د/ محمد عبد الرحمن*

توضيح حول الجماعة والمشروعية والقانون

تتردد كثيرًا كلمة "الشرعية" وموقف الجماعة من ذلك؛ مما يحتاج إلى توضيح في هذا الشأن.

إن الجماعة ككيان، والدعوة بصفة عامة، تستمد شرعيتها من أصول وموازين ترتبط بجوهرها ورسالتها، تستمدها من الآتي:

1- من الحق الذي تحمله وتنتسب إليه، فهي تستمد انطلاقتها وأهدافها من رسالة الإسلام، وتنتسب لدعوة الله رب العالمين، ومن مقدار التزامها وانضباطها بهذا الأصل تكتسب هذه الشرعية.

2- من مدى إيمان أفرادها بهذا الواجب، وما استقر في قلوبهم بضرورة القيام بهذه الدعوة تلبيةً لواجب الإسلام وأمانة الدعوة.

3- من يقين الأفراد بتأييد الله لهذه الدعوة (بصرف النظر عن ذوات أشخاص بعينهم)، والثقة والأمل في نصر الله لها، والتمكين لدينه ودعوته.

4- من مدى حاجة الأمة الإسلامية والبشرية عامةً لهذه الدعوة.

5- من البعد التاريخي والواقع العملي، في مدى استجابة عناصر الأمة وشبابها للدعوة وثبات أصحابها عليها دون تبديل أو تحريف.

فهذا هو أصل الشرعية التي يستشعرها أفراد الجماعة، ويؤمنون بها في حركتهم ولا يستطيع أحد أن ينزعها عنهم، أو يهزها داخلهم.

وهذا الفهم وتلك الرؤية والقناعة لا نقصرها على جماعة الإخوان المسلمين وننفيها عن غيرها، وإنما هي تشمل أيضًا أي تجمع عامل للإسلام يحقق تلك الموازين والضوابط.

وتأتي درجة أخرى في هذا الأمر، وهي درجة "القبول المجتمعي"، والتي تنشأ من نظرة المجتمع للدعوة، ومستوى التعامل معها، وهذا التأثير يشمل الجانبين المتلازمين:

الجانب الأول: المبادئ التي تحملها الدعوة، والخطاب الذي يعبر عن ذلك، والثاني: القائمون عليها والمنتسبون إليها ومدى صلاحية سلوكهم وحملهم للدعوة.

وهذا الرضا والقبول المجتمعي كواقع تاريخي وحالي، ينتج من طبيعة المنهج الذي تحمله الدعوة، فما زالت عاطفة الناس للإسلام قائمة وكامنة في نفوسهم، وكذلك من خلال منهج الإصلاح الذي تمارسه الجماعة في المجتمع، والهدف السامي الذي تسعى إليه.

كما أن ثبات وتضحيات أصحاب هذه الدعوة وتاريخهم وتواصلهم مع المجتمع وأفراده يؤدي إلى تعميق هذا القبول المجتمعي، وإن نتائج الانتخابات عندما تكون نزيهة- سواء في البرلمان أو في النقابات المهنية- تمثل إحدى الأدلة على هذا القبول المجتمعي.

لكن تتعرض الدعوة والجماعة لمحاولات تشويه صورتها، ومنع أو تقليل هذا القبول المجتمعي لها، سواء نتيجةً لموقف النظام الحاكم منها، أو من بعض تيارات تختلف معها، أو شخصيات واتجاهات لها مصالح متعارضة، أو كجزء من حملة أصحاب المشروع الصهيوني- الأمريكي، وهذا التشويش والتشويه للصورة الذهنية عند المجتمع تجاه الجماعة لم يأتِ حتى الآن بالنتيجة المرجوَّة منه عند أصحابه؛ ففي الأوقات والمراحل التي ظنوا أنهم نجحوا في ذلك فوجئوا باختلال حساباتهم، وبمدى إقبال الشباب عليها وسرعة انتشارها في القرى والنجوع، وفي شرائح المجتمع المختلفة.

إن إحساس الدعاة بأنه ما زالت في المجتمع نسبة لا تفهم الإسلام الفهم الصحيح وتستغرب ما يدعون إليه، أو تتخوف من أصحاب هذه الدعوة، أو تواجههم ببعض الصدود؛ فإن هذا شيء متوقَّع لأي دعوة، ويحتاج من الدعاة إلى الصبر وحسن التعامل والحكمة والموعظة الحسنة، وتحمُّل ما يتعرضون إليه من أذى، والتواصل الصحيح بشتى الوسائل مع المجتمع وأفراده.

لقد واجه الأنبياء جميعًا عليهم السلام في بداية دعوتهم هذا الأمر من غياب الرضا والقبول المجتمعي في البداية عندما جاءوا بدعوتهم لقومهم؛ إذ اتبعهم فئة قليلة مستضعفة، وواجهتهم غالبية المجتمع بالصد والإعراض، لكن الدعوة لا تتوقف أو تتحرك انتظارًا لهذا القبول المجتمعي، وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث بعد سنوات تحول هؤلاء المعارضون إلى دين الله أفواجًا وحملوا بعد ذلك مشاعل النور والهداية.

ويشير الشهيد سيد قطب في ظلال القرآن إلى كيف تكون علاقة الداعية بالمجتمع، مهما حدث له، فيقول: "فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ودٍّ يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم، في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه، ويجدون عنده دائمًا الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضا.. وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم" ا.هـ.

ثم نأتي إلى ما يعرف الآن "بالشرعية السياسية"؛ أي إعطاء القبول القانوني أو القبول السياسي للجماعة ككيان ودعوة أو إعطاء ذلك لجزء من كيانها تتحرك به.

وهذه الشرعية السياسية أو القبول القانوني بمعنى أدق يمثل حمايةً قانونيةً لها، وهذا بلا شك أمر مفيد، ويضاف إلى رصيدها وحركتها بالمجتمع، ولكن يختلف عن أصل الشرعية الذي تنطلق منه الدعوة وأشرنا إليه سابقًا؛ لأن هذا أمر متغير؛ حيث يرتبط بالنظام الحاكم وموقفه من الجماعة ودعوتها، فالحاكم في أغلب دول العالم الثالث في هذه المرحلة الحالية هو الذي يضع القوانين ويغيِّر فيها ما يرى في ذلك المصلحة له بل أحيانًا يصبح هو القانون، كما أن هناك عوامل خارجية تتدخل وتؤثر في هؤلاء الحكام من دول عظمى لها مصالحها ومشاريعها والتي تتعارض مع أهداف ورسالة الجماعة.

لهذا الأمر- رغم هذا  الواقع- فإن الجماعة في خطتها تسعى إلى تحقيق هذا القبول القانوني بكل وسائل النضال الدستوري، وفي نفس الوقت لا توقف حركتها ودعوتها والعمل لتحقيق أهدافها على تحقق هذا الأمر المفيد، أو تجعل تحصيله على حساب ثوابتها أو التنازل عن منهجها ورسالتها، أو تصاب بالإحباط إذا كان الواقع المحيط بها لا يساعد على ذلك.

وأن تدرك أن هذا أمر متغير، فإن حصلته في مرحلة، فستفقده في أخرى؛ لأن هذا طبيعة الواقع الذي تواجهه، وطبيعة طريق الدعوة وسنة الله وقانونه في الامتحان والاختبار.

وعلى هذا تقوم كفاءة الدعوة بالعمل في كل الظروف والأحوال، وفي القدرة على شق طريقها في ظل أي مناخ، وقد مرَّت الدعوة تاريخيًّا بمراحل شتى من الشرعية الاجتماعية والسياسية، ثم من حجب هذه الشرعية عنها، ثم درجات متفاوتة من التضييق والحصار عليها أو حتى محاولة الإقصاء الكامل.

لقد استفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالواقع الموجود حوله ومن بعض قوانين المجتمع الجاهلي في مكة؛ استفاد من قانون "الإجارة"، واختار المسار المناسب لذلك عندما طلب من المطعم بن عدي أن يدخل مكة في جواره إذ حاولت قريش منعه عند عودته من الطائف.

وكذلك استفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قانون التوازن بين قبائل قريش، ومن حماية بني هاشم وعصبيتها له، في تقليل بعض المعوقات وتسهيل الحركة بالدعوة، وإن كان هذا الأمر- من حماية أبي طالب وبني هاشم- لم يمنع التعذيب والإيذاء الذي تعرض له الصحابة وتعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو القبائل التي تفد إلى مكة إلى أحد أمرين:
إما الإيمان بالدعوة وحملها، وإما إلى إعطائه الحماية حتى يبلغ الدعوة، وهو ما يُسمى في عصرنا الشرعية السياسية أو القبول القانوني "من رجل يأويني حتى أبلغ رسالة ربي"، وذلك ليستفيد  منها في الانطلاق بالدعوة لكل جزيرة العرب، وقد حاولت بعض القبائل وضع شروط لذلك؛ منها اشتراط أن يكون لهم الأمر من بعده فـرفض رسول الله صلى الله عليه وسلم أي تنازل في دعوته.

ورغم عدم تحقق هذه الشرعية السياسية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر في دعوته ورسالته حتى نجح بفضل الله في إقامة ركائز الدولة الإسلامية وانحياز المجتمع في المدينة لهذا الدين، وبذلك أسس دولة الإسلام.

والجماعة لا تنزعج إذا فقدت هذا الغطاء أو لم يتحقق في مرحلة ما؛ لأنه مرهون برضا حاكم أو مناخ مؤقت أو حدث يؤثر في الواقع السياسي، وبالتالي لا تتوقف دعوتها أو تضعف فهو وسيلة تستفيد منها الجماعة، ولا تحبط أو تيأس إذا لم يتحقق.

والدعوة لا تسعى لاستفزاز حاكم، لكن تقول الحق والنصيحة، في ثبات ووضوح وأدب الإسلام، وهي لا تسعى لتصفية الحساب مع من أساء إليها بأية درجة من درجات الإساءة، ولكن تصبر وتحتسب وتلجأ للقانون الموجود- مع قصوره- في دفع الأذى عن الأفراد أو إزالة معوقات، غير متعلقة بنتيجة، وتحتسب ذلك عند الله.

وهي تقوم بما يفرضه عليها واجب دينها ودعوتها، حتى ولو أغضب ذلك الحكام، وإن القبول المجتمعي الشعبي لهو المسار الحقيقي لمدى وجود الدعوة وتقدمها وحتى إذا وجدت بعض الفتور والرفض، فهذا لا يثنيها عن مواصلة طريقها.

أما الغطاء السياسي أو القبول القانوني، فهو عامل مساعد، وقد يكون مؤقتًا يوفر مزيدًا من حرية الحركة.

حول أسلوب الواجهات

هي مؤسسات تنشئها الجماعة- أو مؤيدوها- وفق القانون الموجود لتمارس فيها نشاطًا اجتماعيًّا أو سياسيًّا، تقوم فيه بأعمال الإصلاح في المجتمع، حسب القدرة، ولتأدية جزء من رسالة الإسلام.

وقد تنشأ هذه الواجهات والفروع بالتعاون مع آخرين أو تقتصر على أفراد الجماعة، وكلا الأمرين جائز ومتروك لواقع الحال، وتتعدد هذه الواجهات من جمعيات أهلية، ومراكز دعوية وبحثية، ونواد رياضية وثقافية، وتجمعات أو أحزاب سياسية، ومؤسسات اقتصادية .. إلخ، لكن مع بقاء كيان الجماعة العضوي الأساسي بأهدافه ورؤيته الشاملة المعلنة باسمه في المجتمع وبخطته ومنهجه المتكامل وخطابه الموجه للمجتمع باسمه، فالجماعة لا يمكن أن تنحصر في إطار محدود أو مؤسسات موضعية، أو تتجزأ كدعوة وممارسة إلى أنشطة اجتماعية، ومجال سياسي منفصل؛ فهي أشمل من كل ذلك، وأهدافها ووسائلها ليست خاصة بقطر دون قطر، ولكنها رسالة الإسلام العامة للأمة كلها وللبشرية جميعًا، وهي تجمع في خطتها ومنهجها بين الإصلاح الجزئي ومنهجية الإصلاح الكلي الشامل.

يقول الإمام الشهيد: "أيها الإخوان المسلمون.. بل أيها الناس أجمعون.. لسنا حزبًا سياسًّيا وإن كانت السياسة على قواعد الإسلام من صميم فكرتنا، ولسنا جمعية خيرية إصلاحية وإن كان عمل الخير والإصلاح من أعظم مقاصدنا، ولسنا فرقًا رياضية وإن كانت الرياضة البدنية والروحية من أهم وسائلنا، لسنا شيئًّا من هذه التشكيلات، فإنها جميعًا تبررها غاية موضعية محدودة لمدة معدودة، ولكننا أيها الناس فكرة وعقيدة، ونظام ومنهاج، لا يحده موضع، ولا يقيده جنس، ولا يقف دونه حاجز جغرافي، ولا ينتهي بأمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ ذلك لأنه نظام رب العالمين، ومنهاج رسوله الأمين" (من رسالة: الإخوان تحت راية القرآن صـ197).

ويقول أيضًا عن شمول الدعوة لكل المجالات: فهي (أي دعوة الإخوان) دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية.. إلخ" (من رسالة المؤتمر الخامس صـ123)

وولاء الأفراد وارتباطهم في هذه الفروع يكون أساسًا للجماعة وقيادتها، ومنه يدرك الأخ كيف يؤدي دوره داخل المنفذ، واضعًا الأهداف الإسلامية التي تعمل عليها الجماعة أمامه، ويحرص على أن يكون العمل بطريقة مؤسسية شورية داخل هذه الأوعية والكيانات الفرعية، وضمن القانون العام لها.

ولا يُشترط في هذه الواجهات والفروع الاسم (أي اسم الإخوان) أو حتى اسمًا إسلاميًّا.. ولا بد أن تتوفر فيها هذه الضوابط:

1- أن تلتزم في نشأتها وأدائها بالإطار القانوني المسموح به في المجتمع.

2- ألا يكون فيما تمارسه أو تدعو إليه مخالفة لحكم شرعي متفق عليه، أو ارتكاب معصية نهى عنها الشرع.

3- أن يدرك الأفراد القائمون عليها من الجماعة أن هذه الواجهة أو ذاك المنفذ يعمل في إطار الإصلاح الجزئي، وتأدية جزء من رسالة الإسلام، لكن مع وضوح الرؤية الشاملة والفهم الواسع للإسلام لديهم، والعمل له.

4- أن يكون ولاؤها وارتباطها الأصلي هو بالجماعة وكيانها الأصيل، وما ينبني عليه من برنامج تربوي وأهداف دعوية وتوجيه سديد، ولا تعتبر أن هذا الوعاء الذي تعمل به هو الأصل أو أنه موازٍ للجماعة أو بديلاً عنها.

5- ألا يكون في مواقفها وحركتها ما يعارض أهداف الجماعة وخط سيرها.

6- أن تحسن التعامل مع الآخرين واستيعابهم وحسن توجيههم لخدمة الإسلام والوطن والمشاركة معهم في ذلك.

7- أن تحرص على الإخلاص والتجرد في عملها، وضبط سلوك أفرادها المالي والأخلاقي، وللجماعة أن تراقب هذا الجانب في سلوك أفرادها العاملين بتلك الواجهات وتحاسبهم عليه.

إن حركة الجماعة بكل أفرادها وواجهاتها في المناشط المختلفة وفي الأحداث وبين الجماهير- سواء باسم الجماعة أو بالأفراد المعروف انتماؤهم إليها، وفي مجالات الإصلاح الاجتماعي والحراك السياسي- تفرض نفسها كشرعية حقيقية داخل المجتمع في عقول وأذهان وقلوب أفراد المجتمع وتياراته وكياناته المختلفة، حتى وإن رفض نظام الحكم إعطاء الشرعية القانونية للجماعة، أو أخذ في مضايقتها وعرقلة حركتها، وبالتالي فإن هذا النضال الدستوري والكفاح السياسي مسار أساسي ومهم في منهجية الدعوة وحركتها.

________

* عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين.