ولد ابن النفيس في دمشق وترعرع فيها. تربى تربية دينية صالحة وتتلمذ على يد عدد من شيوخ وعلماء دمشق، وتعمق في الفقه الشافعي حتى أصبح أحد حجج زمانه في هذا المجال.
درس الطب في مستشفى في دمشق يدعى البيمارستان النوري. وكلمة بيمارستان هي كلمة فارسية تعني "محل أو مكان المريض"، وقد أنشئ أول بيمارستان في عهد الدولة الإسلامية في دمشق في زمن الدولة الأموية على يد الخليفة الوليد بن عبد الملك.
ويعود الفضل للأطباء المسلمين بصفة عامة إلى استحداث التفرقة بين المستشفى المخصص لعلاج المرضى ودور العجزة والمصحات العقلية، والتي كان يتم الخلط فيما بينها بشكل عام.
تتلمذ ابن النفيس على الطبيب الدمشقي العلامة ابن الدخوار، ثم أخذ على عاتقه بعد ذلك التعمق بالدراسة والتجربة حتى أصبح طبيبا ماهرا له منهجه العلمي في العلاج والتشريح. وكان يتبع مذهب الطبيب العربي الحارث بن كلدة الثقفي الذي عاصر الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم في تجنب الدواء قدر المستطاع وعدم تناوله إلا عند الحاجة الفعلية، وألا يتم اللجوء إلى خلط دواء مكون من عدة عناصر إلا عند الضرورة القصوى.
وخلال دراسته ومراجعته للمصادر الطبية التي كتبها من سبقه من الأطباء بدأ يتنبه إلى بعض المفاهيم الطبية الخاطئة، فعمد إلى تصحيحها، وكان له الفضل بذلك في اكتشاف الدورة الدموية الصغرى عندما صحح ما جاء به الطبيب الروماني من أصل إغريقي غالينوس، الذي كان يعتقد بأن الدم يتولد في الكبد ويندفع بعد ذلك إلى القلب الذي يضخه بدوره إلى الشرايين وأنحاء الجسم.
أثبت ابن النفيس أن الدم يخرج من القلب إلى الرئتين حيث ينقى بالأوكسجين ومن ثم يعود إلى القلب مرة أخرى ليضخ إلى أنحاء الجسم، وهو ما يعرف بالدورة الصغرى. كما أثبت أن الجدار الفاصل بين تجويفي القلب المعروفين باسم البطين الأيسر والبطين الأيمن هو جدار صلد لا يحتوي على مسامات كما كان يعتقد سابقا.
وقد جاء اكتشافه ذلك قبل ثلاثة قرون من اكتشاف الإيطالي ريالدو كولومبو والإسباني ميغيل سيرفيتو للدورة الدموية الصغرى، حيث كان الأوروبيون يجهلون اكتشاف ابن النفيس لعدم ترجمة كتبه، رغم أنها نقلت -مثلها مثل باقي التراث العربي والإسلامي- إلى متاحف أوروبا بدون وجه حق.
إلا أن طالبا مصريا اسمه محيي الدين التطاوي عثر خلال بحثه في مكتبة برلين بألمانيا على مخطوطة ابن النفيس التي يوثق فيها اكتشافه، وكان ذلك عام 1342 للهجرة (1924 للميلاد) وضمن تلك المعلومات في رسالته لنيل الدكتوراه في تاريخ الطب العربي.
فوجئ أساتذة التطاوي بالمعلومات الواردة في أطروحته، وبالطبع فقد وضع التطاوي صورة مصدر معلوماته، فأراد المشرفون على أطروحته التأكد من المعلومة فأرسلوا النسخة إلى الطبيب والمستشرق الألماني ماكس ميرهوف الذي كان يقيم في القاهرة ويتقن اللغة العربية، فأيد ما جاء به التطاوي وتم توثيق فضل ابن النفيس لأول مرة على مستوى العالم.
سارع الألمان بعد ذلك إلى توصيل المعلومة إلى المؤرخ الأميركي من أصل بلجيكي جورج سارتون، الذي كان كيميائيا وصيدليا وقام بتوثيق التاريخ العلمي الإنساني بكتابه الشهير "تاريخ العلوم".
ضمّن سارتون اكتشاف ابن النفيس في الفصل الخامس من كتابه، وكان سارتون مؤرخا ذا شأن، ودرس الحضارة العربية والإسلامية بشغف، وألقى محاضرات كثيرة حول فضل العرب والمسلمين على تطور العلوم الإنسانية، ومن أقواله في الرسول محمد صلى الله عليه وسلم "صدع الرسول [صلى الله عليه وسلم] بالدعوة نحو عام 610م وعمره يوم ذاك أربعون سنة، وكان مثل إخوانه الأنبياء السابقين [عليهم السلام] ولكن كان أفضل منهم بما لا نسبة فيه.. وكان زاهدًا وفقيهًا ومشرعًا ورجلاً عمليًا... إنه لم يتح لنبي من قبل.. أن ينتصر انتصارًا تامًا كانتصار محمد [صلى الله عليه وسلم]".
عاصر ابن النفيس هجوم المغول على الدولة الإسلامية واحتلالهم بغداد ومكتباتها، وطال ذلك التدمير بعض مؤلفاته التي ضاعت مع ما ضاع في تلك الكارثة التي حلت بالدولة الإسلامية.
كان اجتياح المغول للمنطقة ناقوس خطر للمسلمين عامة والعلماء خاصة، ومن جهة أخرى كان غرب الدولة الإسلامية مشتعلا بالحروب في الأندلس حيث شنت الممالك الأوروبية حروب ما يسمى بالاسترداد (لاكونكويستا)، فصارت القاهرة في تلك الفترة البقعة الوحيدة التي تتمتع بالهدوء النسبي خاصة بعد فشل المغول في دخولها، فانتقل إليها علماء مسلمون من كافة التخصصات، وكان ابن النفيس أحدهم.
أرسل الظاهر بيبرس - سلطان مصر والشام ورابع سلاطين المماليك- إلى ابن النفيس وطلب منه أن يصبح طبيبه الخاص، وهكذا كان لمدة 22 عاما حتى وفاة بيبرس عام (1277) للهجرة. تولى بعد ذلك المنصور قلاوون حكم مصر وأنشأ هذا السلطان مستشفى ضخما في القاهرة سمي "البيمارستان المنصوري" وعيّن ابن النفيس رئيسا لأطباء المستشفى.
تفشى داء مميت في القاهرة عام 671 للهجرة (1271 للميلاد)، أهلك أعدادا كبيرة من السكان، واستطاع ابن النفيس بعد شهور من العمل المضني السيطرة على المرض، فأكرمه السلطان بمبلغ كبير من المال استثمره الطبيب الماهر في شراء منزل فسيح وصار له مجلس علمي وأدبي وديني يتردد عليه علماء ومشايخ القاهرة الذين وصفوا ابن النفيس بأنه "كريم النفس، حسن الخلق، صريح الرأي، متدين على المذهب الشافعي".
قضى ابن النفيس باقي عمره في القاهرة ولم يعد إلى مسقط رأسه دمشق، وتوفي بالقاهرة عام 687 للهجرة (1288 للميلاد).