مقدمة

جماعة الإخوان المسلمين جماعة تفهم الإسلام بكلية وشمولية ولا تحصره في جانب من جنبات الحياة . وتتعاطى مع الأدبيات المجتمعية بالمعايير الأخلاقية والضوابط الشرعية العامة .

والفنون –والغناء والموسيقي كنموذج- صارت ثقافة لدي كثير من المجتمعات تقاس بها حضارتها وتفوقها . وصارت للفنون علوم قائمة خاصة بها تتضمن قواعدها وأسسها وسبلها وما أشبه .

والإخوان المسلمون لم يروا ضيرا من الفنون المنضبطة بضوابط الشريعة والمسورة بالقوانين الأخلاقية العامة –وهم في ذلك مستمسكون بمنهج سلف الأمة- ، بل وكان لجماعة الإخوان المسلمين قبل عصور التضييق فرقها الموسيقية والمسرحية والغنائية .

وهنا في هذه الوريقات نستعرض مذهب الإخوان المسلمين وموقفهم من قضية الغناء والموسيقي والفنون عموما علي لسان مرشدي الجماعة وعلماءها ومُنظّريها .


موقف الأستاذ المرشد المربي الفاضل عمر التلمساني

يقول الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح في مذكراته:

 

لقد كان للأستاذ عمر التلمساني تأثير كبير علي جيلنا وعليّ شخصيا خاصة في بداية الاتصال بالإخوان والنقاش بيننا حول الانضمام للجماعة ، وكان للأستاذ عمر أثر كبير علينا بشجاعته وصدقه فلم يكن يعرف المناورة أو الالتفاف في حديثه ، بل كان واضحا لا يراوغ حتى ولو أثار كلامه رفض الآخرين .. سُئل ذات مرة في ندوة استضفناه فيها في الجامعة علم 1977 عن حكم الاستماع للموسيقي ، وكانت الأجواء كلها أجواء تشدد وتحريم فإذا به لا يكتفي بأن يقول مثلا إن حلالها حلال وحرامها حرام ، خاصة أن جميع الحاضرين كانوا يرون حرمة الاستماع للغناء والموسيقي مطلقا ، وإنما قال بصراحة بعد أن بين الموقف الفقهي الذي يذهب إليه والقائل بالجواز :"وأنا أستمع للموسيقي وكنت في الماضي أعزف علي العود ولكن انشغالي بأمر الدعوة وما فيه حال البلاد هو الذي منعني من الاستمرار في الاستماع إلي الموسيقي"..(1)

وهناك سؤال مهم جدًّا يطرح نفسه: هل الفن الذي يريده الإخوان هو فن يقصي كل أنواع الفنون الموجودة (غناء- سينما- مسرح- فن تشكيلي- وغيرها من أنواع الفنون) أم هو فن يرقى بكل أنواع الفنون، ويهذبها اعتمادًا على القواعد الأساسية لهذه الفنون وانطلاقًا من فكر الإخوان المسلمين في إصلاح الدنيا بالدين ؟

من الطبيعي جدًّا وجود فجوة كبيرة بين المثقفين والفنانين العاملين في الساحة الفنية والإخوان بالنسبة لطبيعة الفن؛ نظرًا لهذه الظروف التي كانت مصر تعيشها في ظل النظام الذي اعتدنا منه أن يخنق أي فن ولا يريد لأي مبدع أن يظهر إلا بالمسموح بعد عرضه رقابيًّا وأمنيًّا على هذا النظام.
وبما أن الإخوان المسلمين لهم مرجعيتهم الإسلامية التي ليست ضد الإبداع أو إغلاق العقول أو كما يقول البعض إنكم تدعون إلى حياة تحرم فيها البسمة على كل فم، والبهجة على أي قلب، والزينة في أي موقع، والإحساس بالجمال في أي صورة (الدكتور القرضاوي في كتابه بينات الحل الإسلامي) نرجع معًا إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة لتوضيح هذه الفكرة.
والكلام على لسان الدكتور القرضاوي يقول: "إن هذا الكلام لا أساسَ له من دين الله، وإذا كان روح الفن هو شعور بالجمال، والتعبير عنه، فالإسلام أعظم دين- أو مذهب- غرس حب الجمال والشعور به في أعماق كل مسلم.
وقارئ القرآن يلمس هذه الحقيقة بوضوح وجلاء وتوكيد، فهو يريد من المؤمنين أن ينظر إلى الجمال مبثوثًا في الكون كله، في لوحات ربانية رائعة الحسن، أبدعتها يد الخالق المصور، الذي أحسن خلق كل شيء، وأتقن تصوير كل شيء: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ (السجدة: من الآية 7)، ﴿مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ﴾ (الملك: من الآية 3)، ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (النمل: من الآية 88).
ثم نرى القرآن الكريم يلفت الأنظار، وينبه العقول والقلوب، إلى الجمال الخاص لأجزاء الكون ومفرداته .
إن القرآن بهذا كله، وبغيره، يريد أن يوقظ الحس الإنساني، حتى‌ يشعر بالجمال الذي أودعه الله فينا وفي الطبيعة من فوقنا، ومن تحتنا، ومن حولنا. وأن نملأ عيوننا وقلوبنا من هذه البهجة، وهذا الحُسن المبثوث في الكون كله.
وبعض الحضارات تغفل هذا الجانب وتوجه أكبر همها إلى محاولات الإنسان إلى نقل جمال الطبيعة على حجر أو ورق، أو غير ذلك، فهو يرى السماء أو البحر أو الجبل، أو الأنعام، ولا يلتفت إلى ما فيها من سر الجمال الإلهي، وإنما يلتفت إليها حين ينتقل إلى لوحة، أو صورة مشكلة، فليت شعري أيهما أهم وأقوى تأثيرًا في النفس البشرية: الأصل الطبيعي أم الصورة المقلدة؟
إن الإسلام يحيي الشعور بالجمال، ويؤيد الفن الجميل، ولكن بشروط معينة، بحيث يصلح ولا يفسد، ويبني ولا يهدم.
وقد أحيا الإسلام ألوانًا من الفنون، ازدهرت في حضارته وتميزت بها عن الحضارات الأخرى مثل فن الخط والزخرفة والنقوش: في المساجد، والمنازل، والسيوف، والأواني النحاسية والخشبية والخزفية وغيرها".
كما يوضح أيضًا فكرة الارتقاء بالفن وليس إقصاءه فيقول: "كما اهتم بالفنون الأدبية التي نبغ فيها العرب من قديم، وأضافوا إليها ما تعلموه من الأمم الأخرى، وجاء القرآن يمثل قمة الفن الأدبي، وقراءة القرآن وسماعه عند مَن عقل وتأمل إنما هما غذاء للوجدان والروح لا يعدله ولا يدانيه غذاء، وليس هذا لمضمونه ومحتواه فقط، بل لطريقة أدائه أيضًا، وما يصحبها من ترتيل وتجويد وتحبير تستمتع به الآذان، وتطرب له القلوب، وخصوصًا إذا تلاه قارئ حسن الصوت، ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم لأبي موسى: "لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود".
فالفن بقواعده هو فن واحد ليس فيه أحزاب أو جماعات، ولكن الاختلاف في التطبيق بين فكر وفكر.
فمن القواعد الأساسية مثلاً لغناء المقامات الموسيقية المتعارف عليها أمثال (مقام الصبا والنهوند والحجاز والكرد وغيرها) قواعد أساسية لا يستطيع الإخوان مثلاً عمل مقامات جديدة حتى يكونوا قد جاءوا بفن جديد يخالف فن الأجداد .
فالهدف الأسمى للإخوان من الفن (يصلح ولا يفسد، ويبني ولا يهدم) شعار يصنع شباب يستطيع حمل أمانة هذا الوطن.
وقد يظن البعض أن الإخوان المسلمين قد جعلوا بينهم وبين الفنانين والعاملين في الحقل الفني جدارًا فولاذيًّا لا ينفذ من فنهم أي شيء ولا يسمعون عنهم ولا منهم ولكن وبالرجوع إلى بداية الجماعة في أيام الإمام حسن البنا رحمة الله عليه تتضح الصورة.
كوَّن البنا علاقةً بالفنانين الذين تيسَّر له الوصول إليهم، فقد كان يتعامل مع الفنانين بروح أخرى غير ما كان يتعامل بها معظم إسلاميِّي عصره، من روح المقاطعة وعدم إقامة أي علاقة معهم، ولا حتى الحرص على السلام عليهم، بل السخرية أحيانًا والتنقُّص من امتهانهم للتمثيل، على عكس البنا رحمه الله، فقد أقام البنا علاقاتٍ مع الفنَّانين، تركت أثرًا طيبًا عن دعوة الإخوان في نفوسهم، سواءٌ كانت العلاقة بلقاءٍ عابرٍ لا يفوته فيه غرسُ معنًى من معاني الإسلام الحسنة، أو بإقامة علاقة توادّ وتودُّد معه، أو بظهور الدعوة أمامه بمظهر لا يدعوه للريبة من حملتها.. أذكر من هؤلاء الفنانين أنور وجدي.

أنور وجدي، الذي كان له صيتٌ ذائعٌ في فترة الأربعينيات من القرن العشرين، والذي كان يلقَّب بفتى الشاشة، وله جمهورُه المتابع لفنه، يقول الدكتور محمود عساف:

"في يوم من أيام صيف عام 1945م وكان الجوُّ صحوًا، ونسمة خفيفة تداعب الشجر في ميدان الحلمية الجديدة، ذهبت إلى الأستاذ الإمام كعادتي كل يوم أتلقَّى تعليماته فيما يتصل بالمعلومات، وكان في ذلك الوقت غير مشغول بضيوف أو أعمال لها صفة الاستعجال، قال لي: "قم بنا نذهب إلى البنك العربي لنفتح حسابًا للإخوان هناك"؛ إذ لم يكن للإخوان حساب بأي بنك حتى ذلك الوقت.
توجهنا إلى مكتب رئيس البنك وكان يتبع سياسة الباب المفتوح للعملاء، ويستطيع أي عميل أن يدخل إليه بغير استئذان، دخلنا وألقينا السلام، وجلسنا على أريكة مواجهة للمكتب، وكان هناك رجل جالس على مقعد مجاور للمكتب وظهره منحرف نحوَنا، وكان يتحدث مع شومان بك (رئيس البنك) وفي انتظارنا صامتين إلى أن تنتهي تلك المقابلة، فاجأنا شومان بك بقوله: "أهلاً وسهلاً" بصوتٍ عالٍ جعل الجالس إلى مكتبه ينظر نحوَنا، وإذ بذلك الجالس ينتفض واقفًا ويهتف: "حسن بك؟! أهلاً وسهلاً يا حسن بك، ثم تقدم نحوَنا مصافحًا الإمام ثم إياي، ثم جلس على مقعد مجاور للإمام وقال: "أنا أنور وجدي.. المشخصاتي.. يعني الممثل.. طبعًا أنتم تنظرون إلينا ككَفَرة نرتكب المعاصي كل يوم، في حين أني والله أقرأ القرآن وأصلي كلما كان ذلك مستطاعًا".
كانت مفاجأةً لي، فلم نكن ننادي الإمام أو نشير إليه إلا بقولنا: فضيلة الأستاذ.. أما حسن بك، فقد كانت نشازًا.
قال له الإمام: يا أخ أنور أنتم لستم كفرة ولا عصاة بحكم عملكم، فالتمثيل ليس حرامًا في حد ذاته، ولكنه حرامٌ إذا كان موضوعه حرامًا، وأنت وإخوانك الممثّلون تستطيعون أن تقدموا خدمةً عظمى للإسلام إذا عملتم على إنتاج أفلام أو مسرحيات تدعو إلى مكارم الأخلاق، بل إنكم تكونون أكثر قدرةً على نشر الدعوة الإسلامية من كثير من الوعَّاظ وأئمة المساجد.
إني أرحِّب بك وآمل أن تحضر لزيارتنا بدار الإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة لنَتَبَادَلَ الرأيَ حول ما يمكن أن تُسهموا به في نشر الفضيلة والدعوة إلى الله" (انظر: مع الإمام الشهيد حسن البنا للدكتور محمود عساف ص 39- 41) عندما سمع أنور وجدي هذا الردَّ الجميل من الإمام البنا بكى أنور وجدي وقبَّل يده ورأسه (انظر: حوار مع الحاج [بمحمد نجيب راغب]] عن ذكرياته عن البنا المنشورة على موقع (إخوان أون لاين. نت) بتاريخ 14/8/2006م..) بعدها رأينا لأنور وجدي (ليلى بنت الفقراء) ... (انظر: مع الإمام الشهيد حسن البنا ص 41).

أخيرًا يتضح لنا أن الإخوان المسلمين قد جعلوا فكرة المشاركة والرقي هي الأساس في علاقتهم بالفن بشكل عام والفنانين بشكل خاص .

يقول أحد الإخوان: كنا معتقلين في سجن في القاهرة وقد جاءت الأوامر بالترحيل إلى الواحات وقامت إدارة السجن بالتحضير للذاهب إلى هناك، وكان الطبيعي أن تكون وسيلة المواصلات القطار وبينما نحن في محطة مصر وبين زحام المحطة بالركاب والمسافرين إذ بنا نستمع إلى صوت أم كلثوم يصدر من أحد الأكشاك الموجودة بالمحطة وهي تقول (كله في حبك يهون) مقطع من أغنية "أنت الحب"، كلمات الشاعر أحمد رامي، وتلحين الموسيقار محمد عبد الوهاب، وإذ بكل الإخوان الموجودين في هذا الموقف يجهشون بالبكاء فتعجَّب الحاضرون من الموقف (إزاي الإخوان بيسمعوا أم كلثوم وبيعيطوا كمان)، وطبعًا البكاء هنا ليس على حب شخص ولكن على حب مالك الأرض والسماء ..(2)


موقف الإخوان من الفنون في عيون المخالفين

وموقف الإخوان المنضبط السابق لم يرق للكثيرين ممن يريدونها همجية جنسية ، وانحطاطة حيوانية ، فعابوا علي الإخوان حصرهم للفن بما انضبط مع الأخلاق الإسلامية . وزعموا أن الفن لا ضوابط له ولا حدود وأنه من العلوم المعيارية التي تنهض بالمشاعر وترتقي بالأخلاق والأحاسيس وهو من علوم الجمال . وعلي الرغم من أن هذه النظرة لا تستحق الرد عليها إلا أننا ينبغي أن نقف معها لنعرف كيف يفكر هؤلاء وكيف يحاربوننا وكيف ينظرون إلي ذلك المنهج الذي نعتنقه ؟!

يقول الكاتب عبد الرحيم علي –المعروف بعدائه الأيدلوجي لجماعة الإخوان المسلمين:

تلقي فضيلة الإمام الأكبر المرحوم الشيخ محمود شلتوت رسالة من شاب‏,‏ يقول فيها‏:‏ إنه يهوي الموسيقي منذ نعومة أظفاره‏,‏ وأنه يدرسها ويجتهد في تعلمها‏,‏ وقد فاجأه أحد أصدقائه بأنها حرام‏;‏ لأنها لهو يصرف عن الصلاة وعبادة الله‏,‏ وكل لهو حرام‏,‏ فقال لصديقه إني أصلي الصلوات الخمس في أوقاتها وأعبد الله تماما‏,‏ وأذهب إلي النادي في أوقات الفراغ لأسري عن نفسي عناء العمل نهارا والمذاكرة ليلا‏,‏ فلم يقتنع صاحبه بذلك‏,‏ وأصر علي أن الموسيقي حرام‏,‏ وأخيرا اتجها إلي التحكيم‏,‏ وبعثا إلي الشيخ شلتوت هذه الرسالة‏,‏ ملتمسين بيان الحكم الشرعي في الموضوع‏.‏

وقد أفتي الإمام الأكبر‏-‏ رحمة الله عليه‏-‏ في بيان موقف الإسلام من الغناء والموسيقي في كتابه الفذ‏‏ "الفتاوي‏" (‏الطبعة الرابعة عشر‏-‏ دار الشروق‏-1987),‏ ويضيق المقام هنا عن العرض التفصيلي الشامل لرؤيته‏;‏ ولذلك نقنع بالتركيز علي بعض النقاط المهمة المضيئة التي وردت في فتواه‏:‏

‏:‏ موقف الشاب في تعلم الموسيقي‏-‏ مع حرصه الشديد علي أداء الصلوات الخمس في أوقاتها وعلي أعماله المكلف بها‏-‏ موقف كما قلنا نابع من الغريزة التي حكمها العقل بشرع الله وحكمه‏,‏ فنزلت علي إرادته‏,‏ وهذا هو أسمي ما تطلبه الشرائع السماوية من الناس في هذه الحياة‏.‏

‏:‏ وقد قرأت في هذا الموضوع لأحد فقهاء القرن الحادي عشر المعروفين بالورع والتقوي رسالة هي‏:'‏ إيضاح الدلالات في سماع الآلات‏'‏ للشيخ عبد الغني النابلسي الحنفي‏,‏ قرر أن الأحاديث التي استدل بها القائلون بالتحريم‏-‏ علي فرض صحتها‏-‏ مقيدة بذكر الملاهي‏,‏ وبذكر الخمر والقينات‏,‏ والفسوق‏,‏ والفجور‏,‏ ولا يكاد حديث يخلو من ذلك‏.‏ وعليه كان الحكم عنده في سماع الأصوات والآلات المطربة‏,‏ أنه إذا اقترن بشيء من المحرمات‏,‏ أو اتخذ وسيلة للمحرمات‏,‏ أو أوقع في المحرمات كان حراما‏,‏ وأنه إذا سلم من كل ذلك كان مباحا في حضوره وسماعه وتعلمه‏.‏

‏:‏ وكان الشيخ حسن العطار‏-‏ شيخ الأزهر في القرن الثالث عشر الهجري‏-‏ ذا ولع شديد بالسماع وعلي معرفة تامة بأصول الدين‏,‏ ومن كلماته في بعض مؤلفاته‏:'‏ من لم يتأثر برقيق الأشعار‏,‏ تتلي بلسان الأوتار‏,‏ علي شطوط الأنهار‏,‏ في ظلال الأشجار‏,‏ فذلك جلف الطبع حمار‏'.‏

ويصل الشيخ الجليل إلي أن الأصل في السماع الحل‏,‏ والحرمة عارضة‏.‏ ويعقب علي المتشنجين المتزمتين ممن يحرمون الغناء والموسيقي بالقول‏:‏ وإذن فسماع الآلات‏,‏ ذات النغمات أو الأصوات الجميلة‏,‏ لا يمكن أن يحرم باعتباره صوت آلة‏,‏ أو صوت إنسان‏,‏ أو صوت حيوان‏,‏ وإنما يحرم إذا استعين به علي محرم‏,‏ أو اتخذ وسيلة إلي محرم‏,‏ أو ألهي عن واجب‏.‏ وهكذا يجب أن يعلم الناس حكم الله في مثل هذه الشئون‏.‏ ونرجو بعد ذلك ألا نسمع القول يلقي جزافا في التحليل والتحريم‏,‏ فإن تحريم ما لم يحرمه الله أو تحليل ما حرمه الله كليهما افتراء وقول علي الله بغير علم‏.‏
ولم يكن الشيخ محمود شلتوت وحده من انفرد بمثل هذا الرأي حول موقف الإسلام من الغناء والموسيقي‏,‏ فهناك قائمة طويلة من القامات العلمية المرموقة في ساحة الفكر الإسلامي تنحو نحوه‏,‏ وللمرحوم الشيخ محمد الغزالي كثير من الكتابات في هذا المجال‏.‏
ولقد تلقت مجلة الدعوة‏ لسان حال جماعة الإخوان المسلمون في إصدارها الثاني رسائل مماثلة لتلك الرسالة التي تلقاها الشيخ الجليل محمود شلتوت‏,‏ لكن الموقف الذي اتخذه الإخوان المسلمون مختلف‏,‏ واللغة مغايرة‏,‏ والتحريم قاطع كأنهم يسعون لتحريم الحياة‏,‏ ومصادرة كل ما فيها من بهجة وسعي إنساني مشروع إلي السرور والمتعة‏.‏ ولا يقتصر الأمر علي الموسيقي والغناء وحدهما بطبيعة الحال‏,‏ فالتحريم يمتد إلي كافة أشكال الفنون‏,‏ قديمها وحديثها‏,‏ ولتكن البداية مع الموسيقي والغناء‏.‏


كراهية مزدوجة للمرأة والغناء

في العدد رقم‏(12),‏ سأل سائل حول رأي الإسلام في غناء المرأة ؟‏.‏ وجاءت الإجابة علي النحو التالي‏:‏

‏:كان ومازال صوت المرأة من المفاتن التي تجذب الرجل وتشد انتباهه‏,‏ وتثير غرائزه‏,‏ وللصوت عشاق يذهب بهم في متاهات الخيال والضلال أكثر من رؤية الجسم وملامح الجمال‏,‏ والأذن تعشق قبل العين أحيانا‏,‏ ولهذا نجد أن خالق الذكر والأنثي يقول لنساء النبي صلي الله عليه وسلم‏'‏ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا‏'.‏

فكل فعل يؤدي إلي طمع الذي في قلبه مرض يعتبر حراما سدا للذرائع ولو كان هذا الفعل في حد ذاته مندوبا أو واجبا‏,‏ إذ يحرم علي المرأة أن تصلي أمام الرجل الأجنبي‏,‏ وأن تسافر للحج إذا لم تجد محرما‏,‏ كما يحرم عليها التثني والتكسر في القول‏,‏ ولا مجال للقول بأن صوت المرأة ليس بعورة‏-‏ كما قال البعض‏-‏ فالعلماء يجمعون علي حرمته لو أطمع الذي في قلبه مرض‏,‏ ولا يخلو مجتمع السامعين من هذا الصنف‏,‏ أن الحكيم الخبير الذي يعلم وساوس النفس وما تخفي الصدور نهي النساء أن يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وليس ضرب الأرجل وصوت الخلاخيل أشد تأثيرا علي قلب الرجال من الغناء‏.‏
الإجابة تحمل موقفا معاديا متعنتا تجاه المرأة والغناء معا‏,‏ ولا يتورع صاحب الفتوي عن المبالغة المتطرفة في استخدام المفردات اللغوية‏,‏ والهدف هو شحن نفوس القارئين بالرفض والاشمئزاز‏,‏ فكأنها حرب لا هوادة فيها ولا مجال للاعتدال حيالها‏:‏ وللصوت عشاق يذهب بهم في متاهات الخيال والضلال أكثر من رؤية الجسم وملامح الجمال‏.‏
هل يعقل ويستساغ أن يكون الصوت أكثر ضراوة وخطورة من رؤية الجسم؟‏.‏ وإذا كان الأمر كذلك عند قلة من المنحرفين الأقرب إلي المرضي‏,‏ فهل يجوز أن تقاس عليهم القاعدة العامة من المسلمين‏,‏ ويستخرج بناء عليه حكم عام ملزم إلي يوم الدين؟ إن الخلط متعمد بين الإبداع الفني الغنائي النابع من موهبة إلهية يختص بها الله سبحانه وتعالي بعض عباده من الرجال والنساء‏,‏ وبين الإغراء المثير المسف المصنوع عمدا للتلاعب بالعواطف وإثارة الشهوات‏,‏ ومثل هذا الصوت الشيطاني لا يتحتم أن يكون غنائيا بالضرورة‏.‏
التحريم‏,‏ سد للذرائع‏,‏ وهو السبيل الميسور التي لا تكلف جهدا ولا تستوجب علما‏,‏ وتسفيه المخالفين لا يعتمد علي حجة أو منطق مقنع‏,‏ فالعلماء عند صاحب الفتوي يجمعون علي التحريم‏,‏ ومن يحلل الغناء فهو‏-‏ علي الأقل‏-‏ ليس عالما‏,‏ وقد تطوله اتهامات أقسي وأشد‏!‏
هكذا يفتي الشيخ محمد عبد الله الخطيب مفتي الجماعة‏,‏ بتحريم كل ما تغنيه النساء‏,‏ وكأن شهيرات المغنيات في العصور الإسلامية المختلفة لا وجود لهن‏,‏ أو كأن الخلفاء والفقهاء والعلماء وعوام المسلمين لا علم لهم بأمرهن‏!‏ ولا شك أن الملايين من المسلمين في مصر‏,‏ والعالمين‏,‏ العربي والإسلامي‏,‏ ممن يستمعون ويستمتعون بالفن الراقي الجميل الذي تقدمه فنانات محترمات مثل أم كلثوم وفيروز‏,‏ وعشرات غيرهن‏,‏ سيشعرون بالتمزق والحيرة جراء فتوي تحريم مثل هذا الفن الجميل الذي يهذب المشاعر الإنسانية ويسمو بالروح إلي آفاق رحيبة‏,‏ فضلا عن أن كلماته رفيعة المستوي لا يمكن أن تثير شهوة الأسوياء من البشر‏.‏ التحريم بالطبع يطول أغنيات مثل‏'‏ حديث الروح‏'‏ و‏'‏سلوا قلبي‏'‏ و‏'‏ ريم علي القاع‏'‏ و‏'‏ ولد الهدي‏',‏ فأي حديث هذا الذي يقولون؟‏!.‏
هذا النمط في التفكير المنطقي لا يعني فقهاء الإخوان وشيوخهم في شيء‏,‏ فبعد عددين من العدد السابق الإشارة إليه‏,‏ في العدد رقم‏14,‏ يتكرر السؤال دون أن يقتصر علي النساء وحدهن‏.‏ إذ يسأل محمد عبد الرءوف‏,‏ من الزقازيق‏-‏ شرقية‏:‏ هل من الممكن أن نعرف رأيكم في الغناء؟

وتأتي الإجابة علي النحو التالي‏:‏

الاستماع إلي الغناء مختلف فيه بين الجواز والمنع‏,‏ غير أنهم‏ (‏لا نعرف من هم المقصودين بضمير أنهم‏)‏ اتفقوا علي أمور منها أن الغناء إذا خرج عن المأذون فيه إلي ما هو محرم من الألفاظ والمعاني المبتذلة‏,‏ أو أدي أداء مخنثا يبعث في نفوس السامعين الإثارة المحرمة أو يتناول أوصافا وعبارات‏'‏ مكشوفة‏'‏ فإنه يحرم سماعه قولا واحدا‏..‏ وإن كان بريئا مما تقدم جاز الاستماع إليه بشرط ألا يفوت علي السامع واجبا دينيا أو يلهيه عما هو ألزم لحياته من الأعمال التي تؤثر في مستقبله أو يكون لها أثر سيئ علي الأعمال المنوطة به سواء كان يؤديها لحساب غيره أو لنفسه‏,‏ ومن توجيهات الإسلام عدم التمادي في السهر ليلا بعد صلاة العشاء‏;‏ لأن ذلك يؤدي إلي تعطيل صلاة الفجر عن أدائها في وقتها‏,‏ كما يجعل الإنسان عاجزا عن أداء واجباته الوظيفية‏,‏ إما بالتكاسل عنها إذا استيقظ مبكرا ولم يرح جسمه الراحة الكافية‏,‏ أو بالتأخير في مزاولتها إذا هو نام‏,‏ ونحيل سيادتكم إلي ضرورة العودة إلي ما قالته لجنة الإفتاء في هذا الموضوع في عدد سابق خاص برأي الشرع في صوت المرأة وغنائها‏.‏
البداية توحي بأن القضية ليست محسومة‏,‏ ولكنها بداية خادعة‏,‏ فالشروط الصارمة تقيد الغناء بما يجعله فعلا محرما بالضرورة‏.‏ من الذي يحدد المحرم من الألفاظ والمعاني المبتذلة‏,‏ وكيف يحددها‏,‏ ووفق أي معايير؟ هل يمكن الاتفاق علي تعريف شامل جامع لمفهومي الأداء المخنث والإثارة المحرمة؟ ما الذي يقصده صاحب الفتوي بالعبارات المكشوفة؟
الشروط المحددة أقرب إلي العبارات الفضفاضة التي يسهل تحريم كل ما يتم غناؤه من خلالها‏,‏ والدليل القريب أن أحد المطربين الذين تعلموا الفتوي حديثا‏,‏ صرح بأن أغنية‏'‏ أنا بكره إسرائيل‏'‏ حرام ولا يجوز غناؤها‏!.‏ لماذا لأن‏'‏ إسرائيل‏'‏ نبي لا يجوز للمسلم أن يكرهه‏,‏ والأمر هنا لا يخرج عن احتمالين‏,‏ إما أن المطرب الشيخ‏'‏ محدث الفتاوي‏'‏ يجهل أن إسرائيل دولة خضنا معها حروبا طويلة وما زالت تحتل جزءا غاليا وعزيزا من الأرض العربية‏,‏ وإما أن الحرب ضد إسرائيل‏-‏ وفق رؤية المطرب الشيخ‏-‏ حرام أيضا‏;‏ لأن‏'‏ إسرائيل‏'‏ نبي لا يجوز أن يحاربه المسلمون؟‏!.‏
طريق التشدد والتعنت لانهاية له‏,‏ والذين قد تخدعهم كلمة‏'‏ يجوز‏',‏ الواردة علي استحياء في مضمون الفتوي‏,‏ سيجدون بعدها قائمة‏,‏ وهي قيود وشروط تتسم بالكثير من العمومية‏.‏ مبرر ومفهوم ألا يؤدي الاستماع للغناء إلي إلهاء الإنسان المسلم عن العبادة والعمل‏,‏ لكن غير المفهوم هو تجنيب التأثير السيئ علي مستقبله‏!.‏ ولا أحد يعلم من أين أتي الشيخ بمقولته أن التوجه الإسلامي يحض علي عدم السهر إلي ما بعد العشاء‏,‏ والمؤكد أن هذا التوجيه يعني عدم احتياج الإنسان المسلم إلي الموسيقي والغناء والفن عموما‏,‏ فالحياة التي ينشدها الإخوان ليست إلا عبادة وعملا‏,‏ ولا متسع من الوقت لكي يرفه الإنسان عن نفسه‏,‏ علي الرغم من الأمر النبوي الصريح بالترويح عن النفس‏.‏

التصوير بعد الغناء

‏‏ ويأبي الإخوان المسلمون إلا أن يلتفتوا إلي فن التصوير‏,‏ بعد أن انتهوا من أمر الغناء والموسيقي‏!.‏

ففي العدد رقم‏'48',‏ وفي ركن‏'‏ الردود الخاصة‏'‏ في صفحة الإفتاء‏,‏ يقول الشيخ محمد عبد الله الخطيب للأخ محمد سالم من الغربية‏:‏

الصور الفوتوغرافية‏'‏ حبس الظل‏'‏ بعض العلماء أجازها وبعضهم أفتي بكراهيتها والضرورة تبيحها‏.‏ بشرط أن يكون موضوعها لا يشتمل علي محرم كالسفور أو غيره‏.‏
يا لها من استفادة تستحق الإشادة والثناء‏,‏ فالشيخ يتكرم علي المسلمين بإباحة الصور الفوتوغرافية‏,‏ علي الرغم من أن بعض العلماء قد أفتي بكراهيتها‏,‏ لكنه لا ينسي أن يضع لهذه الإباحة شروطا‏,‏ والجرم الأكبر أن تظهر المرأة سافرة‏!‏ هذا هو أهم الموضوعات المحرمة‏,‏ ولا تتسع المساحة ليشرح الشيخ ما يعنيه بكلمة‏'‏ أو غيره‏',‏ والمفهوم أن المحرمات كثيرة بخلاف سفور النساء‏,‏ لكنه لا يعطي أمثلة أخري‏!‏
الإجابة السابقة مختصرة لا تشفي غليلا‏,‏ والفتوي التفصيلية نجدها في العدد رقم‏28,‏ تحت عنوان‏'‏ موقف الإسلام من الصور‏'‏ واللافت للنظر أن نص الفتوي دون تغير حرف واحد‏-‏ يعاد نشره في العدد رقم‏57,‏ ولا يوجد تفسير مقنع لهذا التكرار‏.‏

تقول مقدمة الفتوي‏:‏ وصلتنا رسائل عدة حول هذا الموضوع‏,‏ ونحيي الإخوان الأحباب علي هذا الحرص علي معرفة حكم الإسلام فيما يحيط بهم‏.‏ ونقول بعون الله‏..‏

‏:1-‏ إن الإسلام دين التوحيد الخالص ومنهجه أن يغلق كل نافدة قد يتسرب منها ما يعكر صفو هذه العقيدة أو يعرضها للعبث‏.‏ لتظل دائما صافية نقية كما وصلت إلينا من أسلافنا رضوان الله عليهم‏;‏ ولذلك حرم الإسلام علي المسلم أن يشتغل بصناعة التماثيل أو يجمل بها بيته أو مكتبه أو في أي مكان يحل فيه‏..‏ جاء في الحديث‏'‏ إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور‏'‏ وفي رواية‏'‏ الذين يضاهئون خلق الله‏',‏ رواه البخاري‏,‏ وأيضا‏'‏ لا تدخل الملائكة بيتا فيه تصوير‏',‏ كما ثبت في الحديث‏'‏ أن جبريل عليه السلام امتنع عن دخول بيت النبي صلي الله عليه وسلم لوجود تمثال علي باب البيت‏,‏ ولم يدخل في اليوم التالي حتي قال له‏(‏ مره برأس التمثال فليقطع حتي يصير كهيئة الشجرة‏),‏ رواه أبو داود والنسائي والترمذي‏,‏ ومعني هذا الحديث أن التمثال إذا شوه ولم يبق له منظر يوحي بالتعظيم فلا يشمله التحريم‏..‏ لأنه لم يعد تمثالا‏..‏

‏:2-‏ أما الصور التي ترسم أو تنقش ولا ظل لها ولا جرم‏..‏ فنشير إلي الآتي:‏

(‏أ‏) يقول المرحوم الشيخ محمد بخيت المفتي‏:‏ إن مصور شكل الحيوان لا يوجد صورة مجسدة بل إنما يرسم صورته وشكله من غير تجسيم‏.‏ والصورة هنا فقدت الجرم‏.‏ فليست في صورة الحيوان التي يكلف مصورها يوم القيامة بنفخ الروح فيها‏;‏ لأن الظاهر أن هذا خاص بذات الظل ‏(‏التمثال‏).‏

‏::(‏ب‏)‏ وأجاز العلماء رسم اللوحات للنباتات وكل شيء لا روح فيه‏.‏ فعن سعيد بن أبي الحسن قال‏:‏ كنت عند ابن عباس‏‏ إذ جاءه رجل‏,‏ فقال يا ابن عباس‏:‏ إني رجل إنما معيشتي من صنعة يدي‏,‏ وإني أصنع هذه التصاوير‏-‏ التماثيل‏-‏ فقال ابن عباس لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلي الله عليه وسلم‏,‏ سمعته يقول‏:‏ "من صور صورة فإن الله يعذبه حتي ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبدا‏,‏ فغضب الرجل‏;‏ فقال ابن عباس ويحك‏,‏ إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر وكل شيء ليس فيه روح‏"‏ رواه البخاري‏.‏

‏::(‏ت‏)‏ روي الترمذي بسنده عن عتبة‏:‏ "أنه دخل علي أبي طلحة يعوده فوجد عنده سهل بن حنيف قال‏:‏ فدعا أبو طلحة إنسانا ينزع نمطا تحته فيه نقوش وصور‏-‏ النمط الثوب أو البساط‏-‏ فقال له سهل‏:‏ لم تنزعه؟‏!‏ قال‏:‏ لأن فيه تصاوير‏,‏ وقد قال فيه النبي صلي الله عليه وسلم ما قد علمت‏,‏ قال سهل‏:‏ أولم يقل ‏(‏إلا ما كان رقعا في ثوب‏)‏ فقال طلحة‏:‏ بلي ولكنه أطيب لنفسي‏".‏

‏::(‏ث‏)وروي عن أم المؤمنين عائشة قالت‏:‏ '"رأيته خرج في غزاته فأخذت نمطا فسترته علي الباب‏,‏ فلما قدم صلي الله عليه وسلم عرفت الكراهية في وجهه فجذبه‏,‏ رأي النمط حتي هتكه أو قطعه‏,‏ وقال إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين‏، قالت فقطعنا منه وسادتين وحشوتهما ليفا‏،‏ فلم يعب ذلك علي"‏'‏ رواه مسلم‏,‏ قال النووي‏'‏ وليس في الحديث ما يقتضي التحريم‏;‏ لأن حقيقة اللفظ‏-‏ أن الله لم يأمرنا بذلك‏-‏ ومقتضاها أنه ليس بواجب ولا مندوب‏.‏ ولا يقتضي التحريم‏.‏ ويري بعض العلماء أن الحرام ما كان له ظل‏-‏ أي مجسم‏-‏ ولا بأس بالصورة التي ليس لها ظل‏-‏ وبخاصة إذا ابتذلت أو كانت توطأ أو تهان ولم تكن موضع التعظيم‏-‏ ويري الآخرون كراهية الصور التي ليس لها ظل أيضا‏..‏ ويسعنا ما وسعهم‏.‏

والرأي الأول يري أن الصور‏ (‏الفوتوغرافية‏)‏ جائزة وبخاصة إذا لم تكن كاملة‏.‏ والقول الثاني يميل إلي كراهية هذا النوع أيضا‏..‏ وهو لا يملك إلا أن يرخص فيما توجبه الضرورة‏.‏ أو تقتضيه المصلحة والحاجة كصور البطاقات الشخصية‏.‏ وجوازات السفر وصور المشبوهين‏..‏ وليس في هذا ونحوه شبهة التعظيم أو الخوف علي العقيدة‏.‏

‏:3-‏ موضوع الصورة‏:‏

ولا يغيب عن أذهاننا أن الصورة‏-‏ أيا كانت‏-‏ إذا كان موضوعها مخالفا للعقيدة أو الآداب الإسلامية‏-‏ مثل‏-‏ الصور العارية أو المثيرة للغرائز‏-‏ كالتي تمتلئ بها بعض الصحف والمجلات ودور السينما‏..‏ هذا وأمثاله‏,‏ لا شك في حرمته‏.‏ وحرمة تصويره وعرضه علي الناس‏;‏ لأن ضرره البالغ وخطره الجسيم علي كل مسلم ومسلمة أمر لا يحتاج إلي بيان‏.‏

‏:4-‏ لعب الأطفال‏:‏

يستثني من كل ما ذكرنا لعب الأطفال التي تكون علي شكل عرائس أو غيرها‏.‏ قال القاضي عياض‏'‏ إن اللعب بالعرائس للبنات الصغار رخصة‏'.‏
وبعد‏..‏ فإن فكرة تخليد من يسمون بالعظماء بإقامة تماثيل لهم فكرة غريبة تسربت إلي بلادنا عن طريق الاستعمار وهي رجوع إلي الوراء‏.‏ ودعوة للوثنية‏,‏ ونكسه للبشرية‏,‏ ولا ينبغي أن يخضع أي بلد إسلامي لهذا الضلال‏,‏ وأن يغير حكم الله في حرمة إقامة التماثيل لضررها البالغ وخطرها الشديد علي العقيدة وعلي الخلق القويم‏.‏
وما خلد سيد الخلق‏(‏ ص‏)‏ ولا أصحابه ولا أئمة الإسلام بهذه الصورة الحجرية‏..‏ كلا‏.‏ بل خلدوا في القلب والفكر بما عملوا من خير‏.‏ ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد‏...‏

هل يمكن أن يتأثر الإسلام بنافذة صغيرة مثل التصوير وما يشبهه من فنون؟

البداية بصناعة التماثيل‏,‏ فن النحت‏,‏ ويعتمد التحريم الصارم علي أحاديث لا يمكن أن تفهم علي الوجه الذي يفضي إلي التحريم‏,‏ فقد كان العهد قريب الصلة بالجاهلية وعبادة الأوثان‏,‏ ولم تكن عقيدة التوحيد قد استقرت في النفوس والأرواح والقلوب‏,‏ ومن المنطقي أن يكون التحذير قويا بتجنب كل ما من شأنه أن يفسد نقاء التوحيد أو يهدده‏,‏ لكن استقرار العقيدة وارتقاء الوعي البشري لا بد أن يضفيا علي المشهد شكلا مختلفا‏.‏ علي سبيل المثال‏,‏ هل يهدف النحاتون المعاصرون إلي مضاهاة خلق الله؟ هل يبدعون تماثيلهم لتعبد من دون الله؟‏!.‏ الإجابة المنطقية بالنفي‏,‏ لكن فقهاء الإخوان ينغمسون في كتبهم الموروثة‏,‏ ولا يعملون العقل أو يحكمونه فيما طرأ علي العالم من متغيرات جذرية‏.‏ إفتاء‏'‏ الدعوة‏'‏ غارق تماما في الشكليات والنقولات‏,‏ متشبث بمجافاة روح العصر وتجاهل تيار التغيير‏.‏ مع التعنت الواضح في البحث عن الأشق والأصعب والأكثر إرهاقا للمسلم المعاصر‏,‏ فهم يطالبونه‏-‏ باسم فهمهم للدين‏-‏ أن ينصرف عن الغناء والموسيقي والتصوير والنحت والفنون جميعا‏,‏ وعندها يسهل انقياده وخضوعه للأفكار السياسية التي يبشرون بها‏,‏ حيث كراهية الآخر واحتقار المرأة ومعاداة الديمقراطية‏,‏ وهي دعاوي يصعب هضمها واستيعابها ممن يتعامل مع الفنون الراقية التي يحرمونها‏.‏
ما الذي فعلته سلطة‏'‏ طالبان‏'‏ في أفغانستان قبل سقوطها؟ لقد نفذت ما يدعو إليه فقهاء ومفكرو الإخوان‏,‏ الذين يملئون الدنيا ضجيجا حول اعتدالهم واستنارتهم وبعدهم عن التطرف والإرهاب‏.‏ حطمت حركة‏'‏ طالبان‏'‏ أثرا تاريخيا إنسانيا بحجة أنه وثن يعبد من دون الله‏,‏ وتناسوا‏-‏ كما تناسي معلموهم من الإخوان‏-‏ أن مئات السنوات قد مرت ولم ينجح الوثن المزعوم في فتنة مسلم واحد أو إخراجه من الدين الإسلامي الحنيف‏.‏
ولا تنجو الصور الفوتوغرافية من المقصلة‏,‏ والضرورة القصوي وحدها هي التي تجيزها دون غيرها‏.‏ كيف لا؟ ألم تظهر جماعات تدعي أنها إسلامية‏,‏ وتقوم بتحريم التصوير الفوتوغرافي وكل ما يترتب عليه من نتائج وممارسات‏,‏ مثل بطاقات إثبات الشخصية ووثائق السفر؟ هل قرأ أحد كلمة نقد واحدة من الإخوان المسلمين وعلمائهم حول هذه الفتاوي لتلك الجماعات العشوائية؟
ويأبي صاحب الفتوي إلا أن يخلط الأوراق عمدا‏,‏ فيستشهد بالصور العارية والمثيرة للغرائز‏,‏ وهي صور ليست من الفن في شيء‏,‏ لكنها تكفي‏-‏عنده‏-‏ لتحريم ما ليس عاريا أو مثيرا للغرائز والشهوات‏!.‏
السائرون في ميادين القاهرة سيجدون عديدا من التماثيل لبعض أبطال ورموز الأمة المصرية‏:‏ أحمد عرابي ومصطفي كامل ومحمد فريد وسعد زغلول وطلعت حرب وأحمد شوقي وطه حسين وعبد المنعم رياض ونجيب محفوظ وغيرهم‏,‏ فهل سمع أحد أن هذه التماثيل قد عبدت من دون الله؟
السذاجة الفكرية وحدها هي التي تقود الإخوان المسلمين إلي تحريم التماثيل وتسفيه صانعيها والاحتجاج علي إقامتها في بلاد الإسلام‏,‏ ويري صاحب الفتوي أن الفكرة كلها غريبة مستمدة من الموروث الاستعماري‏,‏ ويري كذلك أنها دعوة وثنية ونكسة بشرية وضلال لا بد من رفضه ولا بديل عن إدانته‏!.‏
في أي زمن يعيش هؤلاء الناس والفقهاء الذين ينتسبون إليهم ويعبرون عن أفكارهم؟‏!.‏
إنهم يهزلون والعالم يجد‏,‏ ولا يدري احد كيف يتوجه المسلمون بخطاب مثل هذا إلي العالم‏,‏ أحد أهم بنوده تحريم الفن‏,‏ وكيف يمكن مطالبة الغرب بتصحيح صورته عن الإسلام والمسلمين‏,‏ وهذه الأفكار تنخر في ثقافتنا دون أن نحرك ساكنا‏.‏
الكارثة الحقيقية أنهم ينسبون هذا اللغو إلي الإسلام‏,‏ فيقدمونه دينا يخاصم الحياة‏,‏ قبل أن يخاصم روح العصر‏,‏ والسر في ذلك‏,‏ ما سبق أن أشار إليه الدكتور سليم العوا‏,‏ من أنهم يرددون ما في الكتب الموروثة من آراء فقهية علي أنها دين دائم‏,‏ ولا يدركون أن هذه الأفكار ليست سوي اجتهادات متغيرة‏.‏
الطريف أن الإخوان المسلمون‏,‏ مع تشددهم وتعنتهم‏,‏ يجدون في طريقهم من هم أكثر تشددا وتعنتا منهم‏,‏ ذلك أن حدود التطرف لا نهاية لها‏.‏ وها هو طالب بطب الأسكندرية يقدم لهم عتابا‏,‏ في العدد رقم‏13,‏ وكأنه يقوم بتوبيخهم قائلا‏:‏ كيف تسمح جريدة الدعوة بنشر بعض الصور فيها وهي تعلم أن‏'‏ التصوير‏'‏ ممنوع شرعا؟‏!.‏

ويجيب الدكتور عبد العظيم المطعني‏:‏

‏:‏الغرض من النهي عن التصوير والتمثيل هو صرف المسلم عن المضاهاة بخلق الله خاصة أن التمثيل والتجسيم كانا وسيلة المشركين في صنع أصنامهم وتماثيلهم ومازال النهي عنهما قائما‏,‏ أما التصوير فلم يكن معروفا بمعناه المعاصر في ذلك الوقت ولا بأس به ما لم يجر إلي مفسدة مثل الصور الخليعة أو العارية‏.‏ أما التصوير للأغراض البريئة كتحقيق الشخصية فلا حرج فيه مطلقا‏.‏ ومنه ما تنشره الصحف لتلفت نظر القارئ إلي موضوع الكلام مثلا‏.‏ وكل ما هو مطلوب أن يكون التصوير مقصورا علي ما يباح رؤيته‏.‏ ولم تفعل الدعوة أكثر من نشر صور دعت إليها ضرورة الموضوع‏,‏ أو صور المتفوقين من طلاب الجامعات ذكورا أو إناثا وفي زي إسلامي وقور‏,‏ وفي هذا حفز لطلاب العلم علي الجد والتحصيل‏.‏

منطق الدكتور المطعني في الرد علي المحتج يمكن أن يقود إلي نتائج مناقضة لكل ما يدعو إليه الإخوان‏,‏ وتفتح الباب لاجتهاد غير محدود‏,‏ لكن الرجل حريص علي أن تكون الإباحية هي الاستثناء‏,‏ وأن يكون الخضوع لمتطلبات العصر ومقتضياته في إطار ضيق لا يفضي إلي فهم جديد أو رؤي وفتاوي جديدة‏.‏
التماثيل المعاصرة فن رفيع لا علاقة له بالأوثان والأصنام القديمة‏,‏ وإذا كان التصوير بمعناه المعاصر غير موجود في الزمن القديم‏,‏ فإن هذا ينطبق علي فنون أخري مستحدثه يطولها التحريم دون نظر إلي طبيعتها‏.‏
التصوير مباح للأغراض البريئة الأخري‏,‏ دون تحديد واضح بالطبع للأغراض الشريرة‏,‏ وبذلك يبقي الباب مفتوحا أمام الفكرة القائلة بأن التحريم هو الأصل والقاعدة‏,‏ والإباحة هي الاستثناء

‏حول الفنون المستوردة

‏ تصل "مجلة الدعوة‏"‏ إلي الذروة في تعبيرها عن موقف الجماعة من الفن في العدد رقم‏"49".‏ صفحتان كاملتان يتصدرهما عنوان رئيسي‏:'‏ حول الفنون المستوردة‏',‏ ويقدم الشيخ محمد عبد الله ا