كان سقوط بغداد عاصمة الخلافة العباسية على يد المغول (سنة 656هـ/ 1258م) قد تبعه زلزال آخر في العام التالي حين سقطت الشام، وكانت الخطة التالية للمغول هي الاستيلاء على مصر، ولقد تمكن المغول من التوغل في بلاد الشام واحتلال مدنها حتى بلغوا مدينة غزة على الحدود المصرية.
أرسل زعيم المغول هولاكو رسالة يُبرق فيها ويُرعد إلى سلطان مصر سيف الدين قُطز (657- 658هـ)، جاء فيها "إن الله تعالى قد رفع شأن جنكيز خان وأسرته ومنحنا ممالك الأرض برمّتها، وكل من يتمرّد علينا ويعصـي أمرنا يُقضى عليه مع نسائه وأبنائه وأقاربه والمتصلين به وبلاده ورعاياه، كما بلغ ذلك أسماع الجميع، أما صيتُ جيشنا الذي لا حصر له؛ فقد بلغ الشهرة كقصة رستم واسفنديار، فإذا كُنتَ مُطيعًا كخدم حضـرتنا فأرسل إلينا الجزية وأقدم بنفسك واطلب الشّحنة([1])، وإلا فكن مُستعدًا للقتال"([2]).
كيف خرج المماليك؟
أمر قطز بقتل الرسل الأربعة الذين أرسلهم المغول امتثالًا لنصيحة مستشاره الأمير بيبرس، فقطع رؤوسهم ثم عُلّقت في أشهر مواقع القاهرة وقتها وهي؛ الريدانية (العباسية الآن) وباب النصـر في شمال القاهرة، وباب زويلة في جنوبها، وفي سوق الخيل أحد أهم الأسواق أسفل القلعة؛ ليراها كافة الناس فترتفع معنوياتهم وتنهض هممهم للقاء العدو، وفي 15 شعبان سنة 658هـ/1260م أمر السلطان المظفر قطز بإعلان النفير العام "وسار حتى نزل بالصالحية وتكامل عنده العسكر"([3]).
وفي الصالحية في منطقة الشرقية (شمال شرقي مصر) رأى السلطان تردد وخوف كبار القادة العسكريين، فعزم على مواجهة هؤلاء الأمراء المترددين ليضع حدًا لهذا الخوف الذي قد يأتي بنتائج وخيمة في أرض المعركة؛ فطلب الأمراء وتكلم معهم في الرحيل، فأبوا كلهم عليه وامتنعوا من الرحيل.
فقال لهم "يا أمراء المسلمين لكم زمان تأكلون أموال بيت المال وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجّهٌ فمَن اختار الجهاد يصحبني ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته؛ فإن الله مطّلعٌ عليه وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخِّرين"، فتكلم الأمراء الَّذين تخيّرهم وحلّفهم في موافقته على المسير، فلم يسع البقيَّة إلَّا الموافقة وانفض الجمع، فلمَّا كان في اللَّيل ركب السُّلطان وقال "أنا ألقى التتار بنفسي فلمَّا رأى الأمراء مسير السُّلطان ساروا على كُرْهٍ".([4])
والحق أن خروج المظفر قطز إلى ملاقاة التتار قد سبقه تجهيز استمر عدة أشهر، وقرارات سياسية واستراتيجية اتُّخذت لتأمين الجبهة الداخلية أولاً، ثم لتقوية موقف الجيش المصري أمام المغول، فقد حرص على تأمين الأموال الكافية للإعداد والتموين، والتجهيز العسكري وهو ما تم من خلال سحب كافة سُبل الرفاهية من الأمراء المماليك أولاً امتثالاً لفتوى العلامة العز بن عبد السلام الشهيرة؛ لكنه في المقابل فرض بعض الضـرائب العقارية وأخذ ثلث الزكاة [مقدمًا] ودينارًا على كل إنسان؛ فبلغ ذلك في كل سنة ستمئة ألف دينار مصرية"([5]).
بل إن أسرة ملك الأيوبيين في الشام الناصر الثاني التي جاءت مصر بذهبها ومتاعها هاربة من الغزو المغولي أمر قطز بالاستيلاء عليه؛ نكاية في هروبه وانسحابه أمام المغول، فأخذها قطز من زوجة الناصر وكبار رجاله من الأمراء القيمُرية الذين جاؤوا إلى مصـر([6]).
أما أهم ما قام به السلطان المملوكي فهو فتحه باب التطوع أمام العامة، واستقدام بعض القبائل العربية التي كانت تابعة لديوان الجيش الأيوبي من قبل، والمملوكي الآن بقيادة أمير العرب شرف الدين عيسى بن مهنى بن مانع([7])، فضلًا عن الاستفادة من عناصر الجيش الشامي الذين جاؤوا لاجئين إلى مصر من الأيوبيين بقيادة الملك المنصور ملك حماة، والأمراء الأكراد والقيمرية والتركمان والشهرزورية وهم العناصر ذوو الخبرة في ميدان القتال في الجبهة الشامية([8]).
أعاد قطز فتح صفحة جديدة مع الأمراء المماليك الصالحية البحرية الذين هربوا إلى الشام سابقًا، وبعضهم ممن آثر البقاء ولاه قطز قيادة الجيش المصري مثل الأمير المحنّك أقطاي المستعرب، والأمير الشجاع ركن الدين بيبرس وسيف الدين قلاوون وغيرهم.
أما أهم ما قامت عليه الاستراتيجية المملوكية في الشام فتمثّلت في تحييد القوى الصليبية التي كانت لا تزال تتمركز في منطقة الساحل الشامي من أنطاكية شمالاً إلى صيدا ويافا وعكا وغيرها جنوبًا، فلو تحالف الصليبيون مع المغول في الشام ضد المماليك لخسر المماليك قطعًا لقوة الفريقين وخطرهما، وقد تأكد من ذلك حين توغّل في مناطق النفوذ الصليبي قبل ملاقاة المغول، وقد كان من غباء المغول استيلاؤهم على مدينة صيدا التي كانت تخضع للصليبيين آنذاك الأمر الذي اعتبره الصليبيون خطرًا يتهدد وجودهم، فرأوا أن المماليك أهون من هذا العدو الجديد الذي لا يعرفون نواياه([9]).
في أرض المعركة
لم يترك المماليك الأمر للحظ أو المفاجأة فقد أعدوا خطة عسكرية محكمة بلا شك، وكانت من جملة الأسباب المهمة في النصر؛ فقد تقدم الجيش فرقة استطلاعية بقيادة الأمير ركن الدين بيبرس، كان هدفها الأول إعادة مدينة غزة، ثم تطهير منطقة العمق الفلسطيني من أي وجود مغولي؛ بل إنها توغلت في الشام حتى وصلت إلى البقاع وحمص كنوع من أنواع التمويه واستدراج العدو لمنطقة أخرى غير منطقة المعركة الفاصلة([10])، وقد نجحت بالفعل في هذا وكانت هذه الهزيمة هي الأولى غير أنها لم تكن حاسمة([11]).
أما الجيش المملوكي فقد اتجه من مصر إلى غزة، ثم إلى قرب عكا للتأكد من نوايا الصليبيين، ثم التوجه صوب منطقة مرج ابن عامر في فلسطين، ومنها جنوبًا إلى عين جالوت القريبة من بيسان، وفي تلك المنطقة كانت طلائع القوات المغولية بقيادة نائب هولاكو على الشام القائد العسكري كتبُغا نوين وبمعاونة بعض خونة الأيوبيين مثل الملك السعيد بن عثمان بن العادل ملك الصُّبيبة وبانياس، وأمير حمص قريب الأيوبيين الملك موسى بن إبراهيم بن شيركوه.
وكان على شرذمة المماليك في هذا التكتل، فأرسل قطز رسالة تهديد لأمير حمص الأشرف موسى يوبّخه على ميله للمغول ضد المسلمين ويخوفه عاقبة ذلك، ويغريه برد حمص والرحبة وتدمر إليه إذا ما انسحب عن المغول، وهو ما حدث بالفعل قبل المعركة بتمارضه وفي أثناء المعركة بانسحاب قوات حمص، وهو ما كان له أكبر الأثر في إضعاف الناحية المعنوية لدى المغول([12])، وقد كان للمخابرات المملوكية دورها في معرفة مواضع الضعف والخلل في المعسكر المغولي، ومواضع القوة أيضًا، الأمر الذي ترتب عليه تقوية ميسرة الجيش المملوكي وتدعيمه بالرجّالة والفرسان([13]).
حرص المماليك إزاء معلوماتهم حول المغول على تغليب القوة العددية والتسليحية وإلى التنظيم المحكم؛ فقد قُسّم الجيش إلى مجموعات عسكرية كان عدد جنود كل مجموعة 400 جندي بقيادة أمير من كبار الأمراء المتمرسين، كل فرقة لها زيها وشكلها الخاص، ولعله قُصد من وراء ذلك إشعال روح التنافس بين الأمراء والمجموعات العسكرية وإدخال الرهبة في قلوب العدو([14]).
كما اتخذ المماليك أيضًا عنصر المفاجأة في الهجوم، وفي اتخاذ موضع المعركة في أرض منبسطة محاطة بالتلال والأحراش، فقد قسموا أنفسهم إلى مجموعة تتلاحم مع المغول وأخرى احتياطية تتدخل في مرحلة ضعف المغول.
الأمر الأبرز والأشد أهمية ما رآه المماليك في قيادتهم، ذلك أن قطز وبيبرس وغيرهما أثبتوا شجاعة وقوة وإقدامًا أمام العدو، وهو ما لم يعتد الجند على رؤيته من قبل خاصة أمام المغول بالتحديد، لقد قُتل فرس بيبرس أثناء التلاحم في أرض المعركة، ولم يسعفه أحد المقربين منه بفرس آخر، فما كان منه إلا أن ألقى خوذته وهاجم العدو في حماسة شحذت الهمم.
ورغم أن بعض أمراء المماليك اعتبروا إقدام قطز ضربا من الشطط، لأنه إذا حدث للسلطان مكروه فبهلاكه يهلك الجيش([15])، على أن جل من أرّخوا لهذه المعركة قد كشفوا عن أهمية الدور المحوري والشجاعة التي تمثلت في قطز وأثرها على الروح المعنوية والهجومية للمماليك([16]).
وأمام هذا الإصرار والعزيمة المملوكية بدأ المغول في التقهقر والانسحاب؛ بل كان انسحابهم غير منظّم وطارئ صوب مدينة بيسان على نهر الأردن، الأمر الذي رآه السلطان المملوكي فرصة لا تُعوّض في سحق هؤلاء الفلول، وأمر أهم قادته العسكريين الأمير ركن الدين بيبرس بملاحقتهم والقضاء عليهم حتى قضى عليهم، وقد كان هذا القرار من الأهمية بمكان؛ ذلك أن بيبرس توغل خلف العدو حتى وصل إلى مشارف مدينة حمص، وفوجئ بمدد مغولي كان قادمًا لنجدة المغول في عين جالوت قدره المؤرخون بألفي جندي، فتمكن بيبرس وجنده من هزيمة هذا المدد، وهو ما ساعد على تطهير بلاد الشام فيما بعد بسهولة، فقد قُضي على الوجود المغولي في معركتين فاصلتين، وهو ما يعد ضربًا من ضروب الحزم والقوة العسكرية اللافتة([17]).
ما بعد الانتصار
أثمر الانتصار العسكري في معركة "عين جالوت" ثم معركة حمص الأولى عن:
1-عودة ديار الشام إلى السيادة الإسلامية وكسـر أسطورة المغول في نفوس المسلمين؛ بعد أن يأست بعض القلوب من النصر على التتار لاستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، ولأنهم ما قصدوا إقليمًا إلا فتحوه ولا عسكرًا إلا هزموه"([18]).
2-إقرار شرعية المماليك في الشام فامتد سلطانهم من نهر الفرات شرقًا إلى برقة غربًا، ومن حلب شمالًا إلى تخوم بلاد النوبة جنوبًا، وتحولت الشام إلى ولايات أو نيابات كبرى كلها خاضعة لسلطانهم.
3-انتهاء الدولة الأيوبية وخضوع من تبقى منهم للسيادة المملوكية مثل الملك المنصور في حماة وأبنائه من بعده حتى النصف الأول من القرن الثامن الهجري، والأشرف موسى الذي رجع عن تحالفه مع المغول وأقره المماليك على ولاية حمص.
4-إقرار شرعية المماليك في العالم الإسلامي بل وعظمة مكانتهم في نفوس الملوك قبل الرعية([19])، والتأكيد على دورهم الرائد في الدفاع عن قلب العالم الإسلامي([20])، ومن ثم شرعية تمددهم فيما بعد في الحجاز وبادية الشام، وبلاد النوبة؛ بل وبلاد السودان الجنوبي فضلا عن بلاد برقة حتى تخوم الدولة الحفصية غربا، واعتبارهم منذ تلك اللحظة سلاطين شرعيين للدولة الإسلامية.
5-وقف زحف التمدد المغولي في غرب العالم سواء في شمال أفريقيا والمغرب أو في أوربا، وهذا ما أقرته بعض المصادر الغربية([21]).
6-توطد العلاقات بين المماليك وبين مغول القفجاق المسلمين في شمال بحر قزوين، وتحالف الفريقين ضد عدوهما المشترك المتمثل في أسرة هولاكو بإيران والعراق([22]).
7-أدى فشل انتصار المغول في عين جالوت إلى فشل سياسة الصليبيين في الشـرق الأدنى القاضية بالتحالف مع المغول ضد المسلمين، وإلى تعجيل زوال الإمارات الصليبية في بلاد الشام فيما بعد([23]).
8-استحكام العداء بين المغول الإيلخانيين في فارس والعراق والمماليك حتى بعد أكثر من ستين سنة في عصر الناصر محمد بن قلاوون، ومحاولات المغول المستمرة لاسترداد الشام ووقوع عدة معارك كبرى لاحقة بين الجانبين بسبب هزيمة عين جالوت، مثل معركة حمص الأولى والثانية وشقحب ودمشق وغيرها.
9-دخول سلاجقة الروم في الأناضول في الصراع المملوكي المغولي بانضمامهم للمغول مرغمين، الأمر الذي دفع المماليك لاقتحام بلادهم، والسيطرة على عاصمتهم قيصارية في سنة 675هـ.
لقد كانت معركة "عين جالوت" كسرة قوية للمغول ونصرا ساحقًا للمسلمين، فقد كان المماليك فرسانًا ورماة سهام لا يُشق لهم غبار، وكانوا قادرين على أن يتفوقوا على هجمات سهام المغول من حيث قوة ودقة معدلات الإطلاق"[24].
المصادر
1- الشرطة، وهم حَفَظة الأمن في المدن
2- الهمذاني: جامع التواريخ 2/1/310
3- المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 2/209
4- المقريزي: السابق 1/515
5- ابن أبي الفضائل: النهج السديد والدر الفريد 1/412
6- المقريزي: السابق 1/513
7- النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب 29/302
8- اليونيني: ذيل مرآة الزمان 1/360
9- اليونيني: السابق1/365
10- العبادي: قيام دولة المماليك ص161
11- اليونيني: السابق 2/312
12- هذا ما أكده اليونيني 2/312
13- الدواداري: كنز الدرر 8/53 وما بعدها
14- العبادي: قيام دولة المماليك ص267
15- الدواداري: السابق 8/50
16- ابن العميد: أخبار الأيوبيين ص53
17- العيني: عقد الجمان 1/244
18- تاريخ ابن الوردي 2/201.
19- الخزرجي: العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الخزرجية 1/124
20- قاسم عبده قاسم، وعلي السيد علي: الأيوبيون والمماليك ص140
21- العبادي: السابق ص169
22- طقوش: تاريخ المماليك في مصر والشام ص82
23- طقوش: السابق
24- جيمس واترسون: فرسان الإسلام وحروب المماليك ص117