في مشهد يختصر كل ما وصلت إليه منظومة التعليم في مصر من تدهور وعشوائية، انهارت منصة امتحان البرمجة والذكاء الاصطناعي لطلاب الصف الأول الثانوي اليوم الثلاثاء 30 ديسمبر 2025، تاركة آلاف الطلاب في حالة من الذعر والانهيار العصبي داخل الفصول الدراسية. الوزارة التي تتشدق بـ"التطوير" و"التحول الرقمي" و"التعاون الدولي مع اليابان"، عجزت عن توفير منصة إلكترونية تعمل بشكل صحيح، في فشل تقني وإداري يكشف حجم الكارثة التي تديرها عقلية لا تفقه شيئاً في التخطيط ولا تحمل أدنى قدر من المسؤولية تجاه مستقبل أبناء الشعب.

 

استغاثات أولياء الأمور عبر جروب "حوار مجتمعي تربوي" تكشف صورة مرعبة: طلاب لا يستطيعون فتح المنصة أصلاً، وآخرون فُتحت لهم الأسئلة باللغة اليابانية، وثالثون تلقوا رسائل خطأ "Error"، ورابعون دخلوا الامتحان ثم أُخرجوا منه قسراً، وخامسون سُجلوا على أنهم دخلوا دون أن يحلوا شيئاً. فوضى عارمة تديرها وزارة فاشلة تحوّل كل مشروع تطوير مزعوم إلى كابوس يعيشه الطلاب وأسرهم.

 

عطل عام ومسؤولية غائبة

 

من الساعة التاسعة صباحاً حتى نهاية الوقت المحدد للامتحان، ظل آلاف الطلاب في ثماني محافظات (القاهرة، كفر الشيخ، دمياط، الوادي الجديد، مطروح، شمال سيناء، جنوب سيناء، الإسكندرية) محتجزين داخل اللجان الامتحانية، لا يعرفون ماذا يفعلون، في انتظار حل لأزمة كان يجب ألا تحدث من الأساس.

 

ولاء حسين، إحدى أولياء الأمور، لخصت الكارثة بقولها: "الامتحان مش بيفتح مع معظم الطلبة، وبعض الطلبة فتح لهم لكن باللغة اليابانية، وطلبة تانية بيديهم Error، والمدرسين بيقولوا ده عطل عام.. إيه ذنب الطلبة؟". سؤال بسيط يلخص الجريمة: ما ذنب هؤلاء الطلاب في فشل وزارة لا تحسن التخطيط ولا التنفيذ ولا المتابعة؟

 

سماح حافظ تصف المأساة: "الولاد في الفصول مش عارفين يعملوا إيه ومتوترين، فيه اللي بيدخل بياناته مش بتتسجل، وفيه اللي دخل ومش بياخد درجة، وفيه اللي المنصة بتخرجه أصلاً من الامتحان.. ولادنا منهارين في المدارس". انهيار نفسي جماعي لآلاف الطلاب، بسبب عجز وزارة عن إدارة امتحان إلكتروني بسيط.

 

رانيا مصطفى تؤكد: "المنصة مفتحتش، وفيه ولاد المنصة فتحت معاهم وقفلت على طول وسجلت أنهم دخلوا ومحلوش حاجة". أما مروة فايز فتكشف عن مهزلة أخرى: "احنا فتحنا لكن مش عارفين ندخل إجابات أصلاً.. أرقام بس ومفيش إجابات نختار منها، ومعظم الأسئلة بالياباني". كيف يُعقل أن تكون الأسئلة باللغة اليابانية في امتحان مصري لطلاب مصريين؟ هل هذا تطوير أم سخرية؟

 

شعارات براقة وواقع كارثي

 

الوزارة التي تتباهى بـ"التعاون مع اليابان" و"إدخال البرمجة والذكاء الاصطناعي" و"تطوير المناهج" لم تكلف نفسها عناء تجربة المنصة قبل يوم الامتحان. لم تختبر قدرتها الاستيعابية، ولم تتأكد من جاهزيتها التقنية، ولم تضع خطة بديلة في حال حدوث أي عطل. المسؤولون الذين يصدرون التعليمات من مكاتبهم المكيفة لا يهمهم ما يحدث على أرض الواقع، طالما أن البيانات الرسمية تقول إن "التطوير يسير بنجاح".

 

محمد أشرف خليل يطرح السؤال الجوهري: "من الساعة التاسعة لحد نهاية الوقت الامتحان ما فتحش.. لابد من حل المشكلات التقنية قبل ما يفكروا يمتحنوا الطلبة". لكن الوزارة لا تفكر بهذا المنطق، فالأهم عندها الإعلان عن "إنجازات" وهمية وتصدير صورة براقة للإعلام، بينما الواقع يكذب كل هذه الادعاءات.

 

الوزارة التي لم تستطع توفير التابلت لجميع المحافظات، والتي تطلب من المديريات "توفير الأجهزة اللازمة" دون أن تحدد كيف أو من أين، هي ذاتها التي تريد إقناعنا بأنها قادرة على إدارة منظومة تعليمية رقمية. هي الوزارة التي تضع شروطاً وضوابط على الورق (عدم تجاوز 15 طالباً في اللجنة، الامتحان من 9 صباحاً حتى 5 مساءً، إلخ)، ثم تفشل في توفير أبسط المتطلبات لتطبيق هذه الشروط.

 

من يحاسب المسؤولين عن هذه الفوضى؟

 

السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: من سيحاسب المسؤولين عن هذا الفشل الذريع؟ من سيعوض الطلاب عن الساعات التي قضوها في توتر وقلق داخل اللجان؟ من سيعالج الآثار النفسية للطلاب الذين انهاروا تحت وطأة الضغط؟ من سيسأل عن سبب ظهور الأسئلة باللغة اليابانية أو عدم تسجيل الإجابات؟

 

الإجابة المرة: لا أحد. في منظومة لا تعرف المحاسبة ولا المساءلة، يتكرر الفشل دون أن يتحمل أحد مسؤولية نتائجه. المسؤولون يصدرون بيانات تبريرية باهتة، ويتحدثون عن "إجراءات لتلافي تكرار المشكلة"، ثم تتكرر المشكلة في الامتحان التالي وكأن شيئاً لم يكن.

 

الطلاب وأولياء الأمور يدفعون ثمن عجز وزارة تحول التعليم إلى تجارب عشوائية، وتستخدم أبناءنا فئران تجارب لمشاريع لم تُدرس جيداً ولم تُختبر بشكل صحيح قبل تطبيقها. المنصة التي انهارت اليوم ليست إلا نموذجاً مصغراً لمنظومة تعليمية منهارة بأكملها، منظومة تعتمد على الشعارات والبيانات المزيفة بينما الواقع يصرخ بالفشل.

 

ما حدث اليوم ليس "عطلاً تقنياً" عابراً، بل فضيحة إدارية تكشف عن غياب التخطيط والكفاءة والمسؤولية. وزارة تريد أن تقفز إلى "التحول الرقمي" والذكاء الاصطناعي دون أن تمتلك القدرة على إدارة امتحان إلكتروني بسيط. وزارة تستورد "نماذج يابانية" دون أن تكلف نفسها عناء تطويعها للواقع المصري أو التأكد من جاهزيتها. وزارة تصنع الأزمات ثم تتركنا نواجه عواقبها.


الطلاب يستحقون أفضل من هذا. يستحقون وزارة تحترم عقولهم ومستقبلهم، لا وزارة تحولهم إلى ضحايا لتجارب فاشلة وقرارات متسرعة.