المعدودين في ذلك الوقت، وله صلات بأهل العلم والوجهاء، وتحدَّث معه في جمع الجهود لعمل إيجابي يرد به الكيد عن الإسلام، ولكن الشيخ الدجوي نصحه بأنه لا فائدةَ من كل ذلك، وحسب الإنسان أن يعمل لنفسه وأن ينجوَ بها من هذا البلاء، وتمثَّل بهذا البيت من الشعر:
-
-
-
-
-
- على النجاة بمَن قد مات أو هلكا
-
-
-
-
أوصاه أن يعمل بقدر استطاعته وأن يدع النتائج على الله ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ (البقرة: من الآية 286)، ولم يُعجب البنا هذا الجواب، فقال للشيخ الدجوي: "إنني أخالفك يا سيدي كل المخالفة في هذا الذي تقول، وأعتقد أن الأمر لا يعدو أن يكون ضعفًا فقط وقعودًا عن العمل وهروبًا من التبعات، من أي شيء تخافون؟! من الحكومة أو الأزهر؟! يكفيكم معاشكم واقعدوا في بيوتكم واعملوا للإسلام؛ فالشعب معكم في الحقيقة لو واجهتموه؛ لأنه شعب مسلم، وقد عرفته في المقاهي وفي المساجد وفي الشوارع فرأيته يفيض إيمانًا، ولكن قوة مهملة من هؤلاء الملحدين والإباحيين وجرائدهم ومجلاتهم لا قيامَ لها إلا في غفلتكم، ولو تنبهتم لدخلوا جحورهم.
يا أستاذ.. إن لم تريدوا أن تعملوا لله فاعملوا للدنيا وللرغيف الذي تأكلون؛ فإنه إذا ضاع الإسلام في هذه الأمة ضاع الأزهر وضاع العلماء، فلا تجدون ما تأكلون ولا ما تنفقون، فدافعوا عن كيانكم إن لم تدافعوا عن كيان الإسلام، واعملوا للدنيا إن لم تريدوا أن تعملوا للآخرة، وإلا فقد ضاعت دنياكم وآخرتكم على السواء".
وانقسم الناس بعد هذا الكلام إلى فريقين: فريق يتهم البنا بالإساءة إلى الشيخ وعلماء الأزهر، وبذلك فقد أساء إلى الإسلام، وفريق آخر يرى أن البنا لم يرد إلا أن يجتمع العلماء لنصرة الإسلام، وأن الناس ستكون من خلفهم، ولم يَنْتَهِ الأمر إلى شيء إلا أن ينتقلوا إلى بيت أحد المشايخ الذي كان على موعد معهم لزيارته، فانتقلوا إليه وتحرَّى البنا مكانًا قريبًا من الشيخ الدجوي، وانتهز فرصة وكلَّم الشيخ الدجوي مرةً أخرى في الأمر وأصرَّ عليه، فما كان من الشيخ الدجوي إلا أن أعطاه بعض الحلوى، ووعده بالتفكير في الأمر، فرفض البنا هذا التفكير وقال له وللعلماء من حوله: "سبحان الله يا سيدي.. إن الأمر لا يحتمل تفكيرًا، ولكن يتطلب عملاً، ولو كانت رغبتي في هذه النقل وأمثالها لاستطعت أن أشتريَ بقرش وأظل في منزلي ولا أتكلف مشقة زيارتكم.
يا سيدي.. إن الإسلام يُحارب هذه الحرب العنيفة القاسية، ورجاله وحماته وأئمة المسلمين يقضون الأوقات غارقين في هذا النعيم! أتظنون أن الله لا يحاسبكم على هذا الذي تصنعون؟! إن كنتم تعلمون للإسلام أئمة غيركم وحماة غيركم فدلوني عليهم لأذهب إليهم".
فوجم الجميع وفاضت عين الشيخ وبعض الحاضرين بالدمع، ثم سأل الشيخ الإمام البنا وقال له: "وماذا أفعل؟"، قال له الإمام البنا: "أريد أن تحصر أسماء مَن تتوسَّم فيهم الغيرة على الدين ليفكروا فيما يجب عمله؛ يصدرون مجلةً يردون فيها على دعاة الإلحاد أو يؤلفون جمعيات يأوي إليها الشباب وينشطون حركة الوعظ والإرشاد"، ووافق الشيخ وتم كتابة أسماء العديد من العلماء والوجهاء حتى تكوَّنت نواة طيبة من هؤلاء العلماء كان من نتيجتها ظهور مجلة "الفتح" الإسلامية التي رأس تحريرها الشيخ عبد الباقي سرور، وكان مدير تحريرها السيد محب الدين الخطيب.
الأزهر في كتابات الإمام البنا
بدايةً.. قبل أن نتعرَّف على مدى العلاقة التي كانت بين الإخوانوالأزهر الشريف، ومحاولة الإخوان العودة بالأزهر إلى مكانته التي كان يحظى بها من استنهاض العلماء، وإصلاح مناهج التعليم التي تحافظ على كيان الأزهر، ومكانة شيخ الأزهر.. نتعرف أولاً على مراسلات الإمام البنا وخطاباته إلى شيخ الأزهر في محاولةٍ لإصلاح الأزهر؛ فقد أرسل إلى الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر خطابًا تحت عنوان: "إلى صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر"؛ قال له فيها:
أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وأرفع إليكم تحية الإخوان المسلمين طيبة مباركة؛ فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يا صاحب الفضيلة :
أعلنتم في خطاباتكم الجامعة الإصلاحية وفي أحاديثكم على صفحات الجرائد "أن القرآن يقرِّر نفي الإيمان عمَّن لم يَرْضَ بأحكام الله رضًا يزيل الحرج عن صدره ويملأ قلبه استسلامًا وطمأنينة".
"وأن الدين مهما امتدت آفاقه وتأوَّل فيه المتأولون فهو لا يحتمل هذه البوائق، ولا هذا الإلحاد، ولا هذه الإباحية الجامحة ولا هذه الشهوات التي لا تقف عند حد".
"وأن المسلم الذي لا يعترف بأن الدين حق كله وخير كله، ويقول إن بعض قواعده ضارة بالمجتمع أو ضارة بالمدنية أو السياسة، مسلم مرتد عن دين الله؛ لا يقبل الله منه صلاةً ولا صومًا".
"وأن إضعاف سلطان الدين على النفوس والتفريق بين قواعده وانتزاع سلطانه على الحياة الاجتماعية يضعف نفس المسلم ويبعده عن دينه".
"وأن أولئك الذين يحاولون إبعاد الدين عن الحياة الاجتماعية ويحاولون إخفاء شعائره ومظاهره هم في الواقع أعداء الإسلام".
أعلنتم ذلك وغيره من أحكام الله وتعاليم دينه على منبر الأزهر الشريف وعلى موجات الإذاعة اللاسلكية، فسُرَّ المسلمون في أنحاء الأرض، وسعد الإخوان المسلمون حين سمعوا دعوة الإسلام تظهر على لسان شيخ علماء المسلمين، وحمد الجميع لكم هذا الصنيع، أن جاهرتم بالحق، ودعوتم إلى الخير، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، ورفعتم رءوس العلماء، وقمتم بوظيفة الدعاة والمرشدين، ولكن هل ذلك وحده يكفي؟!
يا صاحب الفضيلة.. لعلكم أعرفُ الناس بالاتجاهات الخطيرة التي تندفع إليها الأمة المصرية في عقائدها وأخلاقها ودينها وكل مظاهر حياتها، ولعلكم أشدُّ الناس ألمًا لإقصاء الإسلام عن كل مظاهر الحياة العملية في الاجتماع والسياسة والتشريع والتقنين والعادات والأخلاق ودور العلم، بل والشوارع والمنازل والبيوت والأسر، وليس ينجينا من التبعة ويخلصنا من عذاب الله يوم القيامة أن نقول وكفى، بل إن وراءنا بعد ذلك عملاً جديًّا لا بد من أن نقوم به مهما كلَّفنا ذلك من جهود وتضحيات، ولعلكم يا سيدي أقدر الناس على بذل هذا المجهود رغم القيود الرسمية التي تُحيط بمناصبكم، ولعل هذا أنسب الأوقات لهذا الإصلاح، ولعلها فرصة إن ذهبت من أيدي المصلحين من أئمة المسلمين أعقبتهم ندمًا طويلاً ولم يستطيعوا لها ردًّا ولا تعويضًا.
يا صاحب الفضيلة.. جاهروا بالحق؛ فإن الله ناصركم، وصارحوا الجميع بتعاليم الإسلام وأحكام الإسلام؛ فإن الله معكم، وإن الإخوان المسلمين ليقفون أرواحهم ودماءهم وجهودهم على كل عمل يسير بالأمة إلى الحياة الإصلاحية الإسلامية الصحيحة.
اطلبوا باسم الله ورسوله إلى الوزراء والحكام أن يكونوا في حياتهم الخاصة والعامة، وفي بيوتهم ودواوينهم وتصرفاتهم صورًا كاملة للرجل المسلم الفاضل، حاربوا المنكرات والموبقات وما أكثرها! واطلبوا إلى الأمة البُعد عنها في بياناتٍ زاجرة، وإلى الحكومة القضاء عليها بالقوانين الرادعة.
طالبوا بأن يسود التشريع الإسلامي وأن تهيمن تعاليم الإسلام على كل عمل في الدولة؛ فهذا هو حكم الله الذي لا يماري فيه مسلم؛ وذلك قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)﴾ (المائدة: 49).
هذا إجمال له تفصيل، وفضيلتكم أعلم الناس بكل ما نريد، وقد رفع الإخوان إلى سدة جلالة الملك وإلى رفعة رئيس الحكومة مذكرات ببعض ما يرون من وجوه الإصلاح، وإن الأمة كلها لتؤيدكم في كل مطلب إسلامي، فتقدموا باسم الله وعلى هدى رسوله صلى الله عليه وسلم، والله معكم، ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: من الآية 40).
وكتب في نهاية إحدى الرسائل الأخرى يقول فيها:
لم يَكْتَفِ الإمام البنا بمحاولة إصلاح الأزهر فحسب، بل عمل على استنهاض الأزهر ورجاله ورجال الداخلية بمحاربة الرذيلة والقضاء عليها؛ فإنه من غير اللائق أن تعترف دولة الأزهر بالبغاء وتُصرِّح به، وأيضًا الصور البذيئة التي تنشرها المجلات، فكتب إليهما تحت عنوان: "رسالتان إلى وزير الداخلية ووكيل الأزهر"؛ قال لهما فيها:
فأبعث إلى فضيلتكم بصورةٍ من الخطاب الذي وجَّهته إلى معالي وزير الداخلية بخصوص ما تنشره عادة بعض المجلات المصرية من الصور الخليعة والمناظر الفاجرة بلا تحرُّج أو حياء وغير ناظرة إلى اعتبار خلق أو دين أو وطنية، فيكون لذلك في أفراد الأمة والمجتمع نفسه من الآثار أسوأها مغبَّةً وعاقبةً.
ولا شك أن فضيلتكم يحملون بين أيدي الله والناس والتاريخ تبعة كبرى من هذا الخطر الوبيل؛ لذا أناشدكم باسمها أن تتصلوا بالمسئولين من رجال السلطة التنفيذية ليضعوا لذلك الفساد حدًّا، وأنتم بحمد الله من أغير الناس على دين الله وأحرصهم على أداء الأمانة وحمل التبعة، فاعملوا، والله معكم ولن يتركم أعمالكم.
نص الخطاب:
حضرة صاحب الدولة وزير الداخلية... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..
فيؤسفني أشد الأسف أن أضع أمام نظر معاليكم مجموعةً من الصور الخليعة الفاجرة وما كتب بحقها من تعليقات آثمة المغزى ساقطة المعنى، نشرتها مجلة (الأستوديو) في صفحتها الثانية من عددها الثاني الصادر بتاريخ 13 أغسطس الجاري، وهي مجلة مصرية، وما هذه المجموعة إلا مثال عادي لكثير غيرها مما تنشره هذه المجلة وأمثالها، وتروِّج له من ألوان الفجور ومثيرات الفساد بلا رقيب من القانون، فتتناقله أيدي الشباب وعامة الناس وخاصتهم داخل البلاد وخارجها، فيسري أثرها السيئ المتلف في النفوس سريان السم القتال والداء الوبيل.
ومما يزيد الأمر وضوحًا أن ذلك الداء آخذٌ في الاستفحال كأثر سيئ من آثار الإباحية العصرية والتحلل الخلقي، والمادية النفعية التي جلبتها المدنية الغربية إلى حضارتنا الشرقية فأفسدت مقوماتها، وأذهبت معالمها الفاضلة.
ولما كان مثل هذه الصور الساقطة والاتجاهات الفاجرة معامل هدَّامة لأخلاق الأمة على سلامة بنائها، فضلاً عما في ذلك من مصادمة للدين الإسلامي وسائر الأديان والشرائع، وخرق الدستور بالتالي؛ إذ ينص دستور البلاد على أن دينها الرسمي الإسلام، وأبسط مبادئ الإسلام يتنافى مع هذا الفساد وإشاعته في الأمة والناس.
فإن الأمر يبدو أخطر مما يظن الكثير من المسئولين ومما يقدِّر المقدِّرون في هذا التيار الجارف الخطير.
ولئن تقدمت الشكوى وصيحات الاحتجاج والاستنكار من جانب ذوي الغيرة على الفضيلة والدين والمعنيين بالمحافظة على كيان الأفراد والأمة وسمعة البلاد في الأقطار العربية والعالم الإسلامي، الذي تعد مصر زعيمة له وقدوة يُقْتَدَى بها، فلقد بلغ الأمر مبلغًا لا يصح بحالٍ من الأحوال السكوت عليه والتهاون معه، ولا بد إذن من علاجٍ حاسمٍ ورقابة دقيقة لإنقاذ الأمة من هذه السموم التي تحقن بها في العروق على مرأى ومسمع من الحكام والمسئولين، وصيانة كيانها من هذا التدهور والتحلل باستصدار قانون أو استكمال تشريع.
ولا شك أن معاليَكم خيرٌ من يستطيع الضرب على أيدي مروِّجي هذه السموم والحد من هذا الفساد والخطر، وإنا لذلك منتظرون، واعملوا بقول الله تعالى ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ (الحج: 41).
كانت هذه بعض الخطابات التي حاول الإمام البنا التصدي للفساد الذي استشرى في المجتمع عن طريق الأزهر الشريف الذي اعتبره الحصن الحصين للإسلام ضد الإباحية والتنصير.
وقد كان المسلمون يتطلعون في كل شئونهم الدينية إلى الأستانة عاصمة الخلافة العثمانية، ويعقدون على حكومتها كل آمالهم من حيث الزعامة والرياسة، وظلت الحال على هذا الوضع إلى أن ألغى كمال أتاتورك الخلافة، وقلبوا نظام حكومتهم إلى حكومةٍ لا دينية، عندئذٍ تغيَّر موقف الأزهر ومصر تبعًا له تغيُّرًا كبيرًا، وتحوَّلت وجوه المسلمين شطر الأزهر، وغدت مصر لا مندوحة لها عن حمل راية زعامة الشعوب الإسلامية في العلوم والفنون والاجتماع، وأصبح واجبًا على الأزهر أن يقوم بمهمة المرشد الروحي لمسلمي العالم كافة؛ إجابةً لما عقدوه عليه من آمال، وما وضعوه في رجاله من ثقة، وزاد موقفه تغيُّرًا تطور أفكار الناس في أوروبا بعد الحرب العظمى، وتحوُّلهم إلى الناحية الروحية من البحوث، وتعرُّضهم لدراسة المعتقدات والديانات المختلفة بصورة أوسع مما كانت من قبل، واتجاههم إلى الأزهر في كل ما تتناوله بحوثهم في الناحية الإسلامية؛ ولذلك أولاه الإمام البنا والإخوان من الرعاية والاهتمام بأحواله ما لم يُوِلِ هيئة أخرى.
الإمام البنا يرد على مروِّجي الفتن بين الإخوان والأزهر
وقد اهتم الإخوان بأخبار وأحداث الأزهر؛ لأنهم نظروا إليه على أنه حامي الإسلام، وحائطٌ ضد حملات التبشير.
ولشدة اهتمام الإمام البنا بالأزهر وإصلاحه كان دائمًا يعمل على تنقية الأجواء بينه وبين الإخوان المسلمين، والرد على أصحاب القلوب المريضة الذين يحاولون نشر الشقاق بين الأزهر والإخوان.
وكتب الأستاذ البنا مقالاً تحت عنوان "إخوان وأزهريون"؛ حاول فيها تنقية الجو بين الأزهر والإخوان؛ ردَّ فيه على مروِّجي الفتن بين الهيئتين، جاء فيه:
"قصة الملك والوزير"
قالوا: إن ملكًا كان دائم الخلاف مع وزيره، وكان الوزير دائم الخلاف مع الملك، فأراد حكيمٌ أن يتدخَّل بينهما ليحسم مادة هذا الأمر بأن أحضر ورقةً على أحد وجهيها صورة من أجمل ما يتصوَّر الناس، وعلى الوجه الآخر صورة أخرى دميمة شوهاء، وعرض الأولى على الملك وأخفى الثانية، فأظهر الاستحسان، ثم عرض الثانية على الوزير وأخفى الأولى فأغرق في الاستهجان، واشتدَّ الجدل واحتدم الخلاف، فتقدَّم إليهما وأظهر لهما الوجهين معًا فسلَّم كلٌّ منهما برأي صاحبه، وانتهى بينهما عهد الخصومة والخلاف.
وكذلك الناس في كل شئونهم لو أنصف بعضهم بعضًا وأحاط كلٌّ منهم بما عند الآخرين ونظر إلى الأمر من كل وجوهه لا من زاوية واحدة لاستراحوا من كثير من عناء اللدد في الخصومة والمراء بغير الحق.
ومن هذا القبيل ما نشب أخيرًا بين بعض الكتاب الأزهريين والإخوانيين على صفحات الجرائد وأراد بعض ذوي الغايات استغلاله لخلق فتنة لا وجود لها، ولا خير فيها بين الأزهر المعمور وهيئة الإخوان.
فريق يرى أن الأزهر هو معقل الدين ومثابة المؤمنين والبقية الباقية من مواريثنا الخالدة ومفاخرنا المجيدة، وأن كل مهاجمة له أو عدوان على حقه أو انتقاص لأبنائه تعرُّضٌ لحصنٍ من أقوى حصون الإسلام يجب على كل مسلم أن يدفعه وأن يقف دونه؛ حتى تظل هذه الشعلة من هداية الله وضَّاحة السنا، باهرة النور والضياء.
والفريق الثاني يسلِّم بهذا المعنى ولا يجادل فيه، ولكنه ينظر إلى الأمر من زاوية أخرى؛ هي زاوية الرغبة الأكيدة التي تمليها الغيرة الشديدة في السير في مدارج الكمال والابتعاد عن كل معوِّق للأزهر وأبنائه عن أداء رسالتهم الجُلَّى، ومهمتهم السامية من إعلاء كلمة الله وحمل رسالة الإسلام إلى العالمين.
ولا شك أن الفريق الأول يشارك الثاني هذا الشعور، ويتمنَّى تحقيق هذه الآمال؛ فلا خلاف إذن بين الفريقين إلا في أن كلاًّ منهما ينظر من زاويته فذكر شيئًا وغابت عنه أشياء.
أما الإخوان المسلمون كهيئة إسلامية تعمل لخدمة هذا الدين وإعادة مجده وتحقيق دولته ودعوته، فإنهم يعلنون في كل مناسبة أن الأزهر هو العَلَم المرفوع للدلالة على هذا الدين الحنيف، وأن أبناءه من طلاب وعلماء وخريجين هم الجيش النظامي الرسمي لدعوة الإسلام، وأن الإخوان هم الكتائب المتطوعة في صفوف الجيش؛ تمده وتقويه، وتعاونه وتؤازره، ومحالٌ أن تخاصمه أو تعاديَه، وهم يذكرون جيدًا ما قاله أحد خصوم الإسلام من أن هناك دعائم ثلاثًا؛ إن ظلت قائمة فلا مطمع لأحد في القضاء على هذا الدين: القرآن، والكعبة، والأزهر، ولقد قامت دعوة الإخوان وما زالت تقوم على جهود نخبة ممتازة من أبناء الأزهر الأكرمين.
وإن أبناء الأزهر لأدق حسًّا وأطهر نفسًا وأزكى فؤادًا من أن تخدعهم أباطيل ذوي الأغراض الحزبية الذين يرون في الأزهر وفي الإخوان معًا قوة إسلامية تحول دون ما يشتهون، فهم يودون بجدع الأنف أن لو استطاعوا أن يضربوا بعضهم ببعض، ولن يستطيعوا بإذن الله.
أما من حيث الموضوع فإن للإخوان عدة مذكرات منذ عام 1354 هجرية؛ منها ما هو خاص بالأزهر فقط، ومنها ما يتناول فكرة توحيد مناهج التعليم يوم ظهرت هذه الفكرة وتبودلت فيها أحاديث بين فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي رحمه الله وبين معالي وزير المعارف محمد حسين هيكل باشا حينذاك، ولم تسفر هذه الأحاديث عن شيء، وسننشرها للذكرى والتاريخ في عددٍ قادم إن شاء الله.
وأمر الإصلاح الصحيح أَجَلُّ وأخطر من أن تتناوله الأقلام على صفحات الجرائد السيارة قبل التمحيص الدقيق والنظر الثاقب المحيط، والإخوان على استعداد دائمًا لتقديم كل مساعدة بالرأي أو العمل إذا طلب إليهم ذلك أو بالنصح والبيان إذا رأوا ما يدعو إليه، والدين النصيحة ﴿وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ (الأحزاب: من الآية 4)".
وعندما حدثت الأزمة التي بين مرشَّح الملك الشيخ محمد الأحمدي الظواهري شيخ معهد أسيوط، ومرشَّح وزارة الائتلاف (الوفد والأحرار الدستوريين) الشيخ محمد مصطفى المراغي على من يتولَّى منصب شيخ الجامع الأزهر عام 1927م، واستطاع الشيخ المراغي أن ينالها، غير أن الملك رفض المشروع الذي قدَّمه لتطوير الأزهر؛ مما دفعه إلى الاستقالة، وعلى إثرها عُيِّن الشيخ الظواهري الذي كان ينتهز كل فرصة لإظهار ولائه للملك بإقامة الحفلات وإلقاء الخطب في المناسبات الملكية؛ كأعياد الميلاد والشفاء من المرض ونحوها، حتى أعاد إلى الملك تبعية الأزهر، وجعل حقَّ تعيين شيخ الجامع ووكيله وشيوخ المذاهب والمعاهد ووكلائها والوظائف الكبيرة كلها بأمرٍ من الملك وحده، فسخط رجال الحركة الديمقراطية على الشيخ الظواهري، وشرع الشيخ الظواهري في قمع الأزهريين الذين يناصرون الحركة الديمقراطية، ومن جهةٍ أخرى عانت مصر في تلك الفترة من أعباء الأزمة المالية العالمية المعروفة، وحدَّت هذه الأزمة من قدرة الشيخ والحكومة على التوسعة على خريجي الأزهر في مجالات التوظيف ورفع المرتبات؛ مما أسخط الأزهريون عليه، فكان مما صنع أن فصل من الأزهر 72 من شيوخه وعلمائه، وكان منهم الشيخ إبراهيم اللقاني، والشيخ عبد الجليل عيسى، والشيخ شلتوت، والشيخ محمد عبد اللطيف دراز، والشيخ علي سرور الزنكلوني.
لذلك ما إن بدا في الأفق السياسي قرب انتهاء النظام القائم في أواخر وزارة عبد الفتاح يحيى حتى انفجر ما يسمَّى ثورة الأزهر على الظواهري، وفي 8 نوفمبر1934م قرَّر قسمٌ من طلبة الأزهر الإضراب عشرة أيام، ثم تابعه جميع طلاب الأزهر، واستمرُّوا في المظاهرات رغم فصله زعماء الطلاب فصلاً نهائيًّا؛ كان منهم الشيخ أحمد حسن الباقوري والشيخ محمد المدني، وتألَّبت على الشيخ الظواهري كل القوى الشعبية والحزبية ما عدا الملك الذي اضطر إلى قبول استقالته في 27 أبريل 1935م، وعاد المراغي شيخًا للأزهر للمرة الثانية، فأعاد على الفور المفصولين والمنقولين وغير ذلك من الإجراءات الجزئية.
ودعا الشيخ المراغي الشيخ أحمد حسن الباقوري وقدَّم إليه هدية منه "مصحف" تقديرًا منه لجهوده في إعادته إلى الأزهر.
وقد أرسل إليه فضيلة المرشد العام برسالة تهنئة تحت عنوان: "إلى فضيلة الأستاذ الأكبر.. الشيخ محمد مصطفى المراغي"، وهذا نصها: "نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد إمام الهادين وسيد المرسلين وقدوة العالمين العاملين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
فقد كانت أمنية فتحققت، وكان أمل مرجَّى فأدركه آملوه، وكان ليل طال بالسارين مداه فطلع عليهم فجره ساطعًا وضَّاح الجبين، وعند الصباح يحمد القوم السُّرى.
والآن وقد وكل الله إليكم رعاية أقرب طائفة من الأمة إلى الإسلام وحقوق الإسلام وتعاليم الإسلام وحياطة الإسلام، في عزة أبية جعلت القلوب ملتفة حولكم والآمال منوطة بكم، فإنا نتقدَّم إليكم بالتذكرة، والذكرى تنفع المؤمنين، وندلي بالنصيحة، والنصيحة ركن من أركان الدين، ونهنئ المنصب بكم ونهنئكم به تهنئةً لا يُقصد بها إلا وجه الله، في طيها تقدير لعظم التبعة وجلال المهمة، وأمل في قوة النفس ومضاء العزمة، وإشفاق مما ينطوي تحت أجنحة الحوادث المدلهمة، تولى الله حياتكم وسدد في الإصلاح خطواتكم، ولسنا نفيض في بيان واجب أنتم أعرف الناس به؛ فإن الحاجة إلى الفعال لا إلى الأقوال، وإنما نجمل فنقول:
إن الشرق الناهض يتجه بنهضته إلى أخطر النواحي على كيانه القومي والروحي، وإن الأزهر وحده هو الذي يستطيع أن يحوِّل هذا الوجهة إلى أفضل الاتجاهات، إذا سلمت عقيدة أبنائه وصحت أفكارهم وقويت نفوسهم، وأن المسئول الأول عن ذلك شيخ الأزهر، وكل راعٍ مسئول عن رعيته، وأن الأزهريين والعالم الإسلامي من بعدهم يترقَّب من الأستاذ الأكبر أن يقود الأزهر حثيثًا إلى هذه الغاية، ولَرَقابة الله أدق وأعظم، والله أحق أن تخشاه.
فإلى الأمام، والله ولي توفيقكم، وقلوب المسلمين تؤيدكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
وعندما توفي الشيخ محمد مصطفى المراغي نعت مجلة الإخوان للأمة الإسلامية وفاة الشيخ المراغي تحت عنوان: "فقيد الأزهر والإسلام في ركب الموت"، موضحةً أن هذا الرجل الذي كان ملء الأزهر وملء الحياة العامة، والذي طالما سحر النفوس بهدوء صوته، وبهرها بواسع معرفته، الرجل لم يغلب على نفسه، ولم يهزم في كرامته يومًا ما، كانت كبرياء الإيمان بالله وبالنفس أظهر ما في خلاله؛ مما يجعل الإحساس بالمصاب فيه كبيرًا، فكان زعماء الحياة المدنية يلمسون في شخصيته رأسًا مرتفعة، وهامةً سامقةً، علم المتكبرون من أهل الأرض كيف يعنون لكبرياء أهل السماء، فما استطاع أحد منهم أن يجرَّه في ركابه، ولا أن يقفه ببابه، وتلك حسنة للشيخ الأكبر ترجح بالكثير، وينبغي ألا تغيب عن بال العلماء المسلمين الباقين بعد على ظهر الأرض.
إن الشيخ المراغي كان شخصية إسلامية عامة فوق أنه شيخ للأزهر، بل إن موقعه من الشئون الإسلامية والسياسية الكبرى كان كثيرًا ما يطغى على حدود عمله الإداري في الأزهر، وقد أغضب ذلك الكثير من رجال السياسة، وألَّب الأزهريين أحيانًا عليه، ومع ذلك فقد الأزهر والأزهريون رجلاً من أوسع رجال الإسلام أفقًا، وأغزرهم علمًا، وأبصرهم بمسائل الدين والسياسة والتشريع والفلسفة، وأقدرهم على التوفيق بين هذه الأمور كلها.
إن بعض الهيئات السياسية تريد أن تفهم منصب مشيخة الأزهر على أنه ناظر مدرسة أو مدير جامعة، وهذا خطأ؛ فإن حالة المسلمين المدنية والسياسية، بل والعلمية والاجتماعية، تعطي هذا المنصب فضل سلطانا ماديا وأدبيا لا ينبغي تجاهله، وليس من الحكمة أن ننقص منه، وقد استمسك الشيخ المراغي بحقوق منصبه المرسومة والمفهومة كلها، فرحمة الله عليه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
لقد أكد الإخوان احترامهم للأزهر ودوره في إصلاح الأمة ونشر الإسلام والتصدي للتبشير كثيرًا، فكتبت صحفهم أن الإخوان لا يرون أنفسهم ولا رسالتهم شيئًا غير الأزهر ورسالة الأزهر، وأنهم يهتمون بشئونه اهتمامهم بشئون مكتب الإرشاد العام وشعب الإخوان وفروعهم.
ولذلك فالإخوان يودون للأزهر أن يؤديَ دوره الريادي، وأن يشعر أبناؤه بسمو رسالته، تلك الرسالة التي لم تَرَ الدنيا رسالةً أجمل منها، ليقودوا العالم إلى الخير، وما في ذلك مبالغة ولا إغراق، وللإخوان في الأزهر كتائب مجهَّزة وجنود عاملون مؤيدون وفلذات أكباد هي من قلب الإخوان يقومون بهذه الرسالة.
ولعناية الإمام البنا والإخوان بالأزهر كان دائمًا يرسل بخطابات إلى شيخ الأزهر تتضمن بعض إصلاحات شئون الأزهر؛ فقد أرسل برسالةٍ في الإصلاح الأزهري تحت عنوان صورة المذكرة التي رفعها فضيلة الأستاذ المرشد العامللإخوان المسلمين إلى فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر؛ قال له فيها:
"بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..
فأشرف بأن أرفع إلى فضيلتكم مقترحات بشأن الإصلاح الأزهري الذي عقدت عليكم الآمال في إنفاذه بطريقةٍ تحفظ للأزهر صبغته وتعيد إلى الإسلام مجده، وعلم الله أنه ما حدا بي إلى ذلك إلا اعتقادي أن من واجب كل مسلم أن يتقدَّم بالنصح في هذا الأمر الخطير الذي يؤثر أبلغ الأثر في مستقبل الشرق والإسلام، والله أسأل أن يسدِّد في الإصلاح خطاكم، وأن يؤيد الإسلام بجهودكم، وأن ينهض مصر ومن ورائها العالم الإسلامي على أيديكم، وهو ولي التوفيق".