مقدمة
تعرضت للحكومة في بناء البنا تنظيريا في بحث سابق بعنوان "الحكومة في بناء البنا تنظيريا"، وضَّحت فيه تنظير البنا للحكومة الإسلامية من جميع النواحي وروافده في ذلك، وهذا البحث يتحدث عن تعامل البنا مع الحكومات القائمة بالفعل في عصره، وهو حتما لن يفي هذا الأمر حقه؛ لأنه يحتاج إلى معايشٍ لهذه الفترة وعالم بخفايا المواقف السياسية فيها، ولكني اعتمدت على رسائل البنا فقط، ففيها ملامح أعتبرها خطوطا عريضة لذلك.
أولا:موقفه من الحكومات القائمة
الإمام الشهيد حسن البنا
أعلن صراحة أنه لا يؤمن بالحكومات غير الإسلامية؛ أي غير المشكَّلة تبعا لتنظيره السابق، وأعلن هذا بعبارة صريحة، حيث قال: "ونحن لهذا لا نعترف بأي نظام حكومي لا يرتكز على أساس الإسلام ولا يستمد منه، ولا نعترف بهذه الأحزاب السياسية، ولا بهذه الأشكال التقليدية التي أرغمنا أهل الكفر وأعداء الإسلام على الحكم بها والعمل عليها، وسنعمل على إحياء نظام الحكم الإسلامي بكل مظاهره، وتكوين الحكومة الإسلامية على أساس هذا النظام".(1)
وأكد هذا في موضع آخر قائلا(2):
" ...الإخوان المسلمين لم يروا في حكومة من الحكومات التي عاصروها ولا الحكومة القائمة ولا الحكومة السابقة, ولا غيرهما من الحكومات الحزبية من ينهض بهذا العبء أو من يبدي الاستعداد الصحيح لمناصرة الفكرة الإسلامية, فلتعلم الأمة ذلك, ولتطالب حكامها بحقوقها الإسلامية, وليعمل الإخوان المسلمون".
وهذا الاعتراف مسبب؛ حيث ذكر سبب موقفه هذا من الحكومات القائمة،وهو:
أن الحكومات القائمة لا يمكن أن تقوم بإصلاح فاعل؛ لأنها غير حرة وضعيفة.
حيث قال في "رسالة المؤتمر السادس" التي كتبت 9/01/1941م في عهد وزارة حسين سري باشا التي استمرت من15/11/1940 إلى 31/07/1941 (3): "ولا تستطيع حكومة مصرية أن تقوم بهذا الإصلاح الاجتماعي حتى تتحرر تماما من الضعف والعجز والخوف والتدخل السياسي الذي يقيد خطواتها, وتتخلص من هذا النير الفكري الذي وضعته أوربا في أعناقنا فأضعف نفوسنا وأوهن مقاومتنا".بل قد تكون بعض الحكومات من أهم عوامل الفساد والإفساد في المجتمع المصري؛ بسبب:"الضعف المتناهي من هذه الحكومات التي جعلت من نفسها أداة طيعة إن لم تكن مسرعة في يد الأجنبي يتحكم بها في رقاب الناس كما يشاء وينفذ بها مطالبه وخططه كما يريد سافراً أو مستتراً" (4).
وهذا النير لن يرفع إلا إذا جاءت الحكومة بناء على رغبة شعب تشبَّع بحب النظام الإسلامي كما بينت في بحث"الحكومة في بناء البنا تنظيريا".
أنه جرب توجيه الحكومات المختلفة، وتبيين مسالك الإصلاح لها والحث عليه، وخرج من كل ذلك بنتيجة مفادها أن: "التجارب الكثيرة كلها تقنعنا بأننا في واد وهي في واد , ويا ويح الشجيّ من الخليّ....فماذا أفاد كل ذلك؟ .. لا شيء... لا شيء , وستظل "لا شيء" هي الجواب لكل المقترحات مادمنا لا نجد الشجاعة الكافية للخروج من سجن التقليد والثورة على هذا الروتين العتيق, وما دمنا لم نحدد المنهاج ولم نتخير لإنفاذه الأكفاء من الرجال".(5)
ثانيا: أسباب ضعف الحكومات في نظره
الحاكم والمحكوم على السواء
فقد أرجع سبب ضعف الحكومة في معرض حديثه عن أدواء النظام الاجتماعي خاصة وكانت الحكومة القائمة 9/01/1941م وقت كتابة رسالة المؤتمر السادس هي وزارة حسين سرى باشا التي استمرت من15/11/1940 إلى 31/07/1941 إلى الحاكم والمحكوم على السواء:الحاكم لأنه: "لانت قناته للغامزين وسلس قياده للغاصبين.
وعني بنفسه أكثر مما عني بقومه, حتى فشت في الإدارة المصرية أدواء عطلت فائدتها وجرت على الناس بلاءها .. فالأنانية والرشوة والمحاباة والعجز والتكاسل والتعقيد كلها صفات بارزة في الإدارة المصرية والمحكوم الذي رضي بالذلة وعجز وغفل عن الواجب وخدع بالباطل وانقاد وراء الأهواء وفقد قوة الإيمان وقوة الجماعة فأصبح نهب الناهبين وطعمة الطامعين"(6)
الروح الحزبية البحتة والعجز
قال في رسالة " نظام الحكم" تحت عنوان جانبي "ضعف الحكومات"(7):
"لا يجادل أحد في أن الحكومات المتعاقبة قد ضعفت عن أداء واجبها، وفقدت معظم هيبتها في النفوس كحكومة, بسبب هذا التجريح بالحق وبالباطل الذي تمليه الروح الحزبية البحتة، وبسبب هذا العجز الناتج عن عدم تحديد المسؤولية والاضطلاع بها كاملة غير منقوصة، ولولا أن النفوس في مصر مطبوعة بطابع الطاعة والاستسلام، والأعمال تسير بطريق روتيني لا تجديد فيه ولا ابتكار .. لتعطل كل شيء، ولعجز الدولاب الإداري المضطرب عن أن ينهض بحاجات الشعب أو أن يؤدي للناس عملاً".
ثالثا: أضرار فشل الحكومات على الإخوان
لم يكن البنا فرحا بضعف الحكومات المتعاقبة، ويفخر بين الناس أنها فاشلة لأنها لم تستمع إلى نصحه وتوجيهاته، بالعكس كان يرى أن ضعفها يعود بالضرر على الإخوان أنفسهم، فقال موجها كلامه لمحاور له طلب منه أن يبتعد بجماعة الإخوان المسلمين عن السياسة:
"والله يا أخي لو كنا أمة مستقلة تصرف أمورها حكومة يقظة لكان في كل غرض من أغراض دعوتنا على حدة متسع لكل أوقاتنا ومجهوداتنا، فهذا الغرض العلمي من شرح دعوة الإسلام والكشف عما فيها من روعة وجمال، وهذا الغرض الاجتماعي من مساواة المنكوبين ومعاونة البائسين، وهذا الغرض الاقتصادي من استنقاذ الثروة القومية وتنميتها وحمايتها، كل غرض من هذه الأغراض يستغرق أضعاف وقتنا ويستنفد أمثال جهودنا ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه والله أعلم حيث يجعل رسالته".(8)
فضعف الحكومات وفشلها في القيام بواجباتها شغل الإخوان بأمور، كان عدم الانشغال بها يوفر جهدها لنواحٍ إصلاحية أخرى، تحتاج كل ناحية منها إلى جهود كبيرة وتفرُّغ.
رابعا:سياسته مع الحكومات المختلفة
لم يمنع اعتقاد البنا الجازم بعدم جدوى الحكومات المتعاقبة من التعامل معها، ومحاولة إصلاحها، على الرغم من أنه كان ما زال في المراحل الأولى من مراحل مشروعه النهضوي، وهي مرحلة الفرد المسلم، وبدايات مرحلة الأسرة المسلمة، ورغم ذلك تعامل مع الحكومات القائمة في عصره، حكومة بعد حكومة، وقد صرح باستراتيجيته في التعامل معها، وهذه الاستراتيجية مكونة من ثابت واحد ومتغيرات مختلفة يمليها الظرف والموقف والواجب:
الثابت الوحيد هو الحرص على الاستقلال عن أي حكومة وعدم الوقوع تحت سيطرتها: حرص البنا رحمه الله على ذلك وشدد عليه، حيث قال(9):"ليس أعمق في الخطأ من ظن بعض الناس أن الإخوان المسلمين كانوا في أي عهد من عهود دعوتهم مطية لحكومة من الحكومات, أو منفذين لغاية غير غايتهم, أو عاملين على منهاج غير منهاجهم , فليعلم ذلك من لم يكن يعلمه من الإخوان ومن غير الإخوان". ولذلك حرص كل الحرص على عدم أخذ مال من أي حكومة.(10)
النصح والإرشاد: كان حريصا على إرسال رسائل نصح وإرشاد للحكومات المتعاقبة، يبين لها فيها ما يجب أن يكون، وينظر لها الطريق المتوافق مع الإسلام، ويحقق مصالح الأمة، مثل رسالة:"نحو النور"(11) التي كتبها عام 1366هـ وبعث بها إلى الملك فاروق وإلى مصطفى النحاس باشا وغيرهم من حكام وأمراء ورموز مجتمع، و"رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي" التي أرسلها إلى رئيس الحكومة وأعضاء الهيئات النيابية وغيرهم(12)، و"رسالة قضيتنا" وهي لم يكتبها للحكومات ولكن للرأي العام للتعبير عن خطأ الحكومة في قرار حل الإخوان.(13)وقد قال في "رسالة المؤتمر السادس" تحت عنوان "نحن والحكومات"(14):"فأما موقفنا من الحكومات المصرية على اختلاف ألوانها فهو موقف الناصح الشفيق, الذي يتمنى لها السداد والتوفيق, وأن يصلح الله بها الفساد...لقد رسمنا للحكومات المصرية المتعاقبة كثيرا من مناهج الإصلاح, وتقدمنا لكثير منها بمذكرات إضافية في كثير من الشؤون التي تمس صميم الحياة المصرية ..لقد لفتنا نظرها إلى وجوب العناية بإصلاح الأداة الحكومية نفسها باختيار الرجال وتركيز الأعمال وتبسيط الإجراءات ومراعاة الكفايات والقضاء على الاستثناءات ..وإلى إصلاح منابع الثقافة العامة بإعادة النظر في سياسة التعليم ومراقبة الصحف والكتب والسينما والمسارح والإذاعة, واستدراك نواحي النقص فيها وتوجيهها الوجهة الصالحة. وإصلاح القانون باستمداده من شرائع الإسلام, ومحاربة المنكر ومقاومة الإثم بالحدود وبالعقوبات الزاجرة الرادعة، وتوجيه الشعب وجهة صالحة بشغله بالنافع من الأعمال في أوقات الفراغ. فماذا أفاد كل ذلك؟ .. لا شيء، ومع هذا فسنظل في موقف الناصحين يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين".فالنصح والإرشاد استراتيجية دائمة عنده حتى وإن كان مآلها إلى الفشل.
الإشادة: رغم هذا الموقف الذي يرجح سلفا عدم الجدوى من الحكومات القائمة، فإن البنا رحمه الله، أشاد بمواقف جيدة صدرت من حكومات معينة مثل إشادته بحكومة النحاس باشا؛ لأن السفارة البريطانية طلبت منه عام 1942م، والحرب العالمية على الأبواب أن يحل جماعة الإخوان المسلمين وتعطيل نشاطها، فأبى أن يجيبهم إلى ذلك، واكتفى بإجراء سياسي، يرضي السفارة البريطانية، وفي الوقت نفسه لا يمس الإخوان المسلمين إلا أذى، وذلك بأن حل جميع الشعب وأبقى على المركز العام لوقت معين، حتى ينشغل القوم عنهم.(15)
التعاون: كما حدث في حرب فلسطين، وكما حدث في الأنشطة الخيرية التي كانت تقوم بها جماعة الإخوان المسلمين من تنظيم للزكاة، وفتح بيوت للمال، ودعم الفقراء، وكفالة الأيتام، وغير ذلك من الأنشطة التي حفل بها تاريخ الإخوان، وهي أنشطة تدعم الجهود الاجتماعية للحكومات المختلفة، وتخفف بعض العبء عنها، وفي الوقت نفسه ترشدها بشكل عملي إلى ما يمكن إنجازه في خدمة المجتمع.
الحفاظ على الهيبة: طلب في رسالة قضيتنا من حكومة عبد الهادي طلبين: الأول رفع الظلم، والثاني "إطلاق حرية الدعوة في الوقت المناسب بالأسلوب الذي لا ينال من هيبة الحكومة ولا يعطل من نشاط الإخوان".(16) فرغم دخوله مع الحكومة في مرحلة الصدام والسجن والحل، ورغم ازدرائه لهذه الحكومة لفشلها في مناح كثيرة، إلا أنه تقديرا للظرف التاريخي الحرج للأمة ولمصر حرص على هيبتها.
تفادي الصدام: مهما كان من ممارسات غير ملائمة من الحكومات تجاه جماعته، كان يحرص على عدم الصدام، فقد قال مخاطبا حكومة عبد الهادي(17) :"تحملنا الصدمة العنيفة (صدمة الحل) التي لم نكن نتصورها بصبر عجيب وتلقيناها بهدوء وثبات وحاولنا أن نمهد السبيل للحكومة لتراجع نفسها وتعيد الأمور إلى نصابها، وبذلنا جهد المستميت في سبيل تفادي الكارثة والعمل على حصر نتائجها السيئة في أضيق نطاق؟".وقد كان الصدام في هذه الأزمة من جانب الحكومة من خلال سلسلة من الأحداث العدوانية التي ألصقت بجماعة الإخوان المسلمين، لتبرر قرار الحل الذي كان الدافع وراءه ضغوط بريطانية، ومن هذه الأحداث، خطابات تهديد بالتفجير ، وضبط أسلحة كانت الحكومة على علم بها مسبقا وأنها مجهزة لفلسطين ومقاومة المحتل، وحوادث اغتيالات(18)، ولكن البنا رحمه الله لم يقابلها بالصدام بل بضبط النفس ومحاولة استرداد الحقوق بالوسائل السابقة: النصح والإرشاد، والإشادة، والتعاون، والحفاظ على الهيبة، وتفادي الصدام، والازدراء وذكر المثالب.
ذكر المثالب إن لزم الأمر: فقد قال عن حكومة إبراهيم عبد الهادي باشا التي كانت من28/12/1948إلى25/07/1949م بعد أن حلت جماعة الإخوان (19):"ومن الذي يفعل هذا ويحكم به؟؟ (أي حل جماعة الإخوان) الحكومة المصرية التي أخفقت في المفاوضات مع الإنجليز فقطعتها وذهبت إلى مجلس الأمن فعادت منه بخفي حنين، تركت قضية الوطن على رفوفه العالية في زوايا الإهمال والنسيان، وتجاهلت الإنجليز بعد ذلك تجاهلا تاما وتركتهم يفعلون ما يريدون، حتى أضاعت بهذا التجاهل، واتبعت سياسة التردد والاضطراب في قضية فلسطين، وقبلت الهدنة الأولى فأضاعت بهذا القبول كل شيء، وحرمت الجيش المصري الباسل ثمرة انتصاره، وأفقدت الوطن ملايين الجنيهات، وآلاف الرجال، فضلا عن فقدان الكرامة وسوء الحال والمآل. ودللت يهود مصر فلم تتخذ معهم أي إجراء مع موقفهم من مناصرة أعداء الوطن وخصوم البلاد، والتي يعيش آمنا في ظلها كل أجنبي أفاق ومتشرد طريد وعابث عربيد، آمنا مطمئنا على نفسه وماله وعبثه وفساده، وتحمي حانات المسكرات، وبيوت العاهرات، ودور المنكرات وأبواب المراقص والبارات، والتي عجزت كل العجز عن إنقاذ شعبها من براثن الفقر والمرض والجهل والعطل والغلاء الفاحش الذي يئن منه الأقوياء فضلا عن الضعفاء، والتي لا يؤيدها ولا يسندها إلا نفر قليل ضئيل من أصحاب المصالح الشخصية، فهي في واد والأمة في واد...".
فهو قد ذكر كل مساوئ الحكومة بشكل يوحي بالسخرية، على غرار: "أسد علي وفي الحروب نعامة".وهذه الاستراتيجيات السابقة ليست خاصة بحكومة دون حكومة، بل تكون مع الحكومة الواحدة تبعا لتصرفاتها، ومدى اقترابها من الصواب والخطأ.
ـــــــــــــــــــ
المصادر
مجموعة الرسائل، "رسالة إلى الشباب"، (ص321، 322). دار الكلمة الطيبة للنشر والتوزيع، مصر، المنصورة، ط1، 1426هـ/2005م.
مجموعة الرسائل، "رسالة المؤتمر الخامس"، (ص123).
مجموعة الرسائل، "رسالة المؤتمر السادس"، (ص149).
مجموعة الرسائل، "رسالة في اجتماع رؤساء المناطق ومراكز الجهاد"، (ص306).
مجموعة الرسائل، "رسالة المؤتمر السادس"، (ص151).
مجموعة الرسائل، "رسالة المؤتمر السادس"، (ص149).
مجموعة الرسائل، "رسالة نظام الحكم"، (ص245).
مجموعة الرسائل، "رسالة في اجتماع رؤساء المناطق ومراكز الجهاد"، (ص306).
مجموعة الرسائل، "رسالة المؤتمر الخامس"، (ص123).
مجموعة الرسائل، (ص191).
مجموعة الرسائل، "رسالة المؤتمر الخامس"، (ص119).
مجموعة الرسائل، (ص214).
مجموعة الرسائل، "رسالة قضيتنا"، (ص462).
مجموعة الرسائل، "رسالة المؤتمر السادس"، (ص151).
مجموعة الرسائل، "رسالة قضيتنا"، (ص472).
مجموعة الرسائل، "رسالة قضيتنا"، (ص477).
مجموعة الرسائل، "رسالة قضيتنا"، (ص476).
مجموعة الرسائل، "رسالة قضيتنا"، (ص469).
مجموعة الرسائل، "رسالة قضيتنا"، (ص478).